لقد أبنت في مقال سابق ضرورة -بل وجوب- الفصل الحاد بين مصطلحي الثورة والفتنة ..حيث الثورة صوت الشعوب المغلوبة على أمرها منذ عقود ..والمساقة كأرخص الدواب من قبل قلة من المتحكمين والمتنفذين المقربين منهم والمستأثرين بثورات البلاد ورقاب العباد ..وقد حققت نتائج ملموسة بأقل الخسائر وبطرق مشروعة شرعا وقانونا في إزاحة بعض الطواغيت وارتجاج عروش البعض على أن تتهاوى على أعجاز ذويها قريبا بإذن الله.
أما “الفتنة” فلا تعدو أن تكون متكأ فقهيا رجراجا يتأبطه الحكام –بعد ما أدركوا مدى ارتباط الأمة بتعاليم دينها-لإلجام الأمة عن المطالبة بحقوقها المشروعة وقد اجتث خطباؤها ومفتوها أدلتها الأصولية والفروعية من سياقاتها وتحولت إلى شعار لحماية الفراعنة والنماردة ومجنا يعصمهم من سماع صوت الشعوب التي لا تنشد سوى كرامتها وحريتها وحقوقها التي سكتت على سلبها عقودا عدة.ثم شاء الله أن تصحو ويصحو خيرة وبررة أبنائها وبناتها لإزاحة هذه الديكتاتوريات الظالمة.علما أن هذه الأنظمة كما غرقت في “الفتنة” فخطباؤها غارقون في الفتنة .والسكوت عن الحق حقبا طويلة ..تضام الأمة وتهان شعائرها ..وتندس حرماتها.وتسلب كرامتها .ويذبح ويعذب ويسجن خيرة أبنائها وبناتها ويشردون ويلاقي المواطنون أشد أنواع “الفتنة ” الرسمية المنظمة.. ومع ذلك يتلهى هؤلاء الخطباء بالحديث عن وجوب طاعة ولي الأمر ومبايعته مدى الحياة في المنشط والمكره ولو أمر بمعصية الخالق..كل ذلك خوفا من “الفتنة”…رمتني بدائها وانسلت….. فسيف الحجاج إذن قد وجد فتاوى معلبة من حجاج من نوع آخر.
لقد شمر خطباء الأنظمة المتهاوية ومفتوها عن سواعدهم تحريما لهذه الثورات المباركة التي آتت أكلها بشكل ملموس بدعوى حرمة “الخروج” على الإمام حتى ولو “جلد ظهرك وأخذ مالك” علما أن هذا من أبسط ما يقوم هؤلاء الحكام اليوم،وعلما أن الحديث لا يوحي لا تصريحا ولا تلميحاولا منطوقا ولا مفهوما بأن تفديه بروحك ودمك وأن توجب بيعته وطاعته حتى في المعصية ..ولا أن تعتبره إماما عادلا. وأن تعادي من يريد تصحيح أخطائه وإنقاذ” ظهرك ومالك “كما جرموا من ناصروا هذه الثورات وعزروها مستندهم أن الخروج على الحاكم –مهما طغى وبغى – لا يجوز حذار “الفتنة- الكلمة السر-ثم لا يألون جهدا في توظيف نصوص عامة واجتهادات خاصة وسياقات تاريخية غير موفقة أحيانا متجاهلين نصوصا صحيحة وصريحة في وجوب العدل والإحسان وإعطاء كل ذي حق حقه وتحريم البغي والظلم ووجوب نصرة المظلوم بل والظالم بالأخذ على يديه فضلا عن أن الله كرم بني آدم فلا يمكن أن يشرع إهانة هذه الكرامة تحت أي غطاء .. وكلمة السر الحقيقة التي على هؤلاء أن يلتفوا حوله هي :إنا جعلناك خلفية في الأرض فاحكم بين الناس بالحق”.وأن يتذكروا أن “من طلب الحق فأخطأه خير من من طلب الباطل فأصابه”
..ف”خطيب القذافي” يتناسى أربعين سنة من الاضطهاد الفكري والسياسي والاجتماعي الذي عاشه المجتمع الليبي يجب فيه الإيمان بما ورد في الكتاب الأخضر الذي يصاحب المرء من المهد إلى اللحد فضلا عن اختصار ليبيا كلها بعلمائها ومفكريها وحفظتها وبسطائها في “شخص “الزعيم الملهم” الذي يأتي بعد “الله جل جلاله في الترتيب وقبل الوطن ..ويتجاهل أنه ليس سوى “متغلب” يجب التخلص منه في أي لحظة بما يناسب إذ أنه ليس مبايعا برضى أو إجماع الأمة ولذلك كما قال البعض في فهم فريد إنه من “الفقه الضروري”- الذي يزول بزوال موجبه ولا يكمن أن يشكل قاعدة راسخة ..ثم يرتل دفاعا عن القذافي ما تيسر من الآيات والأحاديث المحذرة من القتل والتدمير والتخريب وكأنما في أذنيه وقر وفي عينيه صمم عن ما ارتكبه القذافي ومرتزقته من جرائم وحشية ضد بني وطنه الذين يفترض أن يكون درعهم الحصين وراعيهم الأمين .”كان الله في عون الليبيين على مطرقة القذافي وسندان “خطيبه”
ولا يجد خطيب “الفتنة” في اليمن حرجا أن يعلن أنه لا يجور الخروج على القائد والزعيم الخالد علي عبد الله صالح ثم يثني بالقول “في أعناقنا بيعة له حتى نلقى الله” وهذا بالتأكيد لا يمكن استساغته مطلقا سيما في دولة تدعي الديمقراطية يمكن أن يتغير الرئيس فيها في أي مرحلة فضلا عمن ما قد يطرأ عليه مما يبيح خلعه عندنا وعندكم .اللهم إن أن يكون معصوما !
.ويستشهد بالقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم” ..والجلي أنه إيراد للحديث في غير سياقه من باب تحقيق المناط على ما يحدث الآن . فأمر اليمن ليس على رجل واحد بدليل هذه الملايين التي لم يقدها شخص محدد فضلا عن كونها استخدمت طرقا مقبولة دستوريا وقانونيا بالاعتصام السلمي والعصيان المدني دون أن تتعرض لأي مؤسسة عامة أو خاصة بالتخريب أو الإفساد..فقد حز المفتي في غير مفصل.لكن بيعة “الخطيب” الأزلية حجبت عنه هذه الحقائق الواقعية والشرعية .
أما مفتي سوريا فقد اضطر مذيع الجزيرة”ناصر عبد الصمد” أن يحقول تعجبا من دفاعه الباهت عن نظام الأسد الوريث غير الشرعي لأبيه الطاغية والمتحكم في حرية الناس فلا يمكن اعتناق ما يريدون من فكر مقبول ومشاع غير فكر”البعث” ولا يكمن أن لأي مواطن التذمر من أي سلوك أو معاملة أمنية فجة يومية أو اغتصاب للحقوق تحت قانون الطوارئ.والشيخ شاهد على ذلك وكأنه ليس من مهمته سوى الدفاع عن “الأسد” وليغتصب بعد ذلك الأسد ما شاء من الحقوق.. لم يتذمر الشيخ علنا مما يجري في سوريا وما راح من ضحايا جراء إطلاق النار على متظاهرين عزل طلبوا بإصلاحات اعترفوا هم أنها مشروعة فضلا عن خبايا من الجوريعرفها بحكم منصبه ومسؤوليته ..أما الدرع الوحيد الذي وضعه مجنة لدفاعه فهو الخوف من”الفتنة” والمؤامرة الخارجية وهو ما حذا بالمذيعة أن تذكره بوظيفته الإفتائية الشرعية .بعدما غاب في دهاليز اللغة الأمنية والمخابراتية الدعائية…. وحتى نصرة النظام السوري للمقاومة-على أهميته- لا ينبغي أن يكون على حساب كرامة وحقوق مواطنيه..هذا لا يستسيغه عاقل أو مفت أو جاهل..حتى …. لقد أخطأت الحفرة أيها المفتي الفاضل.
أما هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية فقد تطابق بيانها مع بيان وزارة الداخلية حرفا بحرف وفاصلة بفاصلة مع فارق التوقيع ليس إلا…وربما هذه الأمر هو الذي حدا بالملك عبدالله أن يخص هذين القطاعين بالتمجيد والثناء وأن يغدق عليهم من أموال الله ما لذ وطاب ..وليس لنا إلا أن نقول لهم ….كلوا واشربوا وتمتعوا قليلا…
وقس على ذلك باقي خطباء “الفتنة” في ربوع وطننا العربي الذي يغلي حرية وكرامة هذه الأيام .
إن هؤلاء جميعا عزفوا على كلمة “الفتنة” دفاعا عن الظلمة والديكتاتورين باسم الشريعة السمحاء التي جاءت لإنقاذ العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.. وما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة الدولة لحفظ مصالح الأمة إلا لأن هذا هو المقصد الأساسي من التشريع ..وما حرص الصحابة رضوان الله عليهم –كذلك -على المسارعة في نصب الخليفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا حرصا على من يقوم بأمر الشرع ويحفظ للناس حقوقهم وسياسة دنياهم ودنياهم. ..ولو كان الأمر مجرد نصب خليفة ليحكم الناس بالظلم ويمتهن قتلهم وسلب حقوقهم لما هرعوا إلى السقيفة وترشيح أبي بكر رضي الله عنه وانتخابه من الغد في بيعة عامة .رضي الله عنهم أجمعين.
إن الأمر انحرف عن مسار :العدل” بعد أن ازورت الأنظمة بعد الخلافة الراشدة عن السنن السليم فكانت “كراسيهم” هي صمام الأمان يوهمون الناس أن بقاءهم بقاء للأمن والأمان وذهابهم ذهاب للدولة ..وهو تماه بين” الدولة والخليفة” استفادوا منه كثيرا وقد استطاعوا تكوين مدرسة فقهية تجعل وجودهم ضروريا والخروج عليهم “فتنة” لكن مع ذلك خرج عشرات الصحابة والتابعين والسلف ..ولو كان الأمر بهذه المنطق لقلنا إن ثبات سعيد بن جبير على الحق وهو يرى النطع والسيف “فتنة” لأنها ستزهق روح هذا التابعي الجليل في كلمة لن تجد طريقها للواقع ..لكن سعيد بن جبير وأنظاره عبر التاريخ الإسلامي من المجاهرين برفض الطغيان والفرعنة تبين لهم الحق” فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا”..وقدموا نماذج راقية من الجهاد والوقوف أمام سلاطين الجور ..وليس أبناء هذه الثورات وقائدها الشيخ المجاهد القرضاوي حفظه الله إلا امتدادا لذلك مع ما من الله به من الوسائل والآليات السياسية والإعلامية التي لم تكن متاحة في تاريخ الأمة.ولو أدركها بعض من يتحصن هؤلاء بفتاواهم لغيروا رؤيتهم وفهمهم ..وبالتالي غيروا فتاواهم ..فلا وجود للسيف في أيدي الثوار ..وبالتالي فلا خروج شرعا ..وبالاتكاء على قاعدة ارتكاب أخف الضررين فوجود هؤلاء الحكام واستمرار حكمهم أشد ضررا من الثورات الشعبية عليهم بطرق أثبتت جدوائيتها وصلاحيتها ومنطقيتها وشرعيتها..صحيح أن طلب الحق لابد له من ثمن باهظ ..وهو ما يبرر تضحية عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسد الإسلام وسيد الشهداء رضي الله بدمه ..فما أعظمها من تضحيته تساوي كثيرا مما يعتبروه هؤلاء خسارة وفتنة ..فاعتبروا يا أولي الأبصار..
..ويقني أن الله قد عصم الأمة أيام هذه “الفتنة” بالشيخ يوسف القرضاوي كما عصم الأمة بالإمام أحمد ابن حنبل في “فتنة” خلق القرآن .. لذلك صب خطباء “الفتنة” جام غضبهم.على هذا الشيخ .بدل أن تتمعر وجوههم ويغضبوا لما يشاهدونه ويوقعون عليه-ربما- من سلب الحقوق وضرب الدين ومفاهيمه بشتى الوسائل والطرق.فلم “يكرهوا” فيبرءوا ولم “ينكروا” فيسلموا” ما ينكرونه من أمرائهم وما أكثره..كما طولبوا بذلك في الحديث الصحيح لكن “رضوا وتابعوا” فكانوا نصيرا لشرار الأئمة الذين “تبغضونهم ويبغضونكم ..وتكرهونهم ويكرهونكم وتلعنونهم و يلعنونكم” ويعلم الله أن خطباء “الفتنة ” يدركون أن هذه الأمة تبغض حكامها الجائرين هتفت أو لم تهتف ..وهم يبغضونها فيسومونها سوء العذاب ..وتكرههم رغم طول بقائهم على كراسيهم .ويكرهونها كما يتبدى من أفعالهم وأقوالهم فهذه الأمة بالنسبة لهم مجموعة من “الجذران “والكلاب الضالة” و”الخونة” والخارجين على القانون” أما تبادل اللعن فحدث ولا حرج فكيف تستقيم بعد ذلك بيعة شرعية ؟.أو يكون البحث عن التخلص منهم”فتنة”؟
-.وعلى افتراض أنهم كانوا صادقين في الخوف من “الفتنة” فقد أوضحت ثورتا تونس ومصر أن الأمر نقيض ذلك وأن الله رفع بتين الثورتين من المظالم و”الفتن” ما لا يعلمه إلا الله.. والمفارقة أن خطباء “ا لفتنة” يباركون نتائج هذه الفتنة ويثمنون ما تقوم به سلاطينهم تحت وطأة الثورة ولم يعتبروا تلك المنجزات التي أراد بها الحكام تثبيت كراسيهم جزءا من الفتنة ..وهو منطق متناقض إذ كيف تنتج الفتنة “منجزات عظيمة” كما صرحوا هم بذلك.؟
.حقا…. إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
أحمد أبو المعالي
كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالإمارات
Ahmad_aboualmaaly@hotmail.com