بعيد انقلاب معمر القذافي على إدريس الرابع آخر ملوك ليبيا في أواخر ستينيات القرن العشرين خاطبه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بعبارته المشهورة تلك التي لا تعدو كونها مجاملة سياسية تفرضها الأعراف والنظم الديبلوماسية “إنني أرى فيك شبابي” ولعل صدور مثل تلك العبارة من شخصية مثل جمال عبد الناصر في تلك الحقبة من تاريخ الأمة العربية ترك لدى الرجل ما ترك من انطباع عن نفسه ، إلا أنه كان – فيما بعد – القشة التي قصمت ظهر البعير .
منذو ذلك الحين بدأت عقد التعالي والنرجسية وعبادة الذات والتطاول على الآخرين تسيطر على أفعال وأقوال وحركات وسكنات القذافي …وبدأ الغرور يتسلل إلى أعماقه … وصار الغموض والغرابة يكتنفان حياته ويلفان جميع جوانبها ، ولا أدل على ذلك مما وصفه به محمد بوذينه في كتابه “مشاهير القرن العشرين” حين يقول : “… وهكذا يعتبر القذافي أغرب شخصية سياسية في القرن العشرين” فما بالك -عزيزي القارئ – بالقرن الواحد والعشرين ؟؟؟
عاش القذافي أربعين سنة – وتزيد – في سدة الحكم ، فتارة الزعيم الإشتراكي .. وتارة قائد الثورة .. ومرة جمال عبد الناصر المغرب العربي .. وتارة أخرى رئيس الولايات المتحدة الإفريقية .. ليصبح أخيرا نيرون ليبيا والعالم العربي أجمع ، ويحول ليبيا إلى شلال من الدم والدموع ، وتصبح في أيامه الأخيرة لوحة قانية رسمت بدماء أحفاد عمر المختار الطاهرة الزكية .
منذو اندلاع الشرارة الأولى للثورة في ليبيا بدأ القذافي الأب والابن يصبان جام غضبهما على المتظاهرين ، ويطلقان أحكامهما القاسية عليهم ويصفانهم بتعاطي حبوب الهلوسة ، بل ذهبا أبعد من ذلك حين اعتبرا أن المتظاهرين جرذان يجب القضاء عليهم ، وبدأا يلوحان بالقوة عبر أحاديث مطولة في وسائل الإعلام الليبية الرسمية ، وفعلا فقد استأجرا ميليشيات ومرتزقة صمما من خلالها آخر صيحات وماركات جرائم الحرب ، وأرقى موضات الإبادة الجماعية ، وذلك ما عجز عنه الكيان الصهيوني وأسلحته الفتاكة .
القذافي الابن أحد فاشلي ليبيا تقول بعض الأوساط الإعلامية إنه حصل على الدكتوراه من إحدى جامعات لندن مقابل رشاوى منحها إياها وهو – لعمري – عطاء من لا يملك لمن لا يستحق ، ومهما كانت درجة تحصيله العلمي المعرفي فهو جلف جاف لا يرى ما وراء الأنف .
ومقارنة مع الجارتين تونس الخضراء ومصر المحروسة فقد بلغ عدد ضحايا ثورة تونس 219 شهيدا طيلة خمسة أسابيع ، في الوقت الذي بلغ فيه عدد ضحايا الثورة المصرية 385 شهيدا خلال ثلاثة أسابيع ، بينما بلغ عدد ضحايا ثورة ليبيا 3010 شهداء في أسبوعها الأول !!!! وأية مفارقة هذه ؟؟؟
لم يقبل الأشقاء الليبيون دعوات القذافيين للحوار ولم يخدعوا بسياسة ذر الرماد في العيون ولم يحفلوا بالتهديد ولا بالوعيد لأن هدفهم أسمى وأنبل من أن يركنوا إلى الذين ظلموا (…) بل واصلوا ثورتهم الميمونة ولسان حالهم ينشد مثل كل الثوار الأحرار في عالمنا العربي الأبي :
أنا يا أخي سأظل مثلك صامدا = أنا لن ألين لمن طغى وتجبرا
إن يقهروا جسدي فإن إرادتي = أقوى من الليل المخيم في الذرى
سيقول لي الجلاد إنك مجرم = ويذيع في كل المخافر محضرا
وسيشرب العملاء نخب شهادتي = في قصره وكأنه ملك الورى
لكنني أدري بأن قضيتي = ستظل للأجيال دربا نيرا
هكذا أصبح معمر القذافي بين فكي الكماشة ، فلا الجماهير الليبية الثائرة تقبل ببقائه في ليبيا ، ولا المجتمع الدولي يقبل به لاجئا سياسيا ، خصوصا بعد إجماع مجلس الأمن الدولي على فرض عقوبات عليه هو وبعض أبنائه ومقربيه ، وإحالة ملفه إلى محكمة العدل الدولية ، وأحاديث هنا وهناك عن تدخلات عسكرية أجنبية مرتقبة في ليبيا .
الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج سئمت الوعود العرقوبية ، وبروق الإصلاح الخلب ، وسحب التغيير التى لا تعدو كونها سحب صيف عما قريب ستنقشع ، وباتت تبحث عن التغيير ولن تسمح لأي كائن مهما كان أن يقف حجر عثرة في طريقها ولا أن يفشل ثورتها ونضالها السلميين المشروعين المولودين من رحم المعاناة ومن أعماق المأساة .
فأوان الإصلاح قد فات ، وعقد الخوف قد حلت ، وجدران وحواجز الصمت والخنوع والركوع قد كسرت وبددت شظاياها ، ولن تجدي الخطب ولا التصريحات ولا المؤتمرات الصحفية ولا إقالة وزير أو اثنين أو ثلاثة ولا حتى حكومة بكاملها في إسكات الثائرين ولا في إخماد جذوة الحماس المشتعلة في نفوسهم ، ذلك أن الضغط قد ولد الإنفجار وتلك مسألة معروفة ومألوفة ونتيجة حتمية منطقية ومنتظرة ، وعلى الحاكم العربي أن يستوعبها ويتقبلها برحابة صدر ورباطة جأش ، وأن يتعامل معها بحكمة وحنكة وألا يتسبب في إراقة دماء المدنيين الأبرياء العزل ، وأن يتنحى عن السلطة .. أو يستقيل منها .. أو يغادرها .. أو .. أو .. إذا بدأت يد الثورة تطاله لأن الأيام قد تكون تخبئ له ما لا تحمد عقباه ، وفي مأثورنا الشعبي “الأجواد عند وداعها” .