ولد أهلُ

  • لم تشرق الشمس ـ قط ـ في سماء حياة جدي العتيقين كما أشرقت اليوم ، حين استيقظا من نومها صباحا ليجداني ـ بعد طول فراق ـ قائما بين تظهرانهم . وبالنسبة لي فلقد كان ألأمر شبيها إلى حد ما باللحظة الفارقة بين نشوة الحياة وغمرة الموت. فأدنى منازل العيش إلى العدم الغربة كما عشتها، وقمة الإحساس بالحياة لحظة لقاء الأحبة بعد طول فراق.
  • كنت صغيرا ومتهورا لكي أدرك معنى أن يتغرب المرء ، وذالك ما يفسر جزئيا البساطة التي اتخذت بتا قرار الهجرة وترك الأهل والوطن. والواقع أن مرارة الحاضر وصعوبته وانسداد آفاق المستقبل وقتام دفعا بي فيما يشبه الإكراه في ذالك الاتجاه دفعا . فبعد حصولي على شهادة “المتريز” حاولت أن أجد عملا ما ، وحين يئست واستولى علي الإحباط ، قررت الرحيل الى ساحل العاج في صمت وبهدوء .
  • تلك لعمري جراح في القلب والروح أمسى مجرد التفكير فيها ينكؤها ، وفصول من حياتي أخشى على فرحتي بالعودة الحديث عنها ، إذ لها في عيني لون الظلمة ولها في نفسي طعم المأساة .
  • كان الليل مظلما والجو عاصفا وممطرا عندما توقفت السيارة التي كانت تقلني ، ومع أنه قد مر زمن طويل منذ أن رأيت هذه المنطقة لآخر مرة ، فقد حدست ـ حين طلب مني السائق النزول بأنني لم أصل بعد الى الوجهة التي أقصدها . فقلت فيما يشبه الاحتجاج :
  • ـ أظن أننا لم نصل بعد الى القرية ؟ فقال الرجل في برود
  • ـ كيف عرفت ذالك ؟
  • ـ ثمة أمارات عديدة لا أجدها هنا.
  • ـ شيء طبيعي جدا وسط كل هذا الظلام.
  • ـ إحساسي يقول لي بأنها مازالت بعيدة ؟
  • ـ ليس تماما ، إنها على بعد أربع أو خمسة كلمترات فقط .
  • ـ لكنها لا تبعد عن الطريق كل هذه المسافة كما قيل لي.
  • ـ لا يمكنني الاقتراب منها أكثر من هذا، فالطريق موحل وحمولة السيارة زائدة.
  • ـ ولماذا تقول لي ذالك الآن ؟ لقد دفعت لك أكثر من الآخرين ، وتعهدت بأن توصلني إلى ” “اكرج” القرية .
  • ـ وهذا ما فعلته فأ”كراج” على بعد خطوات منك .
  • ـ لكنك تقول عدة كلمترات ؟
  • ـ أقصد القرية ، وليس “اكراج”
  • ـ لكن “اكراج” لا يبعد عن القرية سوى كلمتر واحد. كما أخبرتني.
  • ـ كان الطريق سالكا عندما مررت من هنا أول أمس، أما الآن فقد اختلف الوضع.
  • ـ إنك تريد التخلص مني وحسب، لكن لا يمكنني النزول وسط هذا الجو العاصف والظلام.
  • ـ إنها سيارة قديمة ـ يا صاحبي ـ وإذا ما علقت، وسط هذه البرك والأوحال، أو انزلقت في أحد هذه الأخاديد المغمورة فعليها وعلى حمولتها السلام.
  • ـ وأنا ـ يا أخي ـ شبه غريب وإذا ما تركت وحيدا وسط هذا العصف والظلام، فعلى روحي وعلى عقلي السلام.
  • ـ لقد عاندتك الظروف ، ولا حيلة لي إزاء ذالك .
  • ـ بل عاندني جشعك، وعدم وفائك و… واستشاط الرجل غضبا وأخذ يسب هذا الزمن اللعين الذي جعلني وأمثالي ننسى أنفسنا ومن نحن ، ونركب السيارات و… قبل أن يبدأ في لعن الظروف التي جعلته يقف في هذا الموقف السخيف، ويتعرض للإهانة والسب. وثرت أنا بدوري ورددت عليه بما عن لي ، وصرخ بعضنا في وجه بعض وكدنا نشتبك بالأيدي عدة مرات . لكن الركاب نجحوا أخيرا في إنهاء الموقف بيننا عندما أقنعوني بأن الرجل على حق ، فاقترابه من القرية أكثر من هذا ـ كما زعمواـ يعد مغامرة كبيرة ، واقترحوا علي أن أتجاوز إلى المحطة القادمة حيث يمكنني المبيت هناك ، ولن أعدم وسيلة ـ في اليوم التالي ـ للوصول إلى أهلي . أو أن أنزل مع ما خف حمله من أمتعتي ، على أن يوافيني الرجل ببقيتها عندما يمر من هنا في طريق عودته إلى المدينة بعد يومين أو ثلاثة . فهو كما قالوا شخص أمين ، ومعروف لدى الجميع ، ومحل ثقة. ترددت للحظات قبل أن أختار الاقتراح الأخير. فوجهوني نحو القرية ووصفوا لي الطريق إليها . وتلمست طريقي بتهيب وحذر على أرض زلقة ارتوت لتوها بالماء ، وسط الظلام والعواصف و بين الأحراش والوحل . ومع أنه كان بحوزتي مصباح يدوي صغير إلا أن ضوءه كان أضعف من أن يخترق قوى الظلام التي كانت تحاصر بصري من كل جهة ، والتي كان يخيل إلي ـ كلما أشعلته بأنها كانت تزداد كثافة وحلكة من حولي . لم أكن خائفا فهذه السماء سمائي، وهذه الأرض أرضي، و رغم الظلام وطول العهد فإنني كنت أجد في داخلي إحساسا بالألفة إزاءهما، وكنت أجد بأنهما كانتا تبادلانني نفس الإحساس. واستأنست روحي لهبات من ذكريات الصبا كان كل شيء من حولي يعبق بها ، وبأضواء مصابيح مضطربة كانت تلوح في سماء القرية بين الفينة والأخرى ، ورويدا رويدا بدأت أحس بالإرتخاء ، وأخذ يدغدغ نفسي الشعور بالاطمئنان . عندما دخلت القرية كان أغلب الناس نياما، وحاصرتني الكلاب لبعض الوقت ، وكادت أن تفتك بي ، قبل أن يستيقظ أحد أهل “ادباي” ويقوم بجزرها .شكرته ، وسألته عن بيت جدي فدلني عليه .
  • وفكرت حين وجدتهما غارقين في النوم يلفهما الهدوء والسكون ـ بأن أدعهما لأحلامها وأنام حتى الصباح ، لكنني لم أتمالك نفسي عندما رايتهما أمامي مسجيين ، فألقيت بنفسي بينهما وطفقت أقبل رأسيهما في لهفة طفولية وحبور. فزعا قليلا ، وحين عرافاني هبا من مرقدهما غير مصدقين نفسيهما . وبينما جأر جدي بالحمد والشكر لله ، غلب التأثر جدتي فأجهشت بالبكاء. واستيقظت أختاي اللتان كانتا تنامان عندهما ، وأطلقتا صيحات فرح أيقظت معظم الجيران ، فجاءت أمي مهرولة بالكاد تعي ما حولها ، وتبعها والدي وبقية العائلة ، ثم تقاطر علينا بعض الجيران والأهل والأقارب . كان فرح الجميع بي عظيما خاصة جدي وجدتي العتيقين اللذين تربيت في كنفهما وكنت أحسبهما أبوي الحقيقيين ، وشعرت ولما تمر على وصولي سوى لحظات قليلة بأن عبئا ثقيلا كان يجثم على صدري قد انزاح نهائيا ، وحين امتلأت عيناي بسحنات وجوههم المكدودة ، وتردد في مسامعي صدى أصواتهم الطروبة ، غمرني إحساس بالاطمئنان جارف لا عهد لي به ، لعله الشعور بالأمان الذي فقدته منذ أن غادرتهم يخترق مواقع الخوف في نفسي ، ويدك الحصينات التي أقامها القلق حول مكامنه فيها . وحين اصطبحت أذناي بصوت كر حبات سبحة جدتي . وبحسيس توقد الجمر في الفرن تحت “مغراج” جدي، أدركت بأنني لم أكن واهما ولا حالما كما خلت أول وهلة. نعم هؤلاء أهلي حقيقة . الاستقرار حل محل الرحال ،و “أدباي” انضم إلى “لفريج ” فولدت “النعيم” كيف ؟ ولماذا ؟ لن أرهق ذهني المرهق ـ أصلا ـ بالتفكير في الأمر، وسأعرف كل شيء في حينه . فتحت منخري للهواء جيدا ، فشعرت لانسيابه في رئتي لذة غريبة ، لذة طالما طاردتها في يقظتي بخيالي ، وفي نومي بأحلامي ، وصار لوشوشة الأغصان وتمايلها في نفسي معنى آخر غير التبرم والتأفف كما كنت احسب أيام الغربة . وأصغي لعربدة الرياح بين بنيات الحي تهزها لكنها لا تهز نفسي بل تلقي فيها بالمزيد من الهدوء والراحة. ويزداد اطمئناني إلى الحياة حين انقل بصري يمنة ويسرة إذ لا خوف هنا ولا قلق. نعم الخيام استبدلت بالبيوت المستطيلة السطوح لدى البعض ، ولدى البعض الآخر بالأعرشة المحدودبة الظهور،أو بالأكواخ المخروطيتها ، لكن هل يعني ذالك الشيء الكثير؟ لست متأكدا . فدار ” أخطورة” شيخ القبيلة وراثيا ـ تتوسط القرية كما كانت خيمته في “لفريج” أيام الحل والترحال و أهل “أدباي” أحلوا نفس المنازل التي كانت لهم أيامها ، جهة الغرب إلى اليسار قليلا . ولفت نظري كونهم ـ باِستثناء جدي ، و”طالبن” ـ قد اختاروا طراز الكوخ الإفريقي ليشيدوا بيوتهم على نمطه . ربما كان ذالك لرخص تكاليف بنائها ، أو حبا في التميز ربما ، أو لعل الأمر كان مجرد صدفة ليس إلا .
  • كنت ما أزال في فراشي عندما جاء عمي “محمود” يحمل “تاديتا” مترعة بالحليب ، وقال وهو يناولنها هذا لبن “اسخانة ” من ضرع إحدى بنات ” القشوة” ـ يا أبن أخي ـ فأشربه هنيئا مريئا وأدعو لها بالرحمة والغفران ، ولنسلها بالكثرة وبالنماء . مجرد معابثة من “عمي”. معابثة كنت احن إليها دائما ، وكثيرا ما كنت احلم بها ، ولطالما أقلقني أن تكون الظروف قد حملته على تغيير طريقته في الحياة العزيزة على نفسي . فقد كان أبا للجميع وصديقا له في نفس الوقت، يسبغ الحنان والمحبة على كل من حوله، ويشيع التفاؤل والمرح أينما حل .
  • جلس جدي في مكانه ألأثير، في صدر الفراش إلى الأمام قليلا عندما يكون بصدد إعداد الشاي ، الفرن و”المغراج ” عن يمينه والإبريق والكؤوس بين يديه . كم مرة حلمت بهذه الجلسة في نومي ، وكم ساعة عشت معها في خيالي أثناء غربتي ؟ إن إحساسنا بحلاوة الأشياء يتضاعف حينما نفقدها ، لكن حلاوة جلسة الشاي الصباحي هذه مع جدي شيء آخر ، أو قل بأنها استثناء لتلك القاعدة . قعد عمي ، وجاءت أمي ، ونادي جدي على “طالبن” و “ازوين” فسمعه ” امبيريك” ، و”لقظف” فجاؤا وهكذا اجتمع في بتنا جمع كبير من أهل القرية رجالا ونساء ، بعضهم كان قد استقبلني البارحة ساعة وصولي ، ومن لم يحضر منهم ساعتها جاء يعتذر عن تأخيره السلام علي ، ودار الحديث وكؤوس الشاي بين الجميع . وانهالوا علي بالأسئلة . البعض كان يسأل عن أقرباء هاجروا إلى ساحل العاج منذ عشرات السنين ، والبعض الآخر كان يسال عن أوضاع المقيمين هناك من أبناء القبيلة على وجه التحديد ، وآخرون ـ ربما يفكرون في الهجرة ـ كانوا يسألون عن السبيل إلى الوصول، ويريدون أن يعرفوا كيف تسير الحياة و… ، وأسعفتني تدخلات ” طالبن” كثيرا ، ورغبته الجموح في لعب دور المتطلع العارف بكل الأمور ، عندما كان يتولى نيابة عني ـ مشكورا ـ التصدي لما كنت اعتبرها أسئلة من قبيل الفضول ، مثل هل أنهم في ساحل العاج يأكلون ” “الكسكس” و” مارو” ؟ هل عندهم أبقار وأغنام وابل مثلنا ؟ وتساءل احدهم :
  • ـ وهل هم ـ ياترى ـ مثلنا “بيظان “و “احراطين” و “أكور” ، أم لا ؟ . فرد عليه “طالبن” قائلا:
  • ـ إنهم ” أكور” جميعا ، لكن فيهم بالإضافة إلى” الحراطين و ” لمعلمين ، وربما ” آزناكة” أيضا .
  • فقال له “ازوين” :
  • ـ ولماذا لم تجعل من ضمنهم “الشرفة”، و ” الطلب” و “لعرب”، أم انك تضن عليهم بمثل هؤلاء يا عالم كل فن ؟ فقال ” طالبن ” كالمتفاجيء ـ بلغة ملاها التبرم والتضايق :
  • ـ آها . أنت هنا ؟ لو كنت اعلم ذالك لما جئت، ثم نهض واقفا وودعنا وانصرف. ، وقبل أن يبرح لاحقه “ازوين” قائلا:
  • ـ “مضيا ـ يون ـ ولا يرجعون ” . فضحك الحضور، وضحكت ، وازددت اقتناعا بأنني وسط أهلي فما بعد ” طالبن” و”ازوين” شك ولا وسواس . وقال “امبيريك” :
  • ـ يقال بان اللصوص هناك ينتشرون في الشوارع مع الغروب ـ يحملون العصي والسكاكين ، ولا بنجو من بطشهم إلا من أغلق عليه داره؟ فقلت له :
  • ـ ومع الشروق أيضا ينتشرون ، و يحملون إلى جانب العصي والسكاكين ، البنادق والمسدسات ولا ينجو من بطشهم إلا من رحم ربك . قال :
  • ـ ألست لهم حكومة ؟
  • ـ بلى ، لكن اللصوص لا يبطشون إلا بالشعب .
  • وسألتهم أنا أيضا ، لماذا تقروا ، وعلى أي أساس اختاروا هذا المكان بالذات ؟ وبشكل عاصف تكلموا جميعا ودفعة واحدة ، وكان أمثلهم قولا “امبيريك” الذي علل تقريهم بشدة وطأة الجفاف من جهة ، ومن جهة أخرى تعبهم من الحل والترحال ، وبرغبتهم في الاستفادة من بعض الخدمات التي تقدمها الحكومة للقرى ، أما اختيارهم للمكان فقد وقع على أساس قربه من احد الأودية الخصبة الصالحة تربته لزراعة أنواع شتى من المحاصيل الموسمية المعروفة عندنا ، بالإضافة إلى إطلالته على واحدة من أهم الطرق الرملية التي تربط الولاية بالأراضي المالية . فقال “ازوين”
  • ـ لدينا أودية كثيرة لها نفس المزايا وربما أكثر، لكنه حب التبعية المتأصل في النفوس. فنظرا ليه “لقظف ” شزرا ، وقال
  • ـ و من أنتم ، حتى تكون لكم أودية أو سهولا ؟ وقبل أن يرد عليه “ازوين” تدخلت أنا قائلا :
  • ـ ربما قصد بأنه ما كان ينبغي أن تتخلوا عن استقلاليتكم بهذه السهولة !
  • فقال “امبيريك”
  • ـ لم ننظر إلى الموضوع من تلك الزاوية ، كلما حصل هو أن “أخطورة” وغيره من رجال “لفريج” جاؤا إلينا وطلبوا أن نضم إلى بعضنا البعض ، قالوا نكثر بكم ، وتكثرون بنا فنكثر جميعا في أعين الحكومة فاقتنعنا . وعلى كل حال فهم أهلنا . فانبرى “ازوين” قائلا
  • ـ بئس الأهل . فرد عليه “المخطار” وكان قد حضر لتوه .
  • ـ ليكن، لكننا أهلهم، وسنبقى كذالك إلى الأبد. تفاجأ “ازوين” قليلا ، وأحس بالحرج ، فقد حسب ألا احد من “أهل “لفريج” كان موجودا ،وبدل أن يسكت ، تمادى أكثر ـ فقال فيما يشبه التمتمة ـ
  • ـ ما شتكاواعلينا ” فرد عليه “امبيريك”
  • ـ “ما جيناك نشتكي ” وعاد “المخطار” للقول :
  • ـ أحسب أنه قد آن لك أن تدرك ـ يا “ازوين” بأنك تحز في غير مفصل ، فلا تفل سكينك أكثر من هذا ، فنحن و “أدباي” جسد واحد لا مفاصل فيه . فرد “ازوين :
  • ذالك أمر لا يسعد سوى “امبيريك” و” لقظف ” دون بقية “أهل أدباي ” الآخرين .
  • ـ ولماذا لا يكون الأمر كذالك بالنسبة لك ؟
  • ـ لأنني لست غبيا ، ولا أحمقا مثلهم .
  • ـ مرحى بالحمق وبالغباء، إذا كانت الحكمة فيما تدعيه. وضج الجميع بالضحك، وتعالت أصوات المتدخلين، البعض يدافع عن آراء “ازوين” باستماتة ، والبعض الآخر يشجبها بلا هوادة ،وطغى جو الهزل والمزاح ، فتلاشت وسطه حالة الجد وشد ألأعصاب ، التي عادة ما تستبطن مثل هذه الأحاديث .
  • سألتهم عن من مات أثناء غيبتي ، وعن من اغتنى أو افتقر، لكنني لم اسألهم عن من تزوج أو تطلق فمثل تلك الأسئلة للنساء .
  • قصدت السد مساء ، فوجدت الرجال منتشرين على امتداد مساحته . ” المخطار” و”بون” الذين طالما سخرا من الزراعة ومن المزارعين ، والذين كانا يعتبران الزراعة وسيلة عيش من انعدمت وسائله ـ هما اكبر أهل القرية رقعة فيه ، ذاك فعل الظروف ولا يد لأحد عليها . من كان يظن أن زعيم الحي “أخطورة” ، وراقيته ” أحمدناه” العتيد ، سيعمدان إلى زراعة الأرض ، بدل جر زكائبهما في موسم الحصاد بين “أهل أدباي ” ؟ لا شك أن ثمة أمورا كثيرة هنا تبدلت لكي يحدث ذالك ، ولابد من أن أشياء عديدة قد تغيرت أو هي في طريقها إلى التغير . لكن الوقت مازال مبكرا والمظاهر ـ كما يقولون ـ خداعة . هذا موسم الأمطار ، الرجال يعدون الأرض للموسم الزراعي الوشيك ، بعضهم ينقي رقعته من الحشائش التالفة والأشجار الناتئة والتي يخشى أن تتخذ منها الطيور مأوى في المستقبل ، والبعض الآخر يقوي السد ، بينما كان آخرون منشغلون بإعادة تسييج المنطقة . هكذا ياسادتي ، جلست تحت شجرة تطل على الحقول وفي يدي كتاب ، لكنني في الواقع لم أكن أقرء فيه ، فقد كانت عيناي منطلقتان في الافق الرحب تذرعانه في متعة وحبور، بينما كان عقلي تائه في روعة السماء المزدانة بالسحب . أثناء ذالك غمرني شعور جارف لذيذ إذ لا عمارة تحد من مدى بصري لتحجب عنه زرقة السماء , وخيوط شمس الأصيل الذهبية المنعكسة على السحب الحبلى بالبشارة وبالأمل . وأرخيت العنان لخيالي لينطلق كيف شاء ، وليسبح ما حلا له ذالك وليتخطى دائرة الطوق الذي فرضته عليه سنوات الغربة الثقيلة تلك ، فاتحا للرياح أذني ترنمهما بحفيف الأغصان لا بأزيز محركات السيارات . وانظر إلى “ازوين” بقامته القصير وهندامه المغبر وهو منكفئ على الأرض يحفر كأنه قطعة منها . عشر سنوات مرت منذ آخر مرة رايته فيها ـ وهو لا يزال كما هو يوم تركته . واسمع صوته الساخر وهو يهزأ من “امبيريك” قائلا
  • ـ إياك أن تقطع الأشجار ، فأنت جبان لن تصمد أمام رجال حماية البيئة . واسمع رد “امبيريك ” الغاضب :
  • ـ لن أستعين بك يا قليل الحياء ، ثم أن المعتوهين وحدهم هم من يعبثون بالأشجار. فترتفع عقيرة “ازوين” بالضحك وهو يقول:
  • ـ ولذالك فإن أنين “اسدر” و “أور وار” من عبث أظافرك لا ينقطع . فيزداد صوت “أمبيريك” غضبا وهو يقول :
  • ـ لا غرو في أنك لا تميز بين العبث والانتفاع ، فغباؤك أمر مسلم به .
  • اسمع كل هذا فاضحك ، اضحك من أعماق قلبي ، ويقوى ايماني بأنني وسط أهلي ، وبأنني من هنا ، ولم أكن لأكون إلا من هنا . ربما من فرط سذاجتي فكرت يوما بأن ذالك كان خطئا ، ولعلي كنت ـ لو أن الأمر كان بيدي ـ لأختار أن أكون غير ما أنا ، لكن هنا .فأنا هنا كالغصن لا يقوم بمعزل عن الجذع ، لكنه مع الجذع يثمر ويظل ويعطي بحنان وسخاء . ويقتحم نفسي شيء مثل الخوف أو القلق لا ادري مصدره ، لكنه لا يلبث أن يتلاشى ، عندما أرجع بذاكرتي إلى الوراء لأرى سنوات عمري جلها منذ كنت طفلا حتى غدوت رجلا . وبدا قرص الشمس يلم وشاحه الذهبي عن الكون ، في حين اخذ الليل ببسط نقابه الأسود المهيب رويدا رويدا ـ عليه . إذ ذاك قمت عائدا إلى القرية . وأمام العريش القائم في فناء دار جدي استقبلتني جدتي . كانت تجلس على قطعة حصير بالية ، هشت في وجهي تحية ولما حييتها هزت راسها فاتحة ذراعيها لكن دون أن تتكلم فأدركت بأنها منشغلة بأورادها ، فألقيت نفسي في حجرها ، وكري الذي لم أسلاه رغم الغربة وسنوات العمر. وأحسست بها تضم راسي إليها وشعرت بشفتاها الرقيقتين وقد دفنتهما في شعري وبقطرات دمع ساخنة بللت جبيني بحنان . ومع ذالك فان كر حبات مسبحتها لم يختل أو يضطرب. أذكر أنها قالت لي مرة هذه السبحة أهداها لي “محمد ولد الهادي ” أحد الصناع التقليديين عندنا ، كان ذالك قبل ولادة أمك بعدة أشهر ، يومها كنت وبعض نسوة أدباي عنده لإصلاح بعض الأواني ، والأدوات الأخرى ، عندما لاحظنا ازدحام الناس وتدافعهم عند إحدى الخيام المنصوبة بطرف “لفريج” . سألناه عن الأمر، فقال بأن احد أبناء الشيخ “حماه الله ” ينزل في تلك الخيمة . وتمنيت لو أنني من محارمه لأتمكن من مصافحته تبركا ، فدفع إلي الرجل بالمسبحة ، وقال : يمكنك مصافحته بواسطة هذه السبحة . ومنذ تلك اللحظة وجدتي تحافظ على تلك المسبحة كما لو كانت قطعة مجوهرات نادرة ، ولأن ابن الشيخ قد وضعها في يده الكريمة ـ كما كانت تفخر جدتي دائما ـ فقد كانت تعتبرها منبع بركة لا ينضب ، وفي المناسبات الدينية كان أهل “ادباي ” يتقاطرون على جدتي حجا إلى تلك المسبحة المباركة . هذه المسبحة ، وقطعة حصير عتيقة ، بالإضافة إلى “مغراج” نحاسي قديم ، وصندوق خشبي بني اللون ، هي دنيا تلك العجوز ومحط اهتمامها على مدار اليوم . فبعد صلاة الصبح وعندما تنهي أورادها ، تقرب صندوقها وتبدأ نشاطها اليومي المعروف ، فتارة تخيط ثوبا خلق ، وترتق آخر تارة أخرى ، ومرة تصلح قربة ، ومرة تجهز شكوة … سلاحها في كل ذالك همة لاتفتر وصبر دءوب وإصرار. هذه الذكريات وذكريات أخرى فاضت علي وأنا ملقى في حجر جدتي وعشت معها إلى أن انتهت العجوز من أورادها ، ثم بدأنا الحديث ، كان حديثا شيقا عبقا بمشاعر الأمومة زاخر بطعم الحنان ، حكت لي خلاله عن الكثير مما حدث في “ادباي” أثناء غيبتي وحدثتها عن بعض ما لا قيته من عنت أثناء غربتي ، وفجأة وجدتني بلا مقدمات أهتف بنبرة من قبض ـ أخيرا ـ على ذكرى ظلت تفلت من ذهنه باستمرار” “إنه أحمد ، أحمد ولد ألمأمون” نظرت إلي جدتي باستغراب ، وطيف قلق يحوم حول وجهها وقالت :
  • ـ من تقصد ؟
  • ـ رجلا فارع القامة عريض المنكبين والصدر ، ممتلئ الجسم قليلا ، و إذا ما قيس ببقية الرجال في “لفريج” هنا فيمكن اعتباره أبيض البشرة ناعمها . التقيته أثناء جولتي في الحقول بينما كان يستعد لوضع خشبة في إحدى الحفر ، ولأنها كانت ثقيلة كما حسبت فقد رأيت أن أساعده في حملها . كان رده فاترا حين سلمت عليه ، ولا حظت بأنه لم يبدي كبير حماس لتدخلي ، بل ولربما كان قد ضايقه و رغم ذالك فقد سمح لي بمساعدته ، وحملنا الخشبة معا وثبتناها في الحفرة . وتسنى لي ـ بعد أن فرغنا ـ أن أمعن النظر في وجهه أكثر، فبدا لي مألوفا إلى حد ما ، بل خلت أنني أعرفه . فلا بد من أنني رأيت هذا الوجه في مكان ما قبل ألآن . لكن أي مكان ، ومتى ؟ ونقبت في ذاكرتي لبعض الوقت . وتذكرت ، كان ذالك في ساحل العاج . لقد جمعتني الصدفة بهذا الر جل عدة مرات في أمكنة مختلفة ، كان ذالك يحصل بشكل عابر غالبا ، لكنني أذكر بأنه قال ـ في حضوري ـ مرة بأنه جاء إلى هناك بعد أن ضاقت به الظروف هنا ، لكن كيف جاء ذالك الرجل إلى هنا ، خاصة وأنه حينها كان يزعم ـ على ما أذكر ـ بأنه من قبيلة “أرقيبات” وبأن أهله في منطقة ” تيرس ” لا، لا . لا بد من أنني أتوهم . هكذا أنقلب ظني إلى مجرد وهم ابتلعته بسرعة ، مستبعدا أن يكون هذا الرجل هو من أعرفه ، وأخذت أتحدث إليه . كانت أجوبته ـ كلما سألته ـ مختصرة ، كما أن عباراته كانت متحفظة نوعا ما ، لكن جرس ألفاظه ، ونبرة صوته ، بالإضافة إلى تقاسيم وجهه كلما دققت النظر فيه ، عادت تغذي ظنوني من جديد ، بأن من أراه أمامي الآن هو ذات الرجل . وعدت إلى ذاكرتي من جديد أنقب في سراديبها عن أسمه لكن بدون جدوى . ولأ لا أظل في دوامة هكذا بين الشك واليقين سألته :
  • ـ هل أعرفك ؟ كان منهمكا في حفر حفرة أخرى ، فألتفت إلي ببطء ، وأجاب ـ دون أن كبير اهتمام
  • ـ هل تعرفني ؟ وضحك . اعتبرت إجابته هذه نوعا من التهرب ، مما جعلني أصر على ملاحقته . فعدت أقول :
  • ـ يخيل إلي أنني رأيتك من قبل ؟ رفع إلي عينيه بحذر ، قبل أن يخفضهما ، ثم قال :
  • ـ ربما . وصمت للحظات ، قبل أن يضيف : أين ومتى ؟
  • ـ في ساحل العاج ، منذ عشر سنوات تقريبا . ولاحظت غمامة دهشة تعلو سماء وجهه بغتة ، إلا أنه تمكن من تبديدها بسرعة ومهارة فائقتين ، عندما أفتعل سعالا أسال لعابه ، ثم قال :
  • ـ يجوز . هكذا أجابني ببرود ، وواصل عمله ، وبعد لحظات أردف : ألا تعتقد بأنك تتوهم الأشياء ؟
  • ـ أتوهم ؟!
  • ـ أو ربما شبه إليك ؟
  • ـ طيب . ما اسمك ؟ قال: ـ وطيف ابتسام يرتسم على شفتيه:
  • ـ هل أنت ضابط تحقيق ؟ وصرخت ، صرخت ، لكن في نفسي وبصمت : ضابط تحقيق تقال هنا ! وبينما تهت أنا في دهشتي ، واصل هو انهماكه في عمله دون أن يتكلم ، وحين فرغ التفت إلي وقال
  • ـ أمعجب بهذا، أم أنكم معشر أهل المدن تعتبرون الزراعة وسيلة عيش متخلفة ؟ وضحك . قلت
  • ـ حياة أهل المدن وغيرهم تتوقف على الزراعة ، وسينتهي العالم عندما يتوقف الكل عن ممارستها . ضحكت جدتي حينئذ وقالت :
  • ـ مسكين ، هذا “محفوظ” وتلك أحاجيه ، لم يحظى أحد منه أبدا برد شاف ، فإجاباته ـ حين ـ يسأل هي دائما من هذا النوع . يجوز ، ربما . حتى أنهم ـ هنا ـ أصبحوا يلقبونه ـ تندرا ـ ب “محفوظ ربما”
  • ـ “محفوظ” ؟! لا . ليس هذا اسمه :
  • ـ من ؟
  • ـ الرجل الذي أتحدث عنه
  • ـ طبعا لا .
  • ـ “أولد من ، محفوظ هذا يا جدتي
  • ـ ” ولدنا نحن أهل أدباي “
  • ـ جدتي ، إنه “بيظاني ؟
  • ـ إلذاك ؟. و ” أهل أدباي” أثرهم شنهوم ؟
  • ـ أقصدـ يا جدتي ـ بأنه “بيظاني” أبيض .
  • ـ وأكثر من ذالك هو “شريف” ، لكن أمه ” انمادية” ، وقد تربى معها بين أخواله صيادا في بوادي “النعمة” . وفد إلينا بعد ذهابك بفترة قصيرة ، وبعد إقامة لم تدم طويلا عند “أهل امبيريك” تزوج ـ من “السالمة” واستقل بنفسه .
  • ـ من “السالمة” ؟
  • ـ “السالمة منت محمد العبد”
  • ـ عرف كيف يختار، فا”لسالمة” من أكمل بنات “ادباي” خلقا وخلقا ؟!
  • ـ صحيح ، لكن ذالك ما كان سيودى بمستقبلها ، ويبقيها بائرة إلى ألأبد ،فقد توهمت بأن جمالها ، واختلاف بشرتها كافيين وحدهما لإخراجها من زمرة “أهل ادباي” .
  • ـ إلى أين ؟
  • ـ وما أدراها ؟ إنما كانت بصدد أن تكرر نفس تجربة أمها .
  • ـ تقصدين “أمباركه أعلينا ”
  • ـ نعم . فقد جني عليها جمالها عندما كانت صغيرة حينما أوقع في غرامها أحد أبناء عم “أخطورة”
  • فحلقت عاليا في سماء أحلامها رافضة في خيلاء وتكبر كل من يتقدم لها من أبناء “ادباي” ، ولأنها كانت متمردة ومشاغبة منذ صغرها ، فقد رفض “أخطورة” أن يعتقها عندما تقدم الرجل لخطوبتها هكذا علقت المسكينة بين رغبتها وإرادتها ، وبين التحكمية التي لا ترحم لمزاج “أخطورة” في مصيرها ، وبينما تشبث الرجل بعلاقته بها ، صارفا النظر في الوقت نفسه عن فكرة الزواج منها ، عاشت هي على أمل أن يتغير الوضع في يوم ما . عمياء عن حقيقة أن الرجل بعد أن مكنته من نفسها لم تعد بالنسبة له سوى جسد يستغله. فقد كان لا يغشاها إلا متسللا وينكر في العلن أية علاقة له بها .وكان حين تحمل يهجرها نهائيا ، ليعود إليها عندما تستعيد عافيتها. ولم تصحوا من أوهامها إلا حين هددها علنا بأنه سيقتلها إذا سمع بأنها تنسب إليه أبناءها. خاضت بعد ذالك العديد من التجارب والمغامرات لكن ليس مع أحد من أبناء “ادباي” ، إلى أن أدركت بأن شبابها يوشك أن يضيع هباء ، فقبلت الزواج مرغمة من “محمد العبد”
  • ـ لكن ، جدتي هل ل”أمباركه أعلينا” أبناء من رجل آخر غير “محمد العبد” ؟
  • ـ أجل .
  • ـ ومن هم ؟
  • ـ أولادها الكبار الثلاثة، وفي “السالمة” قولان !
  • ـ ماذا تقولين يا جدتي ؟
  • ـ ما سمعته ! .
  • ـ و هل كانوا كلهم ثمرة لعلاقتها بذالك الرجل ؟
  • ـ نعم . كلهم ، باستثناء “السالمة” أوـ تائبة لله ـ هذا ما يعتقده غالبية أهل “ادباي”
  • ـ ولم يعترف بهم أبدا .
  • ـ تقول “أمباركة علينا” أنه جاءها مرة ، وابدي أسفه وندمه ، وطلب منها الصفح، فاشترطت عليه لكي تفعل ذالك أن يعترف بأبوته للأولاد أولا. فوافق، ووعدها بأنه سيستفتي العلماء ويرد عليها. لكنه مات دون أن يفعل لها شيئا، ويقال بأنه عندما كان على فراش الموت بكى وأبدى الكثير من الندم فأرسل إلى أحد العلماء يستفتيه في الأمر.
  • ـ وماذا بعد ؟
  • ـ انتهت القصة هنا.
  • ـ وماذا عن “السالمة”
  • ـ يقول “أهل أدباي” بأن “أمباركة علينا ” كانت حبلى بها عندما تزوجت “محمد العبد ”
  • ـ تتكلمين وكأن الأمر يتعلق بمعزة .
  • ـ بل يتعلق ب “خادم” لكنها جميلة ؟
  • ـ كان من شأن ذالك أن يخدمها ،و يضاعف حظوظها في أن تحيى بشكل أفضل.
  • ـ لا يحدث ذالك دائما ، فجمال “الخادم” سلاح ذو حدين.
  • ـ جدتي كنت تقولين بأن “السالمة” كانت بصدد تكرير تجربة أمها ؟ .
  • ـ أجل ، لكن الله سلمها ، لقد غرست في ذهنها منذ صغرها بأنها مختلفة عن بقية أترابها ، فكانت البنت تقول لزميلاتها بأنها لن ترضى بأقل من “شريف” أو “ولد ازواي” كزوج لها (المرأة أل اكبر من بوها) قبل زواجها من “محفوظ” خطبها ” معط ” ابن خالتها فرفضته بإصرار، وبدعم من والدتها ، ثم رفضت بعد ذالك الزواج من ” لمخيتير” ابن عمتها بحجة أنها لا تحبه ، وهي حجة ابتكرتها هي دون سواها من بنات “أدباي ” لكن حين اعترضت أمها على طلب “محفوظ” الزاج منها قامت قيامتها ، ووقفت لها ضحى وقالت لها في كل وقاحة : إذا لم تزوجوني به ، فسأمكنه من نفسي أو أهرب معه ولن تروني بعد ذالك . فغضبت ” أمباركه أعلينا” أيما غضب وسلطت عليها “محمد العبد” وضربها ضربا مبرحا، ثم حبسها ، لكن ذالك لم ينل من تصميمها ، ولم يمنعها من التسلل كل ما واتتها الفرصة للقاء “محفوظ” وكاد أمرهما أن يكون سببا في إشعال نار فتنة في ” أدباي ” حين هم أقرباؤها بالاعتداء علي “محفوظ” . ذالك أن “امخيتير ” ـ بدافع الغيرة ، وبتحريض من “أمها . مافتئ يستفز “محفوظ” ويتحرش به بين حين وآخر. ومرة قام بمهاجمته مستعينا ببعض أقربائه وأصدقائه المقربين بدعوى أنهم ضبطوه مع “السالمة” في وضع مريب، لكن أولاد” امبيريك” ـ الذين كانوا ينظرون إلى “محفوظ” كغريب أوطان لاذ بحماهم ـ تصدوا للمهاجمين بكل شراسة واستبسال .ولولا تدخل جدك وغيره من الرجال الكبار لحلت ب”أدباي” كارثة محققة .، وبعد الكثير من الأخذ والرد ، والرجاء والوساطات ، أذعنت “أمباركة علينا ” أخيرا لرغبة البنت فزوجتها ل”محفوظ” . وراجت شائعة بين نسوة “أدباي” مفادها أن إصرار البنت على الزواج من “محفوظ” ، وكذالك تراجع أمها المعروفة بالصلابة والعناد عن معارضتها لذالك ، مرجعهما أن الرجل كان ربما ، أقول ربما قد أصاب من البنت شيئا ، لكن ـ والحق يقال ـ ابنها الأول منه جاء بعد مرور عام كامل على زواجهما مما أخرس الألسن وبدد الشائعات . الشيء الغريب “يا أوليد ” هو أن ” السالمة” بعد زواجها من “محفوظ:” انعزلت بحياتها عن الآخرين، وقطعت كل صلة لها بالناس تقريبا .إلى حد أنها تجرأت وولدت في بيته بدلا من بيت أهلها خلافا لما يقضي به العرف ، وما جرت به العادة والتقاليد ، خصوصا وإنها كانت تلد للمرة الأولى . مما أثار ثائرة أمها وأخواتها فشتمنها وعيرنها ، وشتمن “محفوظ” واتهمنه بأنه قد سحر ابنتهم و… عند هذا الحد قاطعت جدتي قائلا:
  • ـ ولماذا كل هذا الرفض للرجل من طرف ” أمباركة أعلينا”
  • ـ وماذا كنت أخبرك منذ الصباح .
  • ـ ما فهمته، هو أن المرأة كانت تحلم بأن يتزوجها أحد أبناء الأعيان. لكنها سقطت سقوطا حرا من علياء أوهامها لتتزوج أخيرا من أحد رجال “ادباي” .
  • ـ لكنه ليس كأي رجل من رجال “ادباي” من وجهة نظرها ، فلطالما اعتبرت أنه أفضل من بقية أهل “أدباي” !
  • ـ أفضل منهم على أي أساس ؟
  • ـ إنه ” خذر متصل ، حر مولانا ”
  • ـ أوليس بقية “أهل أدباي أحرارا ؟ أشاحت عني بوجهها وقالت في عصبية مفتعلة
  • ـ لا ، إنهم “جامبور”
  • ـ ليكن ، إنني أفهم أن يتكبر “محمد العبد ومباركه أعلينا” على “أهل أدباي” لكن تكبرهما على “الشرف” يبدو لي غير منطقي .
  • ـ وأين “الشرف” ؟
  • ـ “محفوظ” ؟
  • ـ ومن قال بأنه “أشريف”
  • ـ الم تقولي قبل لحظات بأنه “شريف ” من أهل تشي… و …
  • ـ هذا ما يزعمه هو ، “ول قالك بأن “شريف” قول آمين ”
  • ـ على كل حال هو “بيظاني”
  • ـ أو “أمعلم”.
  • وتجاوزنا موضوع “محفوظ” إلى مواضيع أخرى. صحيح أنني ما أزال أشعر برغبة كبيرة في معرفة المزيد عنه، أين كان قبل أن يأتي إلى هنا ، ولماذا أختار أن يقيم بين أهل “أدباي” دون سواهم ، وفوق هذا وذاك أريد أن أعرف أين تعلم كلمة ضابط تحقيق ، فكلما قالته عنه جدتي ـ من تفاصيل وأشياء لم يقضي تماما على شكوكي حول هويته الحقيقية ، ثم إنني مازلت في داخلي أرفض فكرة أن يكون كل ذالك التشابه بينه وبين ذالك الرجل الذي تعرفت عليه في ساحل العاج جاء عفوا وبمحض الصدفة والاتفاق . لكن تيار الحياة في القرية جرفني ، وكنت سعيدا ولا أريد لأي شيء أن يشوش على سعادتي . ولأن الدعوات تعتبر في عرف الناس هنا، هي أعلى أشكال التعبير عن التقدير والاحترام ، فقد تهافت أهل “أدباي” على دعوتي ، فيما يشبه التنافس المحموم هكذا أمضيت شهري الأول جله مدعوا على عشاء عند هذا البيت ، أو على عشاء عند ذالك . وكنت في كل مساء أذهب إلى الحقول أستمتع بجمالها الرائع وخضرتها الغضة، وفي الليل عندما يصعد القمر سماء القرية ويسكب أشعته الفضية على ربوعها أذهب رفقة بعض الأصدقاء إلى “الشن” حيث تجتمع الفتيات للغناء. كنت أحسبني كبيرا إلى حد ما لكي أفعل ذالك، لكن حرصي على أن أعوض ما فات من أيام شبابي الضائعة كان أكبر من أن أتوقف عند تلك التفصيلة الصغيرة. بالنسبة لفتيان القرية وفتياتها فإن مجلس “الشنة”كان بمثابة جزيرة مستقلة وسط بحر المحرمات وفضاء للبوح حرا يهربون إليه كل ليلة من أسوار الممنوعات ، وبالنسبة للآخرين فقد كان موعدها يشكل فرصة لتحدي المواضعات وقيودها ، و لحظة تظاهر عفوية ضد رتابة الحياة في القرية وضد روتينها الفتاك . تقرع “الشنة” وفي غضون لحظات يغص المكان بالفتيان والفتيات وبالأطفال والمتصابين من الرجال والنساء ، فتاتي ” ازغيلين” مطربة “أدباي ” المشهورة و ” امليخير” صاحبة الصوت الشجي ، ويأتي “عبدن” أشهر من يقرع الطبل في القرية ، “ولقويل” و “ومقيلاه” مطربة “لفريج ” العتيدة فيشتعل المكان بالحماس ويفور بالمتعة والحبور. ويبلغ المشهد ذروته حين يأتي ” عبدوك” عازف “النيفاره” الفذ بمعية رفيق دربه ” أبين” المولع ” بالإنشاد والرقص وبالتطبيل . هكذا ترتفع أصوات الحناجر بالزغردة ، وتصدح الأكف بالتصفيق فتردد صداهما أرجاء المكان ، ويعانق دويهما عنان السماء. وحين تخبو موجة الحماس تلك ، التي تمثل عادة وصلة خاصة ب” أدباي” تبدأ الفتيات بترديد” ” النحايا ” و اشويرات ” فيأتي دور المولعين بنظم ” القيفان ” والمتحمسين لخوض حرب “لقطاع” . فتفيض “قيفان” الغزل من شفاه العشاق آهات نسيب تمزق نياط القلوب ، وأحيانا آيات تشبيب تبهر العقول والحواس ، وحين تنجح إحداهن في الاستحواذ على اهتمام أكثر من واحد ، تنشب بين المعنيين حرب “اقطاع” ضروس ـ مليئة بالإثارة وبالمتعة ـ لا تلبث أن تجذب الجميع إلى أتونها فيغدوا المكان أشبه بحلبة صراع حقيقية يسعى الجميع فيها ـ كل من موقعه ـ إلى الخروج منها ظافرا ، الفتيات بما تعتصره يد الصبابة والوجد من قرائح المعجبين من عذب القريض ومعسول الغزل ، والفتيان بما توشي به العيون خلف نقاب الحياء من آي المودة والإعجاب . واستيقظ صباحا ، وصورة الحقول تملأ عيني ، وأصداء “الشنة” تتردد في أذني . الهواء الرائق الطري ، و ضوضاء الرعاة وضجيج أغنامهم ،وصياح بقرات تعود ضحى من مرعاها الليلي ، وثغاء نعاج على وشك توديع صغارها ، ثيران تتخاور، وحمير تتعارك ، وجلبة أطفال في الغسق يتحلقون حول معلمهم ، هذا كله يملأ نفسي بالمتعة فتطفح بالسعادة وبالبهجة والسرور. كم هي جميلة الحياة هنا ، وكم هي رائعة وممتعة ، بين هذه السهول الغناء مهد الجمال والطمأنينة والهدوء ، وبين تلك الفتيات ومجلسهن الممتع ذاك ، والذي اتخذت منه معبدا أرتاده كل ليلة ، فأحس بضباب القلق والخوف ينقشع شيئا فشيئا عن نفسي ويسود مكانه صفاء الطمأنينة والأمان ، لكن في تلك الأصقاع البعيدة مايزال هناك الكثيرون من أبناء جلدتي اللذين ضاقت بهم ظروف العيش هنا ، وعز عليهم الظفر باللقمة الشريفة ، ينازعهم القلق الشيء الذي يجنونه ويسلبهم الخوف هناء الحياة .
  • أمضيت في القرية حوالي خمسة أسابيع ذهبت مع أيامها مشاعر الخوف والقلق، أمشي فيها طليقا، وأتجول بين بيوتها سعيدا، أسهر حتى مطلع الفجر، وأنام عند أقرب البيوت إلي ، ليس ثمة ما يمنع . ولأنني لم أقرر بعد نوع النشاط الذي سأزاوله ـ فقد انخرطت شأن غيري من أبناء القرية ـ في الأنشطة اليومية للناس هنا. أعمل في الحقل ، احلب البقر، اجلب الماء من البئر، و…
  • وحدث أن نفشت بمزارع القرية حيوانات بعض البدو الرحل، فقام أطفال القرية الذين كانوا موجودين في الحقول، بمطاردتها داخل الأودية ـ المحيطة بالمزارع ـ و في الشعاب، و هم عائدون في الطريق هاجمهم رعاة الحيوانات على حين غرة، وأوقعوا بينهم بعض الإصابات. كانت الإصابات محدودة ، و كانت بسيطة وعادية في معظمها . لكن لا أحد من أهل القرية كان مستعدا ـ عندما ذاع الخبرـ للتروي ولتقييم الأمر بحكمة وتعقل، فلدى الجميع من الانفعالات العائمة ما يكفي، وكفى بما حدث شرارة.
  • وهب الناس بشكل انفجاري ـ فور معرفتهم بالخبر ـ هبة رجل واحد، وهرعوا نحو مكان الحادث بعضهم يحمل البنادق والبعض الآخر يحمل الفؤوس والعصي. كنت نائما عندما صاحت في جدتي :
  • ـ انهض لتمنع هذا العجوز مما هو مقدم عليه.
  • ـ وما ذاك يا جدتي ؟ وبصوت قلق مضطرب أبانت لي طرفا من الموضوع، فصعقت أمن أجل هذا يأخذون بنادقهم وفؤوسهم ؟ خرجت من البيت مسرعا فهالني ما رأيت . هرج ومرج ، واندفاع وتدافع ، وضوضاء مبهمة لنساء حزانى مرتعبات هنا ، تختلط بهمهمات رجال مترددين حيارى هناك ، يضيع صداها وسط الفوضى العارمة التي كانت تجتاح القرية كالإعصار. كنت أركض وسط الزحام بلا هدى تتقاذفني المناكب والأجسام المتعرفة نصف العارية، وفي نفسي أتمنى أن أحظى بمعجزة ما تمكنني من التصدي لعدوانية هؤلاء الناس المنفلتة من عقالها لكي لا تحدث كارثة ؟ عندما وصلت إلى مكان الحادث بالقرب من المزارع ، لا حظت أن أغلب المتواجدين به هم من شباب “أدباي” ، وبعض رجاله ممن لا يكنون عادة الكثير من الود للبدو الرحل . ربما كان الأمر مجرد صدفة، أو لعلهم كانوا قريبين من المزارع ساعتها مما جعلهم يصلون أولا. ما أثار دهشتي حقيقة وهزني من الأعماق ، هو ذالك الحماس منقطع النظير الذي كان يبديه أغلب هؤلاء لخوض المعركة . معركة يجهلون قطعا أنها في الميدان الخطأ، وضد العدو الخطأ، وبالأسلحة الخطأ، لكن من يستطيع أن يقنعهم بذالك. وأفقت من تخيلاتي على ضوضاء نسويه تنبعث من وسط الحشد، وهمس هنا وأصوات خافتة هناك تتساءل في خجل : أين “أخطورة” و”المخطار” ولماذا لا يتقدموننا إلا في ساعة الرخاء ؟ وفجأة دوت في أرجاء المكان زعقة عرفت فورا أنها صادرة من “ازوين” . كان الرجل يبربر تارة ، وتارة يشتم ويتوعد بالويل والثبور ، وإلى جانبه “امبيريك” وهو يلف ويدور حول نفسه في نشاط هستيري محموم ، بندقيته العتيقة تتراقص على منكبه وقد استبد به الحماس فدفع به إلى حافة الجنون ، أما “طالبن” فقد كان في الطرف الآخر غير بعيد يخور كالثور الهائج و يمور، ورغى ” اعبيدن” وأزبد وصاح ” الشيلا ، الشيلا ” اليوم يومكم .ـ هذه واحدة من اللحظات النادرة التي يتفق فيها هؤلاء حول أمر ما ـ ورفعت “أمباركة أعلينا ” عقيرتها بالزغردة ملهبة حماس الحشد وصاحت ماذا تنتظرون ؟ ها هي خيمهم وراء هذا الكثيب فلنحرقها على رؤوسهم ، فتردد صدى صوتها الجهوري وسط الجو المشحون فأزفت الكارثة ، وبدأ الحشد يتحرك صوب مضارب خيم البدو . تزاحمت الأفكار في ذهني فلم أدري ماذا أفعل، لكن ينبغي أن لا تحدث هذه الكارثة مهما كان الثمن.
  • لجأت إلى كل وسيلة حسبتها قادرة على الحؤول بين هؤلاء الناس وبين ما هم مقدمون عليه ، فوعظتهم بكل آية حفظتها ، وأنذرتهم بكل مأثور استحضرته . وحين جاء ” أخطور” و” المخطار” وبقية من كنت أحسبهم ـ يوما ـ عقلاء القرية وحكماؤها ، جثوت على ركبتي أمامهم متوسلا حكمتهم وتعقلهم . ورجوت “أخطورة” رجاء خاصا دون غيره وبصفته زعيم القرية وشيخ القبيلة التقليدي، وحذرته من أنه وحده سيتحمل التبعات والعواقب. ولما لم يجدي كل ذالك نفعا، رأيت أن أحاول إبعاد أولائك الذين كانت بحوزتهم أسلحة نارية عن الحشد مخافة أن يبادروا باستخدامها تحت تأثير الحماس للعنف والانفعال. لكن جهودي كلها ذهبت سدى ، وتلقيت لكمات ولكزات وأصبت ببعض الرضوض. ومضى الحشد إلى غايته، فوجدتني شبه وحيد أضرب أخماس بأسداس، وأحوقل. ما غشيني حينئذ شيء اعجز عن وصفه . وبينما كنت أقاوم حالة إغماء كانت تراودني ، وأنا أتخيل دماء القتلى ودموع الثكلى تملأ الوادي ـ بدا لي وكأن زحف مقدمة الحشد بدأ يتراخى ، في حين اشرأبت أعناق الناس في المؤخرة وتباطأت خطاهم ، فبدا الحشد كما لوكان قطيعا قطع عليه الطريف خطر غير أكيد . بصيص الأمل الذي حمله المشهد إلى نفسي شحن أعصابي بطاقة هائلة فانطلقت لا ألوي على شيء حتى لحقت بالحشد. و فوجئت حين أدركت بأن “محفوظ” هو من أوقف زحف الحشد الهائج فقد كان يقف أمام الجميع وقفة القائد المطاع . وإلى جانبه وقف بعض الكهول والشباب الأقل تحمسا للعنف . وتذكرت بأنني ـ عندما كنت بصدد التصدي لأهل القرية ـ لم ألاحظ وجوده بينهم ، لكنني لم أعر ذالك أدنى اهتمام ، ولم أتوقف عنده بتفكيري ولو للحظة ، ولم يدر بخلدي ـ أبدا ـ أنني سأجده هنا وفي هذا الموقف. وأنا أخترق الصفوف إلى حيث كان يقف الرجل ، وقبل أن أقرر خطوتي التالية ، فوجئت بوالدي يشق الصفوف نحوي وهو يصرخ في غضب : اغرب من هنا فهذا الحشد حشد رجال ولا مكان فيه للجبناء ، لكن وقبل أن يصل إلي وثبت والدتي من مكان ما لتأخذني في حضنها بعيدا عنه ، كانت عيناي تفتشان عن جدي ابتغاء نصرته كما عودني في مثل هذه المواقف ، لكنه حين رآني أجفل وتفادا النظر في وجهي ، ولم يلبث أن تطفر الدمع من عينيه ثم تمتم بحزن عميق وأسى : آه يا ولدي ليتني مت قبل هذا اليوم ، أوليتك لم تولد . فردت عليه والدتي: ولماذا كل هذا ؟ لقد كان على حق عندما حاول منعكم من هذه المصيبة ، والحمد لله على وجود “محفوظ” فلولاه لكانت الدماء تملأ الوادي . وربت على كتف والدتي عندما رأيتها تحاول جاهدة إبعاد تهمة الجبن عني وقلت :
  • ـ لا عليك ـ يا والدتي ـ المهم ألا تحدث الكارثة. فقال أحدهم كان يقف على مقربة مني:
  • ـ ليتها وقعت . فقلت له مستنكرا :
  • ـ وماذا ستكسبه من وراء ذالك ؟ فرد في برود ، لكن بصدق :
  • ـربما أموت قبل أن أرى أمورنا تساس من طرف هذا الدعي و”أهل أدباي ” أغضبتني مقالة الرجل هذه ـ لا أخفي عليكم ذالك ، لكن وقبل أن أرد عليه ـ انبرى له أحد شباب “أدباي” قائلا في لغة هجومية صريحة :
  • ـ إن كنت تعني ما تقول ، فهاهي خيم البدو أمامك فأذهب إليهم ، لكنك تعرف بأنك جبان ، واغلب الظن أنك ستموت متخوما عندما يحين أجلك . وبينما كنت أهدئ الرجلين انطلق صوت من وسط الحشد يقول مخاطبا “محفوظ” في تبرم واضح ونفاذ صبر:
  • ـ لقد عيل منا الصبر ، قل لنا ماذا تنوي فعله أو خل بيننا وبين مانحن مقدمون عليه ، فجاوبه آخر في نبرة أقل ودية :
  • ـ إن لم تكن تلك طريقة في التخاذل مبتكرة ؟ فما شأننا بما ينوي أو لا ينوي فعله ؟ وصاح آخر: ـ هيا، لنثبت للجميع بأن مفعول سحر هذا الساحر قد انتهى . ؟ وسرت عدوى التمرد هذه بين الحشد سريان النار في الهشيم ، فتعالت ألأصوات المطالبة بالمضي قدما نحو مهاجمة البدو. وصرخ أحدهم قائلا ـ وكان يطلق النار من بندقيته في الهوى بحماس ـ حتى وإن لم نملك سببا كافيا لنفعل ذالك، فيكفي أنه سيجعل هذا الدعي يعرف قدره وحدوده. فزجرته قائلا :
  • ـ تعقل يا هذا ، وكف عن التحريض .فرد علي باستهتار:
  • ـ وماذا أفعل بالعقل ؟
  • ـ لن تحتاجه في وقت آخر أكثر من الآن.
  • ـ لم يحن بعد الوقت الذي أتقبل النصح فيه منك، ومن أمثالك.
  • ـ بلى ، قد حان وسترى . وقبل أن يتطور الموقف بيني وبين الرجل. ظهر حشد البدو فجأة في الجهة المقابلة . لقد كانت مضارب خيامهم قريبة من الحقول، ولا بد أنهم لا حظوا احتشاد أهل القرية على ذالك النحو العدواني الواضح، فشعورا بالاستفزاز وربما بالخطر، فأرادوا أن يعبروا بدورهم عن استعدادهم لمواجهة الأسوأ في حالة حدوثه. لكن كان واضحا من طريقة تجمعهم بأنهم كانوا أكثر انضباطا من جماعتنا بشكل كبير. فقد تجمهروا بشكل منظم ، أقرب إلى الاصطفاف منه إلى الاحتشاد ، وكانوا قليلوا الضوضاء ويتقدمهم رجال كبار السن لا يعطون الانطباع من خلال هيئتهم بأنهم مقبلون على شر. ربما لأنهم كانوا قليلوا العدد قياسا الى عدد أهل القرية ، أو ربما لشعورهم بالذنب ، وبالمسؤولية عما يحدث . وانتهزت حالة الترقب التي ألمت بالحشد عندئذ ، فقلت مستبقا الأحداث موجها كلامي إلى “أخطورة” “المخطار”محاولا التودد إليهم :
  • ـ يبدو أن الجماعة يريدون أحدا ما ليتحدثوا إليه فلنرى ما ذا لديهم ؟ وبينما شجب البعض فكرتي بشدة، وافقني الرجلان الرأي. فربما وجدا في استشارتي لهما نوعا من رد الاعتبار. بعد أن تجاوزهما “محفوظ” بتصديه لزحف حشد أهل القرية دون استشارتهما.
  • توجهت نحو حشد البدو صحبة بعض من رجال القرية، فاستقبلوني مرحبين بنفس العدد تقريبا في منتصف المسافة بين الحشدين. وبينما كنا نستعد للدخول في نقاش الموضوع ـ التحق بنا عدد من رجال القرية، ولم نلبث أن انضم إلينا رجال من الطرف الآخر. وتصاعدت وتيرة التسلل من كلا الحشدين نحونا وتسارعت لينتهي المطاف بالجميع إلى التحلق حولنا . كنت اعرف أن من شأن ذالك أن يعقد من مهمتنا ، وربما يكون سببا في نسفها من الأساس ، لكن الناس يكونون أقل انضباطا في مثل هذه الأجواء ، وأكثر استعداد للتحدي وللعصيان ،وأقل نوع من الاعتراض على رغباتهم قد يكون سببا في إثارتهم . ومع ذالك فقد نجحت جهودي وجهود بعض الطيبين في الإبقاء على النساء والأطفال بعيدا عن المكان ، إذ أنهم غالبا ما يشكلون في مثل هذه المواقف شرارة الفتنة و وقودها .
  • بدأ النقاش في أجواء هادئة نسبيا ، لكن رغبة البعض من “أهل القرية في أن تتسع دائرة النقاش لتشمل قضايا وأحداث لا صلة تربطها مباشرة بما حدث، حوادث قديمة، وخلافات أقدم تتغذى على خلافات قبلية مضت أكل عليها الزمن وشرب.سرعان ما سمم الأجواء ، فقد رفض البدو بشكل قاطع التعاطي مع الموضوع من تلك الزاوية ، وأصروا على ضرورة التركيز على ما حدث . قال أحد شيوخ البدو :
  • ـ لا أدري إن كان ذالك كافيا ، لكننا نبرأ إليكم مما أقدم عليه هؤلاء السفهاء . فرد عليه “اخطورة” :
  • ـ منذ سنوات خلت كنتم هنا، للسبب ذاته الذي انتم من أجله اليوم هنا. ويومها أبديتم نفس الروح التي تبدونها الآن أقصد روح الاعتذار والتأسف، وندرك الآن كم كنا مخطئين عندما صدقناكم، وكم كنا سذجا حينما قبلنا اعتذاركم. فرد عليه أحد البدو :
  • ـ لا أحب النبش في الماضي كثيرا، لكنني لا أذكر أن ما حدث ساعتها كان يستلزم أي اعتذار أو تأسف من طرفنا، لكننا أردنا إزالة أي لبس بشأن حقيقة نوايانا اتجاهكم.
  • ـ ما تهون من شأنه يعد في نظرنا تكرار لما نحن بصدده الآن . فقد جئتمونا تستأذنون المقام بأرضنا بشكل مؤقت لنتفجأ بكم تحفرون فيها الآبار، وتغرسون النخيل . فقال أحد البدو:
  • ـ كان ذالك وضعا مختلفا، وعموما فإننا لم نأت لنتحدث في أشياء صارت جزءا من الماضي. فقال “ازوين”
  • ـ مازالت مرارة الخيبة جاثمة في حلوقهم، وإنه لشيء يبعث عل الإعجاب ـ حقاـ هذا الإصرار منهم على عدم النسيان. فقال أحد البدو:
  • ـ عن أي خيبة تتحدث .
  • ـ خيبتكم في الحصول على موطئ قدم في هذه الأرض .
  • فقال أحد البدو:
  • ـ كنا نود أن نسمع نغمة مختلفة عن هذه فقد جئنا لنهدئ لا لنثير. ؟ فرد عليه احد رجال القرية باستهزاء :
  • ـ نغمة مختلفة ! أن نهنئكم مثلا على ما أرقتموه من دماء أبنائنا ، وما أتلفته حيواناتكم من مزارعنا ؟
  • ـ ليس ذالك أفضل شيء نحب أن نهنأ به ، وإنم… فقاطعه “ازوين” قائلا:
  • ـ لعلهم كانوا يتوقعون أن نستقبلهم بالدفوف وبالمزامير؟! فرد عليه أحد البدو في نفاذ صبر:
  • ـ كفى سخرية أرجوكم، ولنتحدث ك…فقاطعه أحد رجال القرية :
  • ـ أنت محق ! كفى سخرية ، وكفى استهزاء . نعم كفى . ثم وأردف : لطالما سخرتم منا واعتبرتمونا أقل شأنا من الآخرين ، فتجاهلنا . ولطالما استهزأتم بنا فتحملنا وصبرنا . كم مرة زاحمتمونا المراعي فتركناها لكم وارتحلنا، وكم مرة ضايقتمونا عند الآبار، فصبرنا حتى سقيتم، واعتديتم علينا فكتمنا ، وعدوتم على حيواناتنا فدارينا. لكن كفى فقد ولى ذالك الزمان إلى غير رجعة .ولا مزيد من الصبر لدينا اليوم لنقارع به حرقة طيشكم ، ولا ملجأ نهرب فيه من ملاحقة اعتداءاتكم . و… عند هذا الحد قاطع أحد البدو الرجل قائلا :
  • ـ لقد أخفتنا من أنفسنا وكرهتها إلينا ، و… فقاطعه أحد جماعته :
  • ـ لعله كان يتحدث عن ناس آخرين، ف… وقاطعه “المخطار”
  • ـ بل كان يتحدث عنكم .لكن عندما تكونون على سجيتكم . فقال البدوي :
  • ـ وأين كنا عندما كان يحدث كل هذا ؟ فرد عليه زميله
  • ـ ربما في بطون أمهاتنا !
  • ـ أو لعلنا كنا نياما ! فقال “المخطار” غاضبا:
  • ـ طريقتكم في الثأر هذه تبدو ذكية، لكنها دنيئة وتليق بالجبناء. . فرد البدوي في غضب:
  • ـ لدينا الكثير من النساء المشاغبات ، يعرفن كيف يعيرن ويتويلن ويلطمن خدودهن ، بشكل أفضل من ذالك ، لكننا أردنا رجالا نتحدث إليهم .وليس نساء نتشاتم وإياهم . فازداد “المخطار” غضبا وقال :
  • ـ ومتى أصبحتم رجالا.
  • ـ كنا كذالك دائما ، وإن كان آباؤك غفلوا عن أن يخبروك ، فبإمكاننا أن نتولى الأمر. ونكأت كلمات البدوي في نفوس جماعتنا شعورا مزمنا طالما عذبها وأرهقتها محاولة التغلب عليه ـ بأنها لم تكن صاحبة مآتي ، ولا مآثر حربية أيام السيبة ـ الأثيرة ـ بها تذكر. وأشعلت فتيل حساسيتها المفرطة اتجاه كلما من شأنه تذكيرها بماضي أجدادها البطولي المتواضع. تلك الحساسية التي طبعت سلوك الكثيرين منها بالفاشية، وجعلت ردود أفعالهم غالبا تبدو غير منسجمة مع مثيرها، ومن حرصهم على وحدتهم ـ المبالغ فيه إلى حد كبيرـ نوعا من التضامن المرضي إلى حد ما. وهاج البعض، وماج وكادوا يسطون البدوي، لولا أن جماعته قامت بإجلائه من المكان. وصاح “أحمد ولد المخطار” غاضبا فيما يشبه الزئير:
  • ـ لا تدنس آبائنا بذكرهم بفمك يا قليل الأدب. فرغى البدوي وأقبل نحوه ، لكن احد الشيوخ من جماعته أمسكه وقام بإبعاده من جديد .وهدأت الضجة قليلا ، لكن لتعود وهذه المرة بشكل ينذر بوقوع الكارثة . عندما قال أحد البدو فيما يشبه المناشدة:
  • ـ دعونا نعرف ماذا تريدون، ولننهي هذه المسألة بسرعة. فانبرى له “طالبن” قائلا في استفزاز :
  • ـ ستنتهي هذه المشكلة ـ فقط ـ عندما تسلمون الجناة لنقتص منهم أمام الجميع ؟ فرد عليه أحد البدو بمثل لهجته :
  • ـ دون ذالك قطع رؤوسنا ! فرد “أحمد ولد المخطار”
  • ـ نقطعها ـ إذا ـ ولا نبالي. فتشاتما وانتصر لكل واحد منهم البعض من جماعته، واحتدم الكلام بين الجميع وعلا الصراخ والمهاترات والتنابذ. وأنقسم كل فريق على نفسه ، فكان بعض أهل القرية والبدو يحاول أن يهدأ و يلطف الأجواء ، وكان بعضهم الآخر يحرض ويؤلب ، وتشعبت الآراء ، وتعالت الأصوات بالسباب والشتائم . و وانتظرت على أمل أن يتدخل ” أخطورة” أو “محفوظ” أو أي كان ، لإنقاذ الموقف المتدهور بشكل مريع ، لكن أحدا لم يحرك ساكنا ، ومرت لحظة وصل فيها الأداء العقلي ما بين الفريقين إلى أدنى مستوياته منذ بدأ النقاش، وبدا جليا بأن الرباط الإنساني بين الطرفين آخذ في التحلل والاندثار. فوجدتني مجبرا مرة أخرى على اتخاذ المبادرة فقلت :
  • ـ لا ينبغي أن نفرط في هذه الإرادة الطيبة التي جاء بها الجميع إلى هنا لإيجاد مخرج ودي من هذه المشكلة، ولذا أرى أن نصرف الناس الآن، ولنشكل لجنة من الطريفين تتولى مهمة معالجة الأمر بعيدا هذا الصخب وهذا الجو المشحون. ما أردته من وراء هذا الاقتراح هو امتصاص حماس كلا الطرفين للعنف ، وآخر شيء توقعته هو أن يجد أدنى حد من القبول من قبل هؤلاء الناس المنفعلون حتى الثمالة ، لم يخب ظني على أي حال فما إن أنهيت كلامي حتى تعالت أصوات الرفض والاستهجان ، بل ، والتوبيخ والسباب . وعلى الصخب وساد الضجيج والفوضى من جديد ، وبدا الانفجار وشيكا. في تلك اللحظة المشحونة بشتى الاحتمالات ـ وبينما كان اليأس يجتاح آخر معاقل الأمل في نفسي ـ رأيت “محفوظ” .يخترق الصفوف بخطى بطيئة لكنها واثقة إلى أن توسط الجمع حيث وقف متكئا قليلا على عصى كانت في حوزته ثم قال ـ بصوت هادئ ورزين ـ قال:
  • ـ ما فهمته، هو أن المرأة كانت تحلم بأن يتزوجها أحد أبناء الأعيان. لكنها سقطت سقوطا حرا من علياء أوهامها لتتزوج أخيرا من أحد رجال “ادباي” .
  • ـ لكنه ليس كأي رجل من رجال “ادباي” من وجهة نظرها ، فلطالما اعتبرت أنه أفضل من بقية أهل “أدباي” !
  • ـ أفضل منهم على أي أساس ؟
  • ـ إنه ” خذر متصل ، حر مولانا ”
  • ـ أوليس بقية “أهل أدباي أحرارا ؟ أشاحت عني بوجهها وقالت في عصبية مفتعلة
  • ـ لا ، إنهم “جامبور”
  • ـ ليكن ، إنني أفهم أن يتكبر “محمد العبد ومباركه أعلينا” على “أهل أدباي” لكن تكبرهما على “الشرف” يبدو لي غير منطقي .
  • ـ وأين “الشرف” ؟
  • ـ “محفوظ” ؟
  • ـ ومن قال بأنه “أشريف”
  • ـ الم تقولي قبل لحظات بأنه “شريف ” من أهل تشي… و …
  • ـ هذا ما يزعمه هو ، “ول قالك بأن “شريف” قول آمين ”
  • ـ على كل حال هو “بيظاني”
  • ـ أو “أمعلم”.
  • وتجاوزنا موضوع “محفوظ” إلى مواضيع أخرى. صحيح أنني ما أزال أشعر برغبة كبيرة في معرفة المزيد عنه، أين كان قبل أن يأتي إلى هنا ، ولماذا أختار أن يقيم بين أهل “أدباي” دون سواهم ، وفوق هذا وذاك أريد أن أعرف أين تعلم كلمة ضابط تحقيق ، فكلما قالته عنه جدتي ـ من تفاصيل وأشياء لم يقضي تماما على شكوكي حول هويته الحقيقية ، ثم إنني مازلت في داخلي أرفض فكرة أن يكون كل ذالك التشابه بينه وبين ذالك الرجل الذي تعرفت عليه في ساحل العاج جاء عفوا وبمحض الصدفة والاتفاق . لكن تيار الحياة في القرية جرفني ، وكنت سعيدا ولا أريد لأي شيء أن يشوش على سعادتي . ولأن الدعوات تعتبر في عرف الناس هنا، هي أعلى أشكال التعبير عن التقدير والاحترام ، فقد تهافت أهل “أدباي” على دعوتي ، فيما يشبه التنافس المحموم هكذا أمضيت شهري الأول جله مدعوا على عشاء عند هذا البيت ، أو على عشاء عند ذالك . وكنت في كل مساء أذهب إلى الحقول أستمتع بجمالها الرائع وخضرتها الغضة، وفي الليل عندما يصعد القمر سماء القرية ويسكب أشعته الفضية على ربوعها أذهب رفقة بعض الأصدقاء إلى “الشن” حيث تجتمع الفتيات للغناء. كنت أحسبني كبيرا إلى حد ما لكي أفعل ذالك، لكن حرصي على أن أعوض ما فات من أيام شبابي الضائعة كان أكبر من أن أتوقف عند تلك التفصيلة الصغيرة. بالنسبة لفتيان القرية وفتياتها فإن مجلس “الشنة”كان بمثابة جزيرة مستقلة وسط بحر المحرمات وفضاء للبوح حرا يهربون إليه كل ليلة من أسوار الممنوعات ، وبالنسبة للآخرين فقد كان موعدها يشكل فرصة لتحدي المواضعات وقيودها ، و لحظة تظاهر عفوية ضد رتابة الحياة في القرية وضد روتينها الفتاك . تقرع “الشنة” وفي غضون لحظات يغص المكان بالفتيان والفتيات وبالأطفال والمتصابين من الرجال والنساء ، فتاتي ” ازغيلين” مطربة “أدباي ” المشهورة و ” امليخير” صاحبة الصوت الشجي ، ويأتي “عبدن” أشهر من يقرع الطبل في القرية ، “ولقويل” و “ومقيلاه” مطربة “لفريج ” العتيدة فيشتعل المكان بالحماس ويفور بالمتعة والحبور. ويبلغ المشهد ذروته حين يأتي ” عبدوك” عازف “النيفاره” الفذ بمعية رفيق دربه ” أبين” المولع ” بالإنشاد والرقص وبالتطبيل . هكذا ترتفع أصوات الحناجر بالزغردة ، وتصدح الأكف بالتصفيق فتردد صداهما أرجاء المكان ، ويعانق دويهما عنان السماء. وحين تخبو موجة الحماس تلك ، التي تمثل عادة وصلة خاصة ب” أدباي” تبدأ الفتيات بترديد” ” النحايا ” و اشويرات ” فيأتي دور المولعين بنظم ” القيفان ” والمتحمسين لخوض حرب “لقطاع” . فتفيض “قيفان” الغزل من شفاه العشاق آهات نسيب تمزق نياط القلوب ، وأحيانا آيات تشبيب تبهر العقول والحواس ، وحين تنجح إحداهن في الاستحواذ على اهتمام أكثر من واحد ، تنشب بين المعنيين حرب “اقطاع” ضروس ـ مليئة بالإثارة وبالمتعة ـ لا تلبث أن تجذب الجميع إلى أتونها فيغدوا المكان أشبه بحلبة صراع حقيقية يسعى الجميع فيها ـ كل من موقعه ـ إلى الخروج منها ظافرا ، الفتيات بما تعتصره يد الصبابة والوجد من قرائح المعجبين من عذب القريض ومعسول الغزل ، والفتيان بما توشي به العيون خلف نقاب الحياء من آي المودة والإعجاب . واستيقظ صباحا ، وصورة الحقول تملأ عيني ، وأصداء “الشنة” تتردد في أذني . الهواء الرائق الطري ، و ضوضاء الرعاة وضجيج أغنامهم ،وصياح بقرات تعود ضحى من مرعاها الليلي ، وثغاء نعاج على وشك توديع صغارها ، ثيران تتخاور، وحمير تتعارك ، وجلبة أطفال في الغسق يتحلقون حول معلمهم ، هذا كله يملأ نفسي بالمتعة فتطفح بالسعادة وبالبهجة والسرور. كم هي جميلة الحياة هنا ، وكم هي رائعة وممتعة ، بين هذه السهول الغناء مهد الجمال والطمأنينة والهدوء ، وبين تلك الفتيات ومجلسهن الممتع ذاك ، والذي اتخذت منه معبدا أرتاده كل ليلة ، فأحس بضباب القلق والخوف ينقشع شيئا فشيئا عن نفسي ويسود مكانه صفاء الطمأنينة والأمان ، لكن في تلك الأصقاع البعيدة مايزال هناك الكثيرون من أبناء جلدتي اللذين ضاقت بهم ظروف العيش هنا ، وعز عليهم الظفر باللقمة الشريفة ، ينازعهم القلق الشيء الذي يجنونه ويسلبهم الخوف هناء الحياة .
  • أمضيت في القرية حوالي خمسة أسابيع ذهبت مع أيامها مشاعر الخوف والقلق، أمشي فيها طليقا، وأتجول بين بيوتها سعيدا، أسهر حتى مطلع الفجر، وأنام عند أقرب البيوت إلي ، ليس ثمة ما يمنع . ولأنني لم أقرر بعد نوع النشاط الذي سأزاوله ـ فقد انخرطت شأن غيري من أبناء القرية ـ في الأنشطة اليومية للناس هنا. أعمل في الحقل ، احلب البقر، اجلب الماء من البئر، و…
  • وحدث أن نفشت بمزارع القرية حيوانات بعض البدو الرحل، فقام أطفال القرية الذين كانوا موجودين في الحقول، بمطاردتها داخل الأودية ـ المحيطة بالمزارع ـ و في الشعاب، و هم عائدون في الطريق هاجمهم رعاة الحيوانات على حين غرة، وأوقعوا بينهم بعض الإصابات. كانت الإصابات محدودة ، و كانت بسيطة وعادية في معظمها . لكن لا أحد من أهل القرية كان مستعدا ـ عندما ذاع الخبرـ للتروي ولتقييم الأمر بحكمة وتعقل، فلدى الجميع من الانفعالات العائمة ما يكفي، وكفى بما حدث شرارة.
  • وهب الناس بشكل انفجاري ـ فور معرفتهم بالخبر ـ هبة رجل واحد، وهرعوا نحو مكان الحادث بعضهم يحمل البنادق والبعض الآخر يحمل الفؤوس والعصي. كنت نائما عندما صاحت في جدتي :
  • ـ انهض لتمنع هذا العجوز مما هو مقدم عليه.
  • ـ وما ذاك يا جدتي ؟ وبصوت قلق مضطرب أبانت لي طرفا من الموضوع، فصعقت أمن أجل هذا يأخذون بنادقهم وفؤوسهم ؟ خرجت من البيت مسرعا فهالني ما رأيت . هرج ومرج ، واندفاع وتدافع ، وضوضاء مبهمة لنساء حزانى مرتعبات هنا ، تختلط بهمهمات رجال مترددين حيارى هناك ، يضيع صداها وسط الفوضى العارمة التي كانت تجتاح القرية كالإعصار. كنت أركض وسط الزحام بلا هدى تتقاذفني المناكب والأجسام المتعرفة نصف العارية، وفي نفسي أتمنى أن أحظى بمعجزة ما تمكنني من التصدي لعدوانية هؤلاء الناس المنفلتة من عقالها لكي لا تحدث كارثة ؟ عندما وصلت إلى مكان الحادث بالقرب من المزارع ، لا حظت أن أغلب المتواجدين به هم من شباب “أدباي” ، وبعض رجاله ممن لا يكنون عادة الكثير من الود للبدو الرحل . ربما كان الأمر مجرد صدفة، أو لعلهم كانوا قريبين من المزارع ساعتها مما جعلهم يصلون أولا. ما أثار دهشتي حقيقة وهزني من الأعماق ، هو ذالك الحماس منقطع النظير الذي كان يبديه أغلب هؤلاء لخوض المعركة . معركة يجهلون قطعا أنها في الميدان الخطأ، وضد العدو الخطأ، وبالأسلحة الخطأ، لكن من يستطيع أن يقنعهم بذالك. وأفقت من تخيلاتي على ضوضاء نسويه تنبعث من وسط الحشد، وهمس هنا وأصوات خافتة هناك تتساءل في خجل : أين “أخطورة” و”المخطار” ولماذا لا يتقدموننا إلا في ساعة الرخاء ؟ وفجأة دوت في أرجاء المكان زعقة عرفت فورا أنها صادرة من “ازوين” . كان الرجل يبربر تارة ، وتارة يشتم ويتوعد بالويل والثبور ، وإلى جانبه “امبيريك” وهو يلف ويدور حول نفسه في نشاط هستيري محموم ، بندقيته العتيقة تتراقص على منكبه وقد استبد به الحماس فدفع به إلى حافة الجنون ، أما “طالبن” فقد كان في الطرف الآخر غير بعيد يخور كالثور الهائج و يمور، ورغى ” اعبيدن” وأزبد وصاح ” الشيلا ، الشيلا ” اليوم يومكم .ـ هذه واحدة من اللحظات النادرة التي يتفق فيها هؤلاء حول أمر ما ـ ورفعت “أمباركة أعلينا ” عقيرتها بالزغردة ملهبة حماس الحشد وصاحت ماذا تنتظرون ؟ ها هي خيمهم وراء هذا الكثيب فلنحرقها على رؤوسهم ، فتردد صدى صوتها الجهوري وسط الجو المشحون فأزفت الكارثة ، وبدأ الحشد يتحرك صوب مضارب خيم البدو . تزاحمت الأفكار في ذهني فلم أدري ماذا أفعل، لكن ينبغي أن لا تحدث هذه الكارثة مهما كان الثمن.
  • لجأت إلى كل وسيلة حسبتها قادرة على الحؤول بين هؤلاء الناس وبين ما هم مقدمون عليه ، فوعظتهم بكل آية حفظتها ، وأنذرتهم بكل مأثور استحضرته . وحين جاء ” أخطور” و” المخطار” وبقية من كنت أحسبهم ـ يوما ـ عقلاء القرية وحكماؤها ، جثوت على ركبتي أمامهم متوسلا حكمتهم وتعقلهم . ورجوت “أخطورة” رجاء خاصا دون غيره وبصفته زعيم القرية وشيخ القبيلة التقليدي، وحذرته من أنه وحده سيتحمل التبعات والعواقب. ولما لم يجدي كل ذالك نفعا، رأيت أن أحاول إبعاد أولائك الذين كانت بحوزتهم أسلحة نارية عن الحشد مخافة أن يبادروا باستخدامها تحت تأثير الحماس للعنف والانفعال. لكن جهودي كلها ذهبت سدى ، وتلقيت لكمات ولكزات وأصبت ببعض الرضوض. ومضى الحشد إلى غايته، فوجدتني شبه وحيد أضرب أخماس بأسداس، وأحوقل. ما غشيني حينئذ شيء اعجز عن وصفه . وبينما كنت أقاوم حالة إغماء كانت تراودني ، وأنا أتخيل دماء القتلى ودموع الثكلى تملأ الوادي ـ بدا لي وكأن زحف مقدمة الحشد بدأ يتراخى ، في حين اشرأبت أعناق الناس في المؤخرة وتباطأت خطاهم ، فبدا الحشد كما لوكان قطيعا قطع عليه الطريف خطر غير أكيد . بصيص الأمل الذي حمله المشهد إلى نفسي شحن أعصابي بطاقة هائلة فانطلقت لا ألوي على شيء حتى لحقت بالحشد. و فوجئت حين أدركت بأن “محفوظ” هو من أوقف زحف الحشد الهائج فقد كان يقف أمام الجميع وقفة القائد المطاع . وإلى جانبه وقف بعض الكهول والشباب الأقل تحمسا للعنف . وتذكرت بأنني ـ عندما كنت بصدد التصدي لأهل القرية ـ لم ألاحظ وجوده بينهم ، لكنني لم أعر ذالك أدنى اهتمام ، ولم أتوقف عنده بتفكيري ولو للحظة ، ولم يدر بخلدي ـ أبدا ـ أنني سأجده هنا وفي هذا الموقف. وأنا أخترق الصفوف إلى حيث كان يقف الرجل ، وقبل أن أقرر خطوتي التالية ، فوجئت بوالدي يشق الصفوف نحوي وهو يصرخ في غضب : اغرب من هنا فهذا الحشد حشد رجال ولا مكان فيه للجبناء ، لكن وقبل أن يصل إلي وثبت والدتي من مكان ما لتأخذني في حضنها بعيدا عنه ، كانت عيناي تفتشان عن جدي ابتغاء نصرته كما عودني في مثل هذه المواقف ، لكنه حين رآني أجفل وتفادا النظر في وجهي ، ولم يلبث أن تطفر الدمع من عينيه ثم تمتم بحزن عميق وأسى : آه يا ولدي ليتني مت قبل هذا اليوم ، أوليتك لم تولد . فردت عليه والدتي: ولماذا كل هذا ؟ لقد كان على حق عندما حاول منعكم من هذه المصيبة ، والحمد لله على وجود “محفوظ” فلولاه لكانت الدماء تملأ الوادي . وربت على كتف والدتي عندما رأيتها تحاول جاهدة إبعاد تهمة الجبن عني وقلت :
  • ـ لا عليك ـ يا والدتي ـ المهم ألا تحدث الكارثة. فقال أحدهم كان يقف على مقربة مني:
  • ـ ليتها وقعت . فقلت له مستنكرا :
  • ـ وماذا ستكسبه من وراء ذالك ؟ فرد في برود ، لكن بصدق :
  • ـربما أموت قبل أن أرى أمورنا تساس من طرف هذا الدعي و”أهل أدباي ” أغضبتني مقالة الرجل هذه ـ لا أخفي عليكم ذالك ، لكن وقبل أن أرد عليه ـ انبرى له أحد شباب “أدباي” قائلا في لغة هجومية صريحة :
  • ـ إن كنت تعني ما تقول ، فهاهي خيم البدو أمامك فأذهب إليهم ، لكنك تعرف بأنك جبان ، واغلب الظن أنك ستموت متخوما عندما يحين أجلك . وبينما كنت أهدئ الرجلين انطلق صوت من وسط الحشد يقول مخاطبا “محفوظ” في تبرم واضح ونفاذ صبر:
  • ـ لقد عيل منا الصبر ، قل لنا ماذا تنوي فعله أو خل بيننا وبين مانحن مقدمون عليه ، فجاوبه آخر في نبرة أقل ودية :
  • ـ إن لم تكن تلك طريقة في التخاذل مبتكرة ؟ فما شأننا بما ينوي أو لا ينوي فعله ؟ وصاح آخر: ـ هيا، لنثبت للجميع بأن مفعول سحر هذا الساحر قد انتهى . ؟ وسرت عدوى التمرد هذه بين الحشد سريان النار في الهشيم ، فتعالت ألأصوات المطالبة بالمضي قدما نحو مهاجمة البدو. وصرخ أحدهم قائلا ـ وكان يطلق النار من بندقيته في الهوى بحماس ـ حتى وإن لم نملك سببا كافيا لنفعل ذالك، فيكفي أنه سيجعل هذا الدعي يعرف قدره وحدوده. فزجرته قائلا :
  • ـ تعقل يا هذا ، وكف عن التحريض .فرد علي باستهتار:
  • ـ وماذا أفعل بالعقل ؟
  • ـ لن تحتاجه في وقت آخر أكثر من الآن.
  • ـ لم يحن بعد الوقت الذي أتقبل النصح فيه منك، ومن أمثالك.
  • ـ بلى ، قد حان وسترى . وقبل أن يتطور الموقف بيني وبين الرجل. ظهر حشد البدو فجأة في الجهة المقابلة . لقد كانت مضارب خيامهم قريبة من الحقول، ولا بد أنهم لا حظوا احتشاد أهل القرية على ذالك النحو العدواني الواضح، فشعورا بالاستفزاز وربما بالخطر، فأرادوا أن يعبروا بدورهم عن استعدادهم لمواجهة الأسوأ في حالة حدوثه. لكن كان واضحا من طريقة تجمعهم بأنهم كانوا أكثر انضباطا من جماعتنا بشكل كبير. فقد تجمهروا بشكل منظم ، أقرب إلى الاصطفاف منه إلى الاحتشاد ، وكانوا قليلوا الضوضاء ويتقدمهم رجال كبار السن لا يعطون الانطباع من خلال هيئتهم بأنهم مقبلون على شر. ربما لأنهم كانوا قليلوا العدد قياسا الى عدد أهل القرية ، أو ربما لشعورهم بالذنب ، وبالمسؤولية عما يحدث . وانتهزت حالة الترقب التي ألمت بالحشد عندئذ ، فقلت مستبقا الأحداث موجها كلامي إلى “أخطورة” “المخطار”محاولا التودد إليهم :
  • ـ يبدو أن الجماعة يريدون أحدا ما ليتحدثوا إليه فلنرى ما ذا لديهم ؟ وبينما شجب البعض فكرتي بشدة، وافقني الرجلان الرأي. فربما وجدا في استشارتي لهما نوعا من رد الاعتبار. بعد أن تجاوزهما “محفوظ” بتصديه لزحف حشد أهل القرية دون استشارتهما.
  • توجهت نحو حشد البدو صحبة بعض من رجال القرية، فاستقبلوني مرحبين بنفس العدد تقريبا في منتصف المسافة بين الحشدين. وبينما كنا نستعد للدخول في نقاش الموضوع ـ التحق بنا عدد من رجال القرية، ولم نلبث أن انضم إلينا رجال من الطرف الآخر. وتصاعدت وتيرة التسلل من كلا الحشدين نحونا وتسارعت لينتهي المطاف بالجميع إلى التحلق حولنا . كنت اعرف أن من شأن ذالك أن يعقد من مهمتنا ، وربما يكون سببا في نسفها من الأساس ، لكن الناس يكونون أقل انضباطا في مثل هذه الأجواء ، وأكثر استعداد للتحدي وللعصيان ،وأقل نوع من الاعتراض على رغباتهم قد يكون سببا في إثارتهم . ومع ذالك فقد نجحت جهودي وجهود بعض الطيبين في الإبقاء على النساء والأطفال بعيدا عن المكان ، إذ أنهم غالبا ما يشكلون في مثل هذه المواقف شرارة الفتنة و وقودها .
  • بدأ النقاش في أجواء هادئة نسبيا ، لكن رغبة البعض من “أهل القرية في أن تتسع دائرة النقاش لتشمل قضايا وأحداث لا صلة تربطها مباشرة بما حدث، حوادث قديمة، وخلافات أقدم تتغذى على خلافات قبلية مضت أكل عليها الزمن وشرب.سرعان ما سمم الأجواء ، فقد رفض البدو بشكل قاطع التعاطي مع الموضوع من تلك الزاوية ، وأصروا على ضرورة التركيز على ما حدث . قال أحد شيوخ البدو :
  • ـ لا أدري إن كان ذالك كافيا ، لكننا نبرأ إليكم مما أقدم عليه هؤلاء السفهاء . فرد عليه “اخطورة” :
  • ـ منذ سنوات خلت كنتم هنا، للسبب ذاته الذي انتم من أجله اليوم هنا. ويومها أبديتم نفس الروح التي تبدونها الآن أقصد روح الاعتذار والتأسف، وندرك الآن كم كنا مخطئين عندما صدقناكم، وكم كنا سذجا حينما قبلنا اعتذاركم. فرد عليه أحد البدو :
  • ـ لا أحب النبش في الماضي كثيرا، لكنني لا أذكر أن ما حدث ساعتها كان يستلزم أي اعتذار أو تأسف من طرفنا، لكننا أردنا إزالة أي لبس بشأن حقيقة نوايانا اتجاهكم.
  • ـ ما تهون من شأنه يعد في نظرنا تكرار لما نحن بصدده الآن . فقد جئتمونا تستأذنون المقام بأرضنا بشكل مؤقت لنتفجأ بكم تحفرون فيها الآبار، وتغرسون النخيل . فقال أحد البدو:
  • ـ كان ذالك وضعا مختلفا، وعموما فإننا لم نأت لنتحدث في أشياء صارت جزءا من الماضي. فقال “ازوين”
  • ـ مازالت مرارة الخيبة جاثمة في حلوقهم، وإنه لشيء يبعث عل الإعجاب ـ حقاـ هذا الإصرار منهم على عدم النسيان. فقال أحد البدو:
  • ـ عن أي خيبة تتحدث .
  • ـ خيبتكم في الحصول على موطئ قدم في هذه الأرض .
  • فقال أحد البدو:
  • ـ كنا نود أن نسمع نغمة مختلفة عن هذه فقد جئنا لنهدئ لا لنثير. ؟ فرد عليه احد رجال القرية باستهزاء :
  • ـ نغمة مختلفة ! أن نهنئكم مثلا على ما أرقتموه من دماء أبنائنا ، وما أتلفته حيواناتكم من مزارعنا ؟
  • ـ ليس ذالك أفضل شيء نحب أن نهنأ به ، وإنم… فقاطعه “ازوين” قائلا:
  • ـ لعلهم كانوا يتوقعون أن نستقبلهم بالدفوف وبالمزامير؟! فرد عليه أحد البدو في نفاذ صبر:
  • ـ كفى سخرية أرجوكم، ولنتحدث ك…فقاطعه أحد رجال القرية :
  • ـ أنت محق ! كفى سخرية ، وكفى استهزاء . نعم كفى . ثم وأردف : لطالما سخرتم منا واعتبرتمونا أقل شأنا من الآخرين ، فتجاهلنا . ولطالما استهزأتم بنا فتحملنا وصبرنا . كم مرة زاحمتمونا المراعي فتركناها لكم وارتحلنا، وكم مرة ضايقتمونا عند الآبار، فصبرنا حتى سقيتم، واعتديتم علينا فكتمنا ، وعدوتم على حيواناتنا فدارينا. لكن كفى فقد ولى ذالك الزمان إلى غير رجعة .ولا مزيد من الصبر لدينا اليوم لنقارع به حرقة طيشكم ، ولا ملجأ نهرب فيه من ملاحقة اعتداءاتكم . و… عند هذا الحد قاطع أحد البدو الرجل قائلا :
  • ـ لقد أخفتنا من أنفسنا وكرهتها إلينا ، و… فقاطعه أحد جماعته :
  • ـ لعله كان يتحدث عن ناس آخرين، ف… وقاطعه “المخطار”
  • ـ بل كان يتحدث عنكم .لكن عندما تكونون على سجيتكم . فقال البدوي :
  • ـ وأين كنا عندما كان يحدث كل هذا ؟ فرد عليه زميله
  • ـ ربما في بطون أمهاتنا !
  • ـ أو لعلنا كنا نياما ! فقال “المخطار” غاضبا:
  • ـ طريقتكم في الثأر هذه تبدو ذكية، لكنها دنيئة وتليق بالجبناء. . فرد البدوي في غضب:
  • ـ لدينا الكثير من النساء المشاغبات ، يعرفن كيف يعيرن ويتويلن ويلطمن خدودهن ، بشكل أفضل من ذالك ، لكننا أردنا رجالا نتحدث إليهم .وليس نساء نتشاتم وإياهم . فازداد “المخطار” غضبا وقال :
  • ـ ومتى أصبحتم رجالا.
  • ـ كنا كذالك دائما ، وإن كان آباؤك غفلوا عن أن يخبروك ، فبإمكاننا أن نتولى الأمر. ونكأت كلمات البدوي في نفوس جماعتنا شعورا مزمنا طالما عذبها وأرهقتها محاولة التغلب عليه ـ بأنها لم تكن صاحبة مآتي ، ولا مآثر حربية أيام السيبة ـ الأثيرة ـ بها تذكر. وأشعلت فتيل حساسيتها المفرطة اتجاه كلما من شأنه تذكيرها بماضي أجدادها البطولي المتواضع. تلك الحساسية التي طبعت سلوك الكثيرين منها بالفاشية، وجعلت ردود أفعالهم غالبا تبدو غير منسجمة مع مثيرها، ومن حرصهم على وحدتهم ـ المبالغ فيه إلى حد كبيرـ نوعا من التضامن المرضي إلى حد ما. وهاج البعض، وماج وكادوا يسطون البدوي، لولا أن جماعته قامت بإجلائه من المكان. وصاح “أحمد ولد المخطار” غاضبا فيما يشبه الزئير:
  • ـ لا تدنس آبائنا بذكرهم بفمك يا قليل الأدب. فرغى البدوي وأقبل نحوه ، لكن احد الشيوخ من جماعته أمسكه وقام بإبعاده من جديد .وهدأت الضجة قليلا ، لكن لتعود وهذه المرة بشكل ينذر بوقوع الكارثة . عندما قال أحد البدو فيما يشبه المناشدة:
  • ـ دعونا نعرف ماذا تريدون، ولننهي هذه المسألة بسرعة. فانبرى له “طالبن” قائلا في استفزاز :
  • ـ ستنتهي هذه المشكلة ـ فقط ـ عندما تسلمون الجناة لنقتص منهم أمام الجميع ؟ فرد عليه أحد البدو بمثل لهجته :
  • ـ دون ذالك قطع رؤوسنا ! فرد “أحمد ولد المخطار”
  • ـ نقطعها ـ إذا ـ ولا نبالي. فتشاتما وانتصر لكل واحد منهم البعض من جماعته، واحتدم الكلام بين الجميع وعلا الصراخ والمهاترات والتنابذ. وأنقسم كل فريق على نفسه ، فكان بعض أهل القرية والبدو يحاول أن يهدأ و يلطف الأجواء ، وكان بعضهم الآخر يحرض ويؤلب ، وتشعبت الآراء ، وتعالت الأصوات بالسباب والشتائم . و وانتظرت على أمل أن يتدخل ” أخطورة” أو “محفوظ” أو أي كان ، لإنقاذ الموقف المتدهور بشكل مريع ، لكن أحدا لم يحرك ساكنا ، ومرت لحظة وصل فيها الأداء العقلي ما بين الفريقين إلى أدنى مستوياته منذ بدأ النقاش، وبدا جليا بأن الرباط الإنساني بين الطرفين آخذ في التحلل والاندثار. فوجدتني مجبرا مرة أخرى على اتخاذ المبادرة فقلت :
  • ـ لا ينبغي أن نفرط في هذه الإرادة الطيبة التي جاء بها الجميع إلى هنا لإيجاد مخرج ودي من هذه المشكلة، ولذا أرى أن نصرف الناس الآن، ولنشكل لجنة من الطريفين تتولى مهمة معالجة الأمر بعيدا هذا الصخب وهذا الجو المشحون. ما أردته من وراء هذا الاقتراح هو امتصاص حماس كلا الطرفين للعنف ، وآخر شيء توقعته هو أن يجد أدنى حد من القبول من قبل هؤلاء الناس المنفعلون حتى الثمالة ، لم يخب ظني على أي حال فما إن أنهيت كلامي حتى تعالت أصوات الرفض والاستهجان ، بل ، والتوبيخ والسباب . وعلى الصخب وساد الضجيج والفوضى من جديد ، وبدا الانفجار وشيكا. في تلك اللحظة المشحونة بشتى الاحتمالات ـ وبينما كان اليأس يجتاح آخر معاقل الأمل في نفسي ـ رأيت “محفوظ” .يخترق الصفوف بخطى بطيئة لكنها واثقة إلى أن توسط الجمع حيث وقف متكئا قليلا على عصى كانت في حوزته ثم قال ـ بصوت هادئ ورزين ـ قال:
  • ـ بالنسبة لحصان يعدو بطاقته القصوى ، فإن المسافة إلى المقاطعة من هنا قصيرة جدا ،قصيرة جدا ، وهي ـ وبدون شك ـ بالنسبة للسيارات العابرة للصحراء ـ ستكون أقصرمن ذالك بكثير . ما جرى كان حدثا بسيطا وعاديا ، ورغم ذالك فقد توقعت أن البعض سيضخمه وربما يتخذ منه سببا للإثارة والفتنة ، وإنه لأمر مؤسف حقا أن يصدق توقعي . ولذالك فقد أرسلت أحدهم ليخبر الحكومة في المقاطعة. وأتوقع أنه في غضون ساعة أو أقل ربما ـ ستكون فرقة من الحرس أو الدرك قد حلت بنا، وحينئذ ـ أرجو ألا يبادر هؤلاء الفرسان الأشاوس المتحمسون جدا للقتال ـ إلى الاختباء في الوديان، ودفن أسلحتهم تحت أكوام القش. إننا لانريد أن نقمع إرادة أي احد في أن يصبح بطلا، والطموح في الشهرة حق مشروع للجميع، لكننا لن نداري على أي كان، ولن نتستر عليه. وبالنسبة لأولئك الذين يعتقدون بأن طريق هذا هو طريق المجد ، وأنه الأنسب لحفظ هيبة القبيلة والرفع من شأنها ، فيمكنهم تجاهل الأمر والمضي قدما وفق ما يعتقدون ، لكنهم سيتحملون المسؤولية الكاملة عما سيحدث ، وعليهم وحدهم أن يواجهوا تبعاته . إننا معنيون جميعا ـ أكثر حتى من الحكومة نفسها ـ بأن يسود السلم والأمان في كل هذه الربوع. وهو أمر ممكن ومتاح لكن ليس دائما وبدون أي مقابل. وهو بالمناسبة ـ وبالنسبة للموضوع الذي نحن بصدده بعض التسامح القليل ، والقليل من الإيثار وحسن الظن بالآخرين . إننا جميعا إخوة، وما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا وفرصتنا في أن نحيى حياة كريمة وهادئة هي في ظل المحبة والإخاء أكبر بكثير منها في ظل التباغض والكراهية. وأعتقد انه سيكون من المفيد لنا حين تصل الحكومة إلى هنا ـ أن تكون هذه مظاهر الفتنة كلها قد اختفت نهائيا. وعلى الطرف المتضرر ـ إن هو رغب في ذالك أن يتقدم بشكواه حينئذ أمامها. فهي وحدها من سيثأر له ، وهي وحدها المخولة بذالك . وفعل تهديد الرجل المبطن فعله في نفوس المتشددين من كلا الطرفين ، فأنخفض مستوى هياجا نهم فجأة وخبا أواره ، وعلا وجوههم الوجوم وهدأ غليانهم . وبدأ البعض منهم يتوارى وسط الحشد لواذا ، ويتراجع إلى المواقع الخلفية . في حين أثلج كلامه صدور أولائك الأقل تشدد الراغبين في إنهاء الموضوع وديا ، فتعزز موقفهم أخذت نبرتهم الداعية إلى الهدوء والتعقل تعلو شيئا فشيئا، لكن ليس دون بعض التشويش . فقال أحد البدو في مايشبه الاعتذار:
  • ـ ما حدث كان عمل سفهاء ، ونحن نشجبه وندينه بقوة .فقال “أخطورة ”
  • ـ كفوا عن تريد مثل هذه العبارات، فهي غير كافية لكي نتنازل عن حقوقنا. فرد البدوي بقوله :
  • ـ لا أحد يطالبكم بذالك . لكن ذالك لا يمنع من أن نعبر لكم عن عدم موافقتنا على ما حدث.
  • ـ عندما يحل منم ـ يملك كل هذه الأعداد من الحيوانات ـ قريبا من المزارع إلى هذا الحد فلا يمكن إلا أن يتوقع حدوث مثل هذه الأمور. فقال “طالبن ” في تهكم :
  • ـ إلا إذا كان بليدا جدا، أو غبيا. وقال “ازوين” :
  • ـ أو ذكيا جدا وحاذقا، لكي يعرف كيف يفعل فعلته، ويعرف من ثم كيف ينجو بها. فقال ” المخطار” :
  • ـ أو يكون واثقا من أن الآخرين بلداء إلى الحد الذي يجعلهم يصدقوه عندما يزعم ذالك .فرد البدوي وبأسلوب هادئ :
  • ـ حللنا هنا اضطراريا ، و ظننا بأننا كنا حذرين بما يكفي ، لكن يبدو اننا كنا مخطئين ونحن نعترف بذالك . فقال “المخطار” في امتعاض ِ
  • ـ الدخلاء وحدهم يمكنهم أن ينخدعوا بمثل هذا الكلام ـ وإن كنا لا نجد سببا لحشرهم انفسهم في مثل هذه الأمور.لأنهم ببساطة يجهلون تاريخكم العدائي معنا . فلطالما طمعتم بهذه الأرض ، بل و ادعيتم ملكيتكم لها . ونازعتمونها حين أردنا أن نتقرى بها وبذلتم ما بوسعكم للحيلولة دون ذالك . ولم تتوقفوا ـ منذ أن خاب مسعاكم ـ عن استفزازنا والتحرش بنا. إلى أن وصل بكم الأمر إلى حد إراقة دمائنا. وطالما أنكم غير قادرين على السيطرة على أنفسكم فينبغي أن يقوم غيركم بذالك. فتدخل “محفوظ” متجاهلا تعريض الرجل به وقال:
  • ـ دعونا نخطو إلى الأمام و… ؟ فقاطعه “المخطار” بامتعاض
  • ـ لقد اختلطت علينا الجهات فلم نعد نعرف الأمام من الخلف ؟ فضحك ” محفوظ” وقال :
  • ـ لكن الشمس ساطعة ، ومعالم الأشياء واضحة ؟ فرد “المخطار” :
  • ـ لا بد من أنك تراها كذالك فقد صعدت عاليا، وعاليا جدا، وأكثر كثيرا مما ينبغي. وكادت الأمور حينئذ أن تنحوا منحا مغايرا تماما عندما ضاقت “أمباركه أعلينا” ـ أم زوجة “محفوظ” ـ ذرعا بتعريض “المخطار” المستمر بزوج ابنتها ، فانبرت له قائلة في لغة هجومية قاسية :
  • ـ وما الذي يجبره على البقاء في الأسفل ـ يا” مخطار” ـ مادام بإمكانه الصعود إلى الأعلى ؟ وأين ينبغي أن يتوقف في صعوده ، ومن يحق له أن يحدد ذالك ؟ ، ثم أردفت: لماذا ينسى البعض نفسه ومن هو، ويستبيح أعراض الآخرين؟ . و ما بالكم تغموزه وتلمزوه ، ولم يفعل سوى أنه حال بينكم وبين الجري وراء الشيطان ؟ ، ثم ما ذا فيه ليغمز أو يلمز؟. شريف ولد النبي . ومتعلم، وكريم، وحاذق . وكنتم ـ لولا اللؤم المستوطن في نفوسكم والحسد المتأصل بها، وحبكم الظهور والتعالي على الآخرين ، ـ لتضعوه تاجا فوق رؤوسكم الملآ بالحقد والكراهية . ثم من منحكم ـ يا “مخطار” الحق الحصري في تقرير مثل هذه الأمور، بحيث يعد تدخل غيركم فيها حشرية ونوعا من الفضول ؟ . ولماذا تتوقعون أن تقابل مبادراتكم واقتراحاتكم ـ بالإشادة والقبول، بينما ينبغي مواجهة ما يصدر من غيركم بالشجب والاستنكار؟. و هل كان ليصل الأمر إلى هذا الحد من الحماس والاندفاع من قبلكم ، لو كان ضحايا هذا الحادث من أطفال “ادباي” أم أنكم نسيتم ردود أفعالكم ، وما قمتم به عندما كنا بصدد الثأر من ” الفلان” على أثر قتلهم ” ولد امرييم ” . ألم تدعوننا يومها إلى التروي والأناة، وحاصرتمونا بالوعظ وبالإرشاد، ورجوتمونا أن نترك العقل والحكمة يتوليان معا لجة الأمر؟ حسنا أليس هذا ما دعاكم إليه “محفوظ” فلم كل هذا ؟ لا قتلى، ولا عاهات، ولا حتى جروح خطيرة، مناوشات جرت بين أطفال وأطفال مثلهم شيء مألوف ولا سلطان لأحد عليه. وإذا كنتم ستمتشقون أسلحتكم هكذا وتستنفرون قواكم على هذا النحو كلما حدث شيء مماثل، ففكروا كم مرة في اليوم ينبغي عليكم أن تفعلوا ذالك.
  • وران الصمت على المكان وأطبق الذهول على الحضور، جراء هذا الهجوم الضاري وغير المتوقع الذي شنته المرأة على الرجل المهاب. لكنها “امباركه اعلين ” المعروفة بشيخ “أدباي” التي كانت حين تهيج تخلع كل شيء يرمز إلى أنها أنثى حتى ملابسها النسائية تستبدلها بملابس الرجال . والتي كان الجميع يهابها ، ويخشى سطوة لسانها ، صولاته .حتى ” أخطورة” نفسه “عربيها” رغم قسوته وطبعه العنيف ، لم يجرؤ منذ أن بلغت سن الرشد على أن يأمرها ـ يوما ـ أو أن ينهاها . وحين كان يريد منها أمرا كان يأتيها سائلا متوددا. وتمتم “أخطورة” قائلا
  • ـ لماذا لست مع النساء ( يا مخلوقة مولانا)
  • ـ ومتى كنت امرأة ؟
  • ـ ليس في أي وقت ، لكنني نسيت . والعتب على ضعف الذاكرة .وتدخل “محمد العبد” زوجها في محاولة لإسكاتها ، لكن على استحياء ـ فقد كان أهل “ادباي ” يتندرون بأنه كان يخافها ـ فلم تعبأ له . ولم تهدأ إلى أن جاءها “محفوظ” وربت على منكبها ثم سحبها بهدوء إلى حيث كانت تحتشد النساء . وهناك واصلت المرأة على ما يبدو هجومها العنيف على “المخطار” مما استفز بناته وقريباته ، فانبرين للدفاع عنه .فنشبت بين الجميع مشادات حامية وعنيفة صرفت أذهان الكثيرين من أهل القرية عن الموضوع الأصلي . وانتهز احد البدو فرصة الفتور الذي ألم بأهل القرية فقال:
  • ـ إذا كان رحيلنا سيحل المشكلة فسنرتحل غدا إن شاء الله . فقال ” أحمد ولد المخطار” :
  • ـ بل ترحلون الآن . فرد عليه البدوي قائلا :
  • ـ كما تشاؤون . وتدخل “ازوين” فقال
  • ـ ودماء أبناءنا ؟ فرد عليه ” محفوظ”
  • ـ قلنا : لندع أمرها للحكومة . فتمتم “ازوين” قائلا
  • ـ ذاك هو التفريط بعينه .
  • ـ ما ذا تقول ؟
  • ـ لم أقل شيئا، لكنني لا أجد سببا لكل هذه الثقة في الحكومة ؟ فقال أحد البدو:
  • ـ هل كان من الضروري أن نقحم الحكومة في الموضوع ؟ فرد “محفوظ”
  • ـ كيف لا ،و قد وصلت الأمور إلى هذا الحد ؟ .فرد البدوي بشيء من عدم الارتياح :
  • ـ كنا نود اعتبار ما حدث أمرا عاديا، صدامات جرت بين أطفال ورعاة شيء يحدث غالبا. أما أن يتخذ منه سببا للإثارة والفتنة والمطالبة بالدماء، فأمر لم يخطر لنا على بال. فرد عليه احد شيوخ البدوي بلهجة زجرية:
  • ـ ومتى كان مثل هذا عاديا، وهل تقاتل الناس و تفانوا إلا بسبب مناوشات بين أطفال ورعاة، وأشياء من هذا القبيل ؟ ثم أردف لقد حضرنا إلى هنا برغبة حقيقية في إنهاء هذا الموضوع وديا وبصفتكم المتضررون، فنحن مستعدون لسماع مطالبكم. فقال “محفوظ”
  • ـ بل هو شيء عادي كما قال، لكن بالنسبة لأولئك الذين طالما تاجروا بآلام الناس وفي مصائبهم. والذين تعودوا أن يصطادوا في الماء العكر. فإنه لاشيء في دنياهم عاديا. ثم أردف : لقد تم إخطار الحكومة ولا مناص من انتظارها. وأيا كان ما سيحدث ـ ونتمنى أن يكون خيرا إنشاء الله ـ فعليكم أن توروا سفهاءكم الطريق القويم ، وليبتعد رعاتكم عن المزارع مسافة كافية عندما تنتجعون. قال هذا ثم طلب من البدو الانصراف، ودعا أهل القرية إلى مغادرة المكان.
  • ولا حظت أن استجابة رجال “أدباي” كانت أسرع لدعوته ، وكذالك كان تجاوبهم مع آرائه وطلباته ، لكن الجميع كانوا على ما يبدوا ، حين يريد الرجل ، ينصاعون له . وكان أشقى الناس بذالك ـ قاطبة “اخطور” زعيم القبيلة التقليدي ، والذي أزيح بهدوء من على عرشه ـ بصفته المتصرف وحده في أمور الحي ـ من طرف هذا الدعي كما وصفه ، والبغاث الذي في أرضه أستنسر. لقد قالها صراحة لكن دون أن يجرؤ على المجاهرة بها ، وكان حين انفض الجمع من حوله ينتفض في حنق وغضب ، وقد اكتسى وجه حليفه “المخطار” بمعالم استياء واضحة للعيان ، وكان بدوره يتمتم ومشاعر الإحباط تعربد في رأسه ، فأولئك الذين طالما جاروهما وركضوا خلفهما بلا تردد ، وجدوا في هذا الرجل كما أرى شيئا افتقدوه فيهما . ولا عجب . فقد كان يتمتع بذكاء حاد وكان حضوره متميزا وفذ ، مما أضفى على شخصه قداسة وهيبة ،قرأتهما اليوم في أعين أهل الحي. وخمنت أن “محفوظا” هذا لا بد أن يكون شخصا آخر، شخصا مختلفا كليا عما كنت أحسب ـ إنه إن لم يكن الرجل الذي تعرفت عليه في ساحل العاج فلا يعدو كونه إنسانا عاديا قادته الصدف إلى هنا، بعد أن ضاقت به الظروف في أهله ، ووجد ضالته في بساطة أهلي فطاب له المقام بينهم ، وإنما هو عالم آخر جاء يغزوا هذه البقعة والتي ما زال أهلها يستعطون السماء باستجداء القبور.
  • عندما جاءت فرقة الحرس إلى القرية اختار آمرها دار “محفوظ” للنزول عندها فوقع الخبر على “أخطورة” و “المخطار” وقع الصاعقة . لكنهم مع ذالك حضرا الاجتماع الذي عقدته الفرقة بالبدو وأهالي القرية ، فقد أدركا على ما يبدو أن لا أحد سينتظر قدومهم ، فخافا أن تجاوزهما الأحداث بشكل يقضي نهائيا على ما تبقى من هيبتهم . فجاءا كأنما يساقون إلى الموت يقدمان رجلا ويؤخران أخرى . وجاء البدو ومعهم الرعاة المسئولون عن الحادث، وابدوا استعدادهم لفعل أي شيء من شأنه إنهاء المشكلة. وسوي الموضوع بشكل ودي عندما قرر الطبيب المصاحب لفرقة الحرس بأن جميع جراح المصابين كانت سطحية وخفيفة وبلا خطر.
  • بعد ذالك بنحو أسبوع وبينما كنت أجتاز الوادي الذي يفصل بين القرية والحقول ـ وأنا عائد من المزارع قبيل المغيب بقليل صادفت “محفوظ ” وكان قادما بدوره من جهة الحقول. تبادلنا تحيات حارة ، ثم واصلنا طريقنا نحو القرية . ولأمر ما انحنى الرجل قليلا فوقعت علبة سجائر من نوع “جيتان” من جيبه . سارع إلى التقاطها بخفة ثم دسها في جيبه على عجل، لكنه لم يلبث أن عاد وأخرجها ليشعل منها “سيجارة” لا أدري لم فعل ذالك، لكنني خمنت بأنه ربما كان يريد إخفاءها عن ناظري، وتصرف على ذالك النحو حين أدرك بأنني رأيتها. وساد صمت مفاجئ على أثر ذالك مسيرنا ، لكنه كان مشابا بنوع من الترقب . فمضينا صامتين وخيوط الدخان تتصاعد من فم الرجل ومنخريه تتشابك حين ينفثها ببطء مكونة سحبا صغيرة لا تلبث أن تتلاشى حين يعبث بها الهواء، وعندما لم يبقى من السيجارة سوى عقبها سحقه تحت قدمه، ثم التفت إلي مبتسما وقال:
  • ـ ألن تسألني عن أين تعلمت تدخين “الجيتان” ؟ فقلت ـ وكأنني غير مكترث للأمر ـ
  • ـ ليس ذالك بالشيء الغريب، فنحن لسنا معزولين تماما، أقصد أننا لسنا بعيدين جدا من المدينة.
  • ـ بل غريبا . وتنهد من أعماقه تنهيدة أثارت فضولي ، وقذفت بكم هائل من الأسئلة في ذهني ، فقلت في نفسي : أسأله عن مدى صدق مزاعم جدتي حول هويته وحول حياته ؟ و أترجاه أن يخبرني بصدق عما إذا كان اللبس الحاصل في ذهني بشأنه له ما يبرره ، وأسئلة أخرى كثيرة تعتمل في رأسي . لكن ، لعله يغضب ، أو لعله يغالطني أو … وحالت لعل بيني وبين أن أسأله ومشينا خطوات أخرى قبل أن يقول لي:
  • ـ وما الذي كان في، وأثار استغرابك عندما التقينا للمرة الأولى ؟
  • ـ لا شيء. أعني لم يكن الأمر يتعلق بشيء غريب. عندما رأيت وجهك بدا لي مألوفا وحسب .
  • ـ مألوفا إلى أي حد ؟
  • ـ إلى حد أنه ذكرني بوجه أعرفه .
  • ـ ذكرك به، أو أوهمك بأنه هو ؟
  • ـ أظنني أخبرتك .
  • ـ أكان ذالك في ساحل العاج ؟
  • ـ نعم
  • ـ ما كان اسمه ، أقصد صاحب الوجه .
  • ـ أحمد . أحمد ولد المامون . وصمت الرجل، صمت طويلا حتى ظننته لن يتكلم، قبل أن يقول ـ هبني هو؟ فقلت ضاحكا :
  • ـ لكنك ” محفوظ” !
  • ـ ربما غيرت اسمي .
  • ـ عند ذالك أعتقد أنه من حقي أن استغرب ؟
  • ـ أمن الخطأ فعل ذالك ؟
  • ـ ليس إن كان له ما يبرره ؟ . نظر إلي بطرف ، ثم قال :
  • ـ وما الذي يمكن أن يبرر ذالك ؟
  • ـ أشياء كثيرة .
  • ـ مثل ماذا ؟
  • ـ حسنا . إذا أراد أحدهم أن يتخفي فاعتقد أن أول شيء سيفكر فيه هو تغيير اسمه ؟ فقال ضاحكا ـ إن كان هذا أفضل تدابيرك حبكة ، فلا أنصحك بمحاولة التخفي ،لأنه سيتم القبض عليك فورا ، وبأقل جهد ممكن .
  • ـ كيف ذالك ؟
  • ـ لأن هذا ما سيفترضه مقتفي أثرك . فتزداد فرصه بالقبض واحدة . وفكرت في أن أسأله ترى هل أنت هنا متخفيا ؟ وهل ثمة من يقتفي أثرك ؟ لكنني صرفت ذهني عن ذالك ، وقلت له مازحا :
  • ـ سأكون سعيدا إذا ما قبلتني عندك تلميذا ؟ فضحك أكثر وقال :
  • ـ سيشرفني ذالك بدون شك .
  • دخلنا القرية وقد حان وقت صلاة المغرب فطلب مني أن أصحبه إلى بيته لنصلي جماعة، و لنشرب ـ من ثم ـ الشاي معا. ووجدت في دعوته فرصة للتقرب منه طالما انتظرتها ، ومناسبة للتعرف عليه أكثر ولتعزيز الصلة به. والحقيقة أن اهتمامي بالرجل قد تضاعف كثيرا بعد حادثة الرعاة تلك، إلى درجة بات معها شغلي الشاغل معظم الوقت. فأسلوبه الهادئ في التعامل مع أطرافها قد بهرني كثيرا، واستحق إعجابي بلاؤه الجيد في إدارتها. وكنت أجدني ـ من جهة أخرى ـ مدينا له أدبيا بشكر من نوع خاص. ولن أجد فرصة أفضل من هذه لأفعل ذالك. ربما تأخرت قليلا، والواقع أنني فكرت في الأمر يومها، لكن ظروف الحادثة وما تبعها حالت دون ذالك. فرغنا من الصلاة ، ثم بدأ الرجل في إعداد الشاي . عندما صب الكأس الأولى التفت إلي وقال مبتسما :
  • ـ المعذرة، أنا أعرف أنكم معشر أهل المدن تفضلون الشاي بالنعناع ! فقلت له :
  • ـ لست مضطرا للاعتذار، فأنا ـ رغم إصرارك على ذالك ـ لست من أهل المدن. فقال مازحا ـ وهو يحاول التخلص من حالة الحذر التي كانت تطبع حديثه معي ـ قال:
  • ـ ظننت أن ذالك يشعرك بالإطراء . فرددت عليه ـ وقد قررت أن أدفعه في ذالك الاتجاه ما أمكن رددت:
  • ـ وأنا أظن أنك تحاول إبعادي من البداية وحسب. فضحك عاليا وقال :
  • ـ لم ـ تراني أفعل ؟
  • ـ ربما لشعورك بالمنافسة.
  • ـ لكنها تسعنا جميعا ؟
  • ـ لا تبدو واثقا من ذالك !
  • ـ هل غدت أفكاري مكشوفة إلى هذا الحد ؟
  • ـ إن كنت تظنني بليدا فربما أنت على حق ، لكن ليس إلى تلك الدرجة التي تتخيلها ؟ فأزداد ضحكا ، وقال :
  • ـ العفو ، العفو، بل أنت ذكي وهذا ما أتخيله بل وأؤمن به . وضحكنا جميعا، وزال ما تبقى بينا من تكلف. نصب الإبريق للمرة الثانية ثم سألني :
  • ـ لعلك الوحيد من بين ذويك الذي أتيحت له الفرصة للدراسة .
  • ـ صحيح ، فقد كان جدي اللذين ربياني يقيمان في المدينة قبل أن يجبر المرض جدي على ترك عمله في البناء ، ومن ثم العودة إلى “أدباي”
  • ـ هل كان من الصائب أن تترك دراستك مبكرا هكذا، وتسافر؟
  • ـ ذالك ما كنت اعتقده ساعتها ، وأدرك الآن كم كنت مخطئا ؟
  • ـ كنت قد حصلت على الشهادة الإعدادية أليس كذالك ؟
  • ـ بل حصلت على الباكالوريا .
  • ـ من حقك أن تشعر بالندم فعلا ، فالباكالوريا ـ كما أظن ـ شهادة مهمة . إلى درجة أنني رأيت بعضهم يصاب بالجنون عند فشله في الحصول عليها !
  • ـ هي بالفعل مهمة . ولا شك في ذالك . إنها بمثابة عقبة كأداء على الطموحين، والحالمين بمستقبل أكاديمي أو وظيفي مرموق أن يجتازوها أولا. وفي حال الفشل فربما يتخذ الأمر عند البعض طابعا مأساويا .
  • ـ لكنك تجاوزتها !
  • ـ صحيح، ولكن الأمور سارت على هذا النحو ؟
  • ـ يعني أن مجهودك ذهب سدى و كان تعبك بلا طائل .
  • ـ ليس تماما، فكوني تعلمت قلل كثيرا من إحساسي بالخسارة.
  • ـ لكنه لم يعوضها .
  • ـ لم أتوقع ذالك، وأدركت فيما بعد بأن إحساسي بالخسارة ـ أصلا ـ لم يكن له ما يبرره.فالدراسة أساس قوام الشخصية، وهي في حد ذاتها و ـ بغض النظر عن المنافع المادية التي قد تجلبها ـ مكسب عظيم يجدر بالكل أن يسعى وراءه. قال ضاحكا ـ في سخرية تنقصها البراءة.
  • ـ هذا ما يقوله أغلب المحبطين تعزية لأنفسهم، والحقيقة أن كلا منهم كان يحلم بأن يصبح مديرا، أو وزيرا… توضع تحت تصرفه ميزانية يعبث بها على هواه ، لكن الدراسة وحدها ـ في ظل الأوضاع القائمة ـ لم تعد السبيل الأمثل للحصول على ذالك ، فثمة طرق أخرى ..لكن وسكت فقلت :
  • ـ أية طرق ؟ تجنب الرد علي وواصل كلامه فأضاف قائلا ـ بلغة يغلب عليها طابع المزاح:
  • ـ أليس لديك أقارب يعملون في الحكومة ؟
  • ـ تقصد من “أهل أدباي” ؟ طبعا لا. فقال :
  • ـ أولديك أقارب من أهل “لفريج” ؟
  • ـ من الصعب أن أجيبك بنعم دون أن أشعر ببعض الحرج .
  • ـ ولم لا تجنب نفسك الحرج وتجيبني ب لا.
  • ـ شعورك بأنك لا تقول الحقيقة كاملة ، يولد لديك حرجا من نوع آخر.
  • ـ تعجبني صراحتك ؟
  • ـ وغموضك يعجبني أكثر. ترك تلميحي دون تعليق ، وقال :
  • ـ لقد قضت المحسوبية بشكل مبرم ، على الأهلية كمعيار للاختيار. وحلت الواسطة محل الكفاءة كشرط لشغل الوظائف العامة ؟
  • ـ ولذالك فإن الأمور عندنا تسير من سيء إلى أسوء .
  • ـ لا تبتئس ، فيمكنك ببعض المال ـ إذا أردت ـ شراء وظيفة محترمة .
  • ـ لا بد من أنك تمزح . هل هنالك سوق تباع فيها الوظائف ؟
  • ـ وتباع فيها أشياء أخرى ؟
  • ـ أين هي، وكيف يتم ذالك ؟ لم يسمعني فقد كان غارقا في الضحك، أو لعله سمعني وافتعل تلك الضحكة تغاضيا، أو لعله أراد أن يهرب مني. وبسرعة نقل حديثنا بعيدا عن هذا الموضوع، وعن القرية وأهلها إلى مواضيع أخرى في الحياة عامة، وفي المجتمع خاصة، لكنني عدت به ثانية إلى حيث نحن في قرية “النعيم” عندما قلت له:
  • ـ كلما فكرت فيما كان يمكن أن يحدث بين أولائك البدو وبين أهل القرية في ذالك اليوم تلبسني الذعر وأصبت بالدوار.
  • ـ كان يمكن أن يكون شيئا فظيعا و كارثيا .
  • ـ أتخيل معاناتك ، وأنت تتصدى لذالك الحشد الهائج ؟
  • ـ كان لا بد من الصبر والإصرار، فالعنف في مثل هذه الحالات غالبا ما يكون مدمرا.
  • ـ شيء لا يصدق كونك نجحت في ذالك.
  • ـ لم يكن أمامي خيار آخر.
  • ـ لا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل دائما عن كيف تم لك ذالك ؟ ضحك وقال :
  • ـ بالسحر ربما.
  • ـ لابد من أن السحر الذي استخدمته، كان من النوع الجيد جدا ، لكي يفعل فعله بتلك السرعة. ضحك ملأ فمه وقال :
  • ـ ومع ذالك فهو ليس أفضل ما لدي .
  • ـ لا أشك في ذالك، فقد كنت تبدو واثقا من نفسك ثقة لا حدود لها، عندما كنت تخطب في الناس على ذالك النحو المذهل.
  • ـ تكاد تشعرني بالغرور؟
  • ـ من حقك فقد كنت مدهشا حقا وبارعا.
  • ـ هيا يا رجل . لا تجعلني أصدقك .
  • ـ لم تكن كلماتك مجرد عبارات من النوع العادي، بل معاول كنت أحس وقعها حيا على وجوه ذوي وأولئك البدو. وسكت الرجل فجأة ـ لا أدري لماذا ، ففكرت في أنه ربما أحس بالحرج جراء سيل الإطراء الذي أغرقته به ، قبل أن يقول مبتسما، لكن بجدية :
  • ـ هل كنت تشعر باليأس ؟
  • ـ بل بالعجز، وقلة الحيلة .
  • ـ ذالك سبب كاف لتتضخم الأمور عندك إلى هذا الحد .
  • ـ كانت الأمور بالنسبة لي قد خرجت نهائيا عن نطاق السيطرة . فعاد إلى المزاح ، فقال :
  • ـ البركة في نسيبتي . فقد أنقذ تدخلها الموقف في الوقت المناسب.
  • ـ بل البركة فيك ، وفيما بذلته من جهد .
  • ـ لعلك لم تشهد موقفا مماثلا من قبل .
  • ـ لا أبدا . سكت قليلا ثم أردف :
  • ـ و لا أنا ، فقد كانت مشاكلنا في ” أدباي” محدودة في مجملها ، وكانت في الغالب ،من النوع البسيط الذي يسهل التغلب عليه . وفكرت في أن أسأله وماذا عنها قبل “أدباي” لكنني عدلت عن ذالك وقلت :
  • ـ وتغيرت بعد انضمامكم إلى “لفريج ” في القرية ؟
  • ـ إلى حد كبير. وسكت رجاء أن يضيف الرجل المزيد، لكنه لم يفعل. فقلت :
  • ـ عموما هذا شيء متوقع ، ففي ظل كثرة الناس ، وعدم التجانس النسبي ـ طبعا ـ كان لا بد من أن تتضارب المصالح ، وتتباين ألأهواء وتنشأ الحزازات ،وتنمو الحساسيات و… مما يهيئ تربة خصبة لشتى أنواع المشاكل .
  • ـ هذا بالضبط ما فكرت فيه، ولذالك فقد نصحت الجميع بالتريث، وبعدم الاستعجال، لكن حماس البعض كان شديدا، وكنت ساعتها أعتبر نفسي مجرد ضيف.
  • ـ هل تريد القول بأن تلك كانت خطوة خاطئة ؟
  • ـ كانت متسرعة ، وغير موفقة . .
  • ـ لكن بعضهم يرى بأنها كانت ضرورية .
  • ـ كانوا ـ إذا ـ ليبقوا ضمن “لفريج” وحسب ؟
  • ـ ربما أرادوا أن يجربوا الاستقلال.
  • ـ مع مثل تلك الإرادة الضعيفة المترددة، فإن الفشل كان مؤكدا.
  • ـ ربما اكتشفوا بأن الأمر كان تحد أكبر من أن يواجهوه.
  • ـ أكبر من مواجهة تحدي الاستغلال .
  • ـ أظن أن الظروف قد تغيرت ولم يعد مثل ذالك التحدي قائما.
  • ـ أهلا وسهلا ، وكيف حال أهل المريخ ؟ “أهل المريخ ” ! وكتمت شعورا ألم بي بأنني أمام شخص غامضا بالفعل ” وقلت :
  • ـ أعرف أنني غبت طويلا . لكنني كنت ناضجا عندما هاجرت.
  • ـ ليس بما فيه الكفاية ، وستحتاج إلى وقت طويل لكي تدرك حقيقة الأمر .
  • ـ حتى وإن استعنت بك ؟
  • ـ ذالك يتوقف على مدى اجتهادك .
  • ـ سأبذل قصارى جهدي . وضحكنا لحظة قبل أن أقول:
  • ـ لا بد أن لديك تفسيرا أفضل مما قدمته. فقد تم كل شيء في حضورك.
  • ـ لا أدعي ذالك .لكن كان ثمة ـ إلى جانب ما تقوله ـ نوعا من الحنين الغامض للماضي ،و قدرا من عدم الثقة بالنفس، عرف البعض كيف يستغله لصالحه.
  • ـ تقصد “أخطورة” ؟
  • ـ “أخطورة” و”المخطار” وغيرهم .
  • ـ هذا قريب إلى حد ما من تفسير “ازوين” للأمر؟ ضحك طويلا ـ لا بد أنه تذكر بعضا من شطحات “ازوين” ـ وقال:
  • ـ تعرف أن ذالك الر جل ـ بالرغم من أنه مجنون قليلا ـ نادرا ما يخطئ في كلامه الحقيقة .
  • ـ لكثرة ما يتكلم ، فلا بد أن يقع على الحقيقة ولو عرضا.
  • ـ إنه إنسان ذكي !
  • ـ ربما. لكنني لا أرى بأن الأمر كان بتلك السلبية التي تتحدثان عنها، كان من الممكن ألا يتم ، لكن من الصعب الجزم بأن ذالك كان أفضل.
  • ـ هذا يتوقف على الزاوية التي تنظر منها إليه .
  • ـ يبدو لي أن زاوية المكسب والخسارة ملائمة جدا ؟
  • ـ ما من خسارة أفدح من تلك التي تبدو بمسوح المكسب الصافي .
  • ـ هل ينطبق هذا على حالة “أدباي” ؟
  • ـ لقد فرطوا فيما كان يجدر بهم أن يقدموا أرواحهم قربانا في سبيله.
  • ـ فعلوا ذالك بإرادتهم الحرة، وعن وعي، ولقاء مقابل معقول.
  • ـ هذا ما يعتقدونه ، وهو ما يعطي للأمر بعدا مأساويا، فقد سعوا بأنفسهم هذه المرة إلى حيث أريد لهم أن يكونوا دائما.
  • ـ تتكلم وكأن الأمر يتعلق بمؤامرة ما ؟
  • ـ أي مؤامرة أكبر من أن يدفع المرء، وعن طيب خاطر إلى أن يكون عونا على نفسه.
  • ـ إن كنت فهمتك جيدا ، فإنني أخشى من أنك بهذا المنطق تسيء فهم علاقة هؤلاء الناس بعضهم ببعض ؟
  • ـ بل ، قل : تسيء إليها فذالك أقرب إلى الحقيقة ربما ؟
  • ـ لا يسعني إلا أن أفترض حسن النية لديك.
  • ـ لا علاقة للأمر بحسن النية أو بسوئها، لكني وجدت بأن ذالك هو المدخل الوحيد لفهمها على حقيقتها.
  • ـ أعتقد أن علاقتهم ستبقى هي نفسها سواء وجدوا معا أو كانوا منفصلين.
  • ـ لا شيء يبقى هو نفسه، فقانون التغيير لا يعترف بالاستثناءات ؟
  • ـ أليس من المناسب ـ والحالة هذه ـ أن ندع الأمر لقانون التغيير هذا.؟
  • ـ ليس ذالك الخيار الذي أحبذه، فالأنسب أن نتولاه بأنفسنا. لم أعلق، فصب الرجل الكأس الأخيرة وقال:
  • ـ عموما ـ وعلى الرغم من كل شيء فإنه لا شيء هنا يبعث على القلق ، وباستثناء بعض الهفوات التي تصدر غالبا من ناس غير معنيين بالدرجة الأولى ، فإن الغالب على سلوك الناس هنا البساطة والتلقائية ، وربما لو وجد من يقودهم بحكمة وإخلاص ، لتمكنوا من تجاوز الكثير من مساوئهم ، ولعاشوا حياتهم بشكل أفضل . فقلت غير مازح هذه المرة:
  • ـ إنهم سعداء بوجودك ، ولن يوجد أفضل منك للاضطلاع بتلك المهمة ؟
  • ـ العفو.
  • ـ تلك هي الحقيقة، إنهم لا يعرفون عنك إلا القليل، ومع ذالك فهم يعتبرون أنفسهم محظوظين بوجودك بينهم. ابتسم ابتسامة باهتة كما خيل إلي . لعله لم يكن سعيدا ببعض ما تضمنته عبارتي تلك.ثم قال :
  • ـ بل إنني أنا المحظوظ لوجودي بين ناس مثلهم ، ثم أردف ـ وهو ينظف أدوات الشاي ، في نبرة خلت من الدعابة هذه المرة ـ أردف : وعلى كل حال فإن أولائك اللذين يهمهم أمري أكثر من غيرهم لم يشعروني يوما من الأيام برغبتهم في أن يعرفوا عني أكثر من ذالك ، فقد تقبلوني كما أنا ، وتقبلتهم كما هم ، وأملي أن يحذو الجميع حذوهم ، فليس في الأمر ما يستحق العناء . وفهمت بأن الرجل يريدني أن أنصرف أو أن أتوقف عند هذا الحد على الأقل. فودعته شاكرا وانصرفت في هدوء . ووجدت في بيت جدي ـ خليط من رجال القرية، وقد فرغوا لتوهم من شرب الشاي وكان من بينهم “ازوين” و “طالبن ” بالإضافة طبعا إلى جدي، وقبل أن آخذ مجلسي سألني ازوين”:
  • ـ أشطاري
  • ـ لا شيء غريبا، الحمد لله.
  • ـ أكنت عند “محفوظ” ؟
  • ـ نعم .
  • ـ هل تتردد عليه كثيرا ؟ .
  • ـ لا ، ولكنني أنوي أن أفعل ذالك في ألمستقبل . فهو إنسان طيب، كريم المعشر وخلوق ، وخبرته الواسعة في الحياة تجعل من مجالسته شيء ممتع بالفعل .
  • ـ آه لا تبالغ ، إنه لا يعدو كونه لص أو قاتل يختبئ من الحكومة هنا . فقال جدي في استنكار :
  • ـ “الراجل أشريف ول النبي يا ازوين ” فاتق الله ولا تسيء إلى أبناء نبيه ، فيخسف بك الأرض أو يسلط عليك عذابه . فرد عليه “طالبن ”
  • ـ اتق أنت الله ، ولا تنسب للنبي كل من هب ودب . فقال أحد الحضور:
  • ـ صحيح. ثم أردف: لا يكفي أن يدعي أحدهم بأنه “شريف” لكي نصدقه، فلا بد من البينة والدليل القاطع على دعواه. فقال احد الحاضرين:
  • ـ لم يكن الأمر بهذه الصعوبة، فلماذا التشدد الآن ؟ فرد ” طالبن” :
  • ـ صار الناس أقل تورعا في هذا الشأن من ذي قبل و… . وتحركت في داخل “ازوين” عادته القديمة في معارضة “طالبن” حتى وإن كان يؤيد وجهة نظره ، فقاطعه قائلا :
  • ـ وما أدريك بأنهم كانوا أكثر تورعا ؟
  • ـ هذا واضح، لقد كثر المنتسبون إلى النبي إلى حد غير معقول.
  • ـ ليس هذا دليلا كافيا . ثم ، فيم يضيرك ذالك ؟ هل ستنفق عليهم مثلا ؟ فرد “طالبن” في غضب
  • ـ قبل أن تسطو بي ـ يا “زوين” ـ فإن الأمر لا يتعلق بي بقدرما يتعلق بكل مسلم حريص على دينه ودنياه . فشأن النسب في الإسلام شأن عظيم، وحفظه احد مقاصد الشرع الحنيف. وإدعاؤه ، أو التلاعب به ، جرم كبير، ومعصية لا تغتفر، خصوصا إذا تعلق الأمر بالنسب الشريف نسب الرسول (ص) ولذ…. فقاطعه “ازوين” مرة أخرى:
  • ـ وهل جهلتم كل هذا، عندما كنتم تعبثون بأنسابنا ، أم أنكم كنتم تتجاهلونه لكي تتلاعبوا بها ؟
  • ـ أنا شخصيا لم أعبث بنسب أحد ، ولم أتلاعب به.
  • ـ لكن أولائك الذين لا تكف عن الافتخار بهم فعلوا ذالك وأكثر.
  • ـ ” لا تزر وازرة وزر أخرى ”
  • إذا كانت تلك هي القاعدة، فلماذا جعلتم من حالتنا استثناء ؟ لم يرد ” طالبن” فقد كان مستاء ويشعر بالغيظ الشديد فلطالما أقتحم “ازوين” حديثه على هذا النحو وشوش عليه وحوله إلى نوع من الجدال العقيم ، في حين كان هو عندما يتكلم يريد أن يصغي له الجميع . وقال آخر:
  • ـ من قال بأن “محفوظ” لا يملك البينة والدليل القاطع على دعواه بأنه “اشريف” ؟ فرد عليه آخر
  • ـ لعله لم يدعى ذالك أصلا ؟ فقلت :
  • ـ لا بد أنه ادعى شيئا ما. لكي تتقبلوه إلى هذا الحد. فقال جدي :
  • ـ أيا كان ما أدعاه فلم يكن ليحدث فرقا كبيرا ، ” بيظاني” وقد وفد إلى “ادباي” فتلقفوه كما لو كان هبة من السماء .
  • ـ يمكنني أن أفهم ذالك ، لكن أي نوع من البيظان هو ، وكيف جاءكم ، ومن أين ؟ ثم …فقاطعني “ازوين” قائلا ـ بمزيج من السخرية والجد:
  • ـ لا ندري . فكل معلوماتنا عنه مصدرها “أمباركه علينا” نسيبته ، فهي من قال عنه عندما كانت تعارض زواجه من ابنتها بأنه مجرد “أمعلم مصاص” = (ساحر) وسمعناها ـ بعد أن وافقت عليه ـ تقول بأنه “شريف من أهل تيشيت أمبوكك ” وتقيم الدنيا ولا تقعدها إذا ما طعن أحدهم في ذالك .
  • “هذه طريقة في فرض الأشياء سيئة، ـ وهي واهية ـ بلا شك ـ حين تستخدم في إثباتها ، لكن الأسوأ من ذالك كله عندما تغدو نتائجها حقائق لا تقبل الجدال ” وفكرت في أن هوس “أمباركه أعلينا ” المزمن بإيجاد سبب للتميز عن بقية أهل “ادباي” هو الذي دفعها إلى مثل هذا التخبط الواضح ” وأفقت على أحدهم يقول :
  • ـ ” أمبوكك ” يا “ازوين” أضفتها من عندك ، فقد كانت المرأة تقول دائما بأن أم الرجل من “انمادي” .
  • ـ لم تقل ذالك إلا لاحقا ، عندما فشلت في العثور على ما يعزز إدعاءها ، فاختارت أن تهرب إلى “انمادي” من باب ” إل دور يكذب ابعد أشهود ” . فرد عليه الرجل محذرا في سخرية :
  • ـ ألا تخشى من أن “اتعسلك ” أمباركه علينا” ؟ فقال “ازوين” منفعلا :
  • ـ أنا لست مثلك جبانا لكي أخاف من “أمباركه عليكم ، أو “المنحوسة عليكم ” فرد الرجل ضاحكا :
  • ـ أسمعتم ما قاله “ازوين” ؟ فضج الحضور بالقول :
  • ـ سمعناه . وسنشهد عليه إذا ما حاول الإنكار. وبينما كان الرجال ينصرفون تباعا ، وهم يضحكون بالضحك . انفردت أنا با”زوين” قليلا وقلت له ـ بطريقة استفهامية استنكارية أردت بها استدرار قريحته ، فقد كان واسع الإطلاع وفضوليا وحشريا ، وفكرت في أنه ربما سمع شيئا من هنا أو هناك عن “محفوظ” ، شيئا قد يقودني إلى التحقق من هويته ومن يكون ، هفوة صدرت منه مثلا ، كلمة قالها يوما بشكل عابر… ـ قلت :
  • ـ لا يمكن لغير “أهل ادباي” أن يفعلوا هذا ؟
  • ـ وهل سموا “أدباي ” إلا لكي يفعلوا ما لايستطيع الآخرون ، أو ما لايريدون أن يفعلوه .
  • ـ أنا لا أعرف لماذا سموا “أدباي” لكنني أستغرب ـ بالفعل ـ كيف زوجوا ابنتهم من رجل لا يعرفونه !
  • ـ وأين وجه الغرابة في ذالك ؟ زوجنها له كما يزوج بقية خلق الله بناتهم.
  • ـ بقية خلق الله يسألون ويتحرون عمن يريد الزواج فيهم.
  • ـ وهذا ما فعلناه . ألم ترفضه أم …،
  • ـ لكن بدون فائدة، فأنتم ما زلتم إلى الآن تجهلون عنه كل شيء.
  • ـ وماذا كنت تريد منا أن نعرف عنه أكثر مما عرفناه ؟
  • ـ أشياء كثيرة. أصله ، فصله ، من أين جاء …؟ ضحك “ازوين” باستهزاء، وقال:
  • ـ وهل عرفنا نحن أصلنا وفصلنا، وكل هذه الأشياء التي تتحدث عنها، لكي نلزم بها الآخرين. ثم قل لي : لم أنت مهتم بأمر الرجل إلى هذا الحد ؟
  • ـ لا شيء، لا شيء، أقصد. أنت تعرف بأنه رجل محترم وأصبح على ما يبدو شيئا مهما في القرية عموما ، وفي “ادباي” خصوصا ، فأحببت أن أعرف من هو وحسب . سكت “ازوين” مطرقا للحظات ثم نظر إلي وقال:
  • ـ سأقول لك من هو، وأمري إلى الله. فأقبلت عليه في لهفة وقلت:
  • ـ كنت أعرف بأنك أنت الوحيد الذي سيساعدني ، فأنت تعرف دائما أكثر مما يعرفه الآخرون و.. فقاطعني قائلا :
  • ـ هل “ستنشدني بيت حرب ” أم ستتركني أخبرك عن الرجل ؟
  • ـ لا، قل، لكن تعالى لنجلس هناك ف…
  • ـ الامر لا يستحق ، هي كلمة واحدة فقط .
  • ـ كلمة واحدة !
  • ـ نعم، إنه ساحر.
  • ـ “ازوين” ؟!
  • ـ نعم هو ساحر وحسب . لقد سحر السالمة فأحبته، وسحر أمها وأبوها فقبلوا أن يزوجوها له، ثم سحرنا نحن فلم نعترض، وهاهو وقد سحرك أنت. نعم سحرك إلى حد بات معها السؤال عنه همك الأوحد وشاغلك الأكبر، ويوم قرر أن يهب دما أبنائنا لأولئك البدو الملاعين كنت أنت أول من صفق له ووافقته الرأي بعد ذالك في كل ما فعله ، ولا أخفي عليك أن الكثيرين من رجال القرية غاضبون عليك من يوم …. ” لا فائدة فمن الواضح أن “ازوين” لا يعرف عن الرجل أكثر مما يعرفه عنه الآخرون ، إنما هو لا يطيق كلمة لا أعرف “.
  • ـ لم أسألك عن هذا، وليغضب رجال القرية كلهم، ولتغضب معهم نساؤها، هكذا خاطبت الرجل في عصبية ثم تركته حيث كنا نقف وانصرفت.
  • في تلك الليلة ـ وبينما كنت عائدا إلى البيت من سمري بعد منتصف الليل ـ رأيت في طريقي امرأة، بدا من وقفتها وكأنها تنتظر أحدا ما. كان ذالك ليكون ملفتا أقل لو أن المكان غير المكان ومع ذالك فلم أكترث. وفكرت في أن الأمر يتعلق ـ ربما ـ بإحداهن تنتظر قدوم بناتها لتعود بهن إلى البيت بعد أن استبطأت انتهاء سمرهن . وفوجئت عندما نادت علي المرأة باسمي بينما كنت على وشك أن أتجاوزها ، فقلت :
  • ـ من ؟
  • ـ “السالمة”
  • ـ مرحبا ، كيف حالك ؟
  • ـ بخير، الحمد لله.
  • ـ خير إنشاء الله، ماذا تفعلين في هذا الوقت المتأخر؟
  • ـ الأطفال لم يتعشوا بعد، وأريدك أن تحلب لهم إحدى البقرات.
  • ـ ومحفوظ ؟
  • ـ محموم، لا يكاد يعي ما حوله من شدة الحمى.
  • ـ ولم تخبري أحدا حتى هذه الساعة ؟
  • ـ لم أرى داع لذالك فقد نام الأطفال مبكرا، وظننت أن ما ب”محفوظ” نوبة حمى عابرة لن تلبث أن تزول، لكن الأمر طال أكثر مما كنت أعتقد، واستيقظ الأطفال فجأة. قلت محتجا ـ وأنا أسرع الخطى :
  • ـ يا لكم من مجانين ! تتركون الأطفال دون عشاء إلى هذه الساعة المتأخرة، وبتلك الحجة الواهية وكأنكم بين ألأعداء. لم تتكلم وأحسست الشعور بالذنب في صمتها . فرغت من حلب البقرة، وقبل أن انصرف، سألتها
  • ـ أين “محفوظ”
  • ـ في الغرفة .
  • ـ أليست حارة قليلا ؟
  • ـ بل حارة كثيرا، لكن هذا ما أراده، ورغم أنه يتغطى ببطانيتين، فإنه لا يجد الدفء الكافي.
  • ـ سيحتاج إلى رؤية الطبيب ، فهذه أعراض الملا ريا .
  • ـ الملا ريا ! هل هي شيء خطير؟
  • ـ ليس دائما، خصوصا إذا عولجت في الوقت المناسب، وبالجرعات المناسبة. قالت بنعمة قلقلة فيها رجاء:
  • ـ ألن تحاول إقناعه بالذهاب إلى المقاطعة ليتعالج ؟
  • ـ لا بد أنه نائم الآن ، فلندع الأمر إلى الغد .
  • ـ أتراه يصمد إلى الغد ؟
  • ـ ما هذا التشاؤم ؟ وفجأة سمعنا صوتا كالغمغمة يخرج من الغرفة حيث يرقد الرجل، فتساءلت المرأة فزعة :
  • ـ ما كان هذا ؟
  • ـ لا أدري .
  • ـ حسنا تعالى معي . قالت هذا ، ثم انطلقت نحو الغرفة مسرعة كأنها تعدو، فتبعتها .
  • دخلنا الغرفة على ضوء مصباح يدوي ، فوجدنا الر جل مستلق على ظهره ، وقد انحسر الغطاء عن وجهه فسارعت المرأة إلى وضع يدها على جبينه وتحسسته مليا ، ثم همست قائلة بلغة فيها الكثير من الشفقة وصدق المشاعر:
  • ـ يكاد جلده أن يحترق . ؟ وفتح الرجل عينيه ثم أغمضهما، وأمسك بيد زوجته وضغط بها على جبينه للحظة، ثم تأوه وقال:
  • ـ “اعل” (ابنه) ألم أحذرك من إغضاب (زينب) ابنته ؟
  • ـ لكنه لم يفعل ! هكذا قالت المرأة مبتسمة ، ثم أردفت:
  • ـ ألن تشرب القليل من الحليب ؟ القليل فقط مع “التاجمخت ، والعلك المشوي ” نظر إليها دون أن يتكلم ، ثم سحب الغطاء على وجهه، ونام على جنبه. فقلت مطمئنا المرأة :
  • ـ أريت ؟ إنه بخير . فابتسمت في خجل وقالت :
  • ـ ربما كان يهذي ؟
  • ـ أظن ذالك . هكذا قلت ثم أردفت:حسنا سأبقى إلى جانبه ريثما تنتهين من إطعام الأطفال.
  • ـ أرجو ألا أكون أثقل عليك ؟
  • ـ هيا، لا تقولي ذالك مرة أخرى.
  • ـ شكرا. لم تتأخر كثيرا، وعندما عادت كانت تحمل في يدها حقيبة أبلاستيكية صفراء، وفور دخولها دفعت إلي بها قائلة:
  • ـ إنها مليئة بالأقراص الطبية . ؟
  • ـ آمل أن يكون من ضمنها ما يفيد في تهدئة الحمى ؟
  • ـ أتمنى ذالك ؟
  • ـ سأرى .
  • ـ أرجوك . ووجدت في الحقيبة عندما فتحتها الكثير من الأقراص الطبية المختلفة الأحجام والألوان ، كان بعضها منتهي الصلاحية منذ زمن بعيد ، وبعضها الآخر منذ فترة أقل من ذالك ، لكني وجدت بينها شريطا كاملا من لكلوريكين ، وبعض شرائط الأسبرين ، والباراسيتامول إضافة إلى مسكنات أخرى . ماتزال صالحة كلها للاستعمال كما تقول تواريخ صنعها . واضطرمت في نفسي حمم حب الإطلاع، وبلغ فضولي أوجه فانهمكت في التفتيش داخل الحقيبة ونسيت المرأة القلقة وزوجها المريض. ربما لاحظت المرأة حالة الدهشة التي تلبستني، أو ربما توجست من أنني لم أعثر على شيء ذي بال، فقالت في يأس:
  • ـ هل من خطب ما ؟
  • ـ لا ، لا ، أظنني عثرت على شيء . احضري ماء بسرعة .
  • كان وجه الرجل ـ حين سحبت الغطاء عنه ـ غارقا في لجة من الحزن والأسى عميقة، وكانت عيناه تسبحان في بحر من الدموع. أجلسته بلطف ثم ناولته المهدئ في يده، وكأسا فيها بعض الماء وقلت له :
  • ـ ستتحسن فورا بعد أن تتناول هذا. نظر إلي مبحلقا كأنما يتساءل عن سبب وجودي هنا ، ثم وضع المهدئ والكأس جانبا ومال يريد الاتكاء . فتصديت له قائلا :
  • ـ لا، لا، ليس قبل أن تتناول الدواء، يا صاحبي. نظر إلي زاما شفتيه بقوة، ثم أنفجر في وجهي صارخا:
  • ـ سأصل إلى حقي أينما كان بقوة المكر والحيلة والخداع . نعم هو ذاك . أنا، وأنا فقط. والآخرين إلى الجحيم . وما لبث أن هب واقفا وأوقفني معه ممسكا بتلابيبي، وصاح في أنت إنسان فضولي سأقول لك كل شيء. واستولى علي الخوف فلم أعد أدري ماذا أفعل. فكرت في الهرب، لكنني كنت عالقا في قبضة الرجل، قلت في نفسي سأصرخ إذا ! وقبل أن أقرر، أسعفتني “السالمة” بقولها:
  • ـ لا تهتم، هو هكذا دائما، كلما أصيب بالحمى يأخذ في هذا الهذيان حقوقي كذا… له حقوق لا يتذكرها إلا إذا كان محموما. كانت تتكلم وهي تضحك فهدأ روعي قليلا . وخلصت نفسي منه بعد جهد جهيد، ثم أقعدته وأنا أقول:
  • ـ أذكر الله ـ يا “محفوظ”، وناولته المهدئ وقد أذبته في الماء هذه المرة، ولا أزال به استحثه وأشجعه إلى أن لانت مقاومته، فجرعه، جرعه بامتعاض وتبرم واضحين، كأنما يريد أن يتخلص مني ومن إلحاحي عليه. ثم تمدد على الفراش مقطبا جبينه قليلا، قبل أن تلم به ما خلت أنها سنة نوم عابرة. ومع مرور الوقت أخذ جبين الرجل يتفصد عرقا، فأشرق وجه زوجته بالأمل، فتلك كما يقولون هنا علامة انقشاع الحمى. ثم أخذ وجهه يصفو رويدا رويدا ، وعلامات التوتر تتلاشى منه تباعا . إلى أن انقشعت غمامة الاكتئاب تلك التي كانت تغطي سماه ، لتتحول إلى غلالة حزن شاحبة تحوم حول وجنتيه ـ إذا لم أكن واهما فإن وجه هذا الرجل ، هو أجمل وجه رأيته في حياتي . لبثت واقفا، والمرأة إلى جانبي، والرجل مسجى أمامنا لا يبدي حراكا، وفجأة انفرجت أسارير وجهه، وارتعدت شفتاه ورجفت أهداب عينيه قبل أن تنحدر دمعتان كبيرتان من مآقيه لتتدحرجان ببطء على وجنتيه المرتخيتين. رباه ماذا حل بالرجل ؟ وتأوه آهات متتالية نثرت الألم والحسرة في إرجاء المكان، وأحسست “بالسالمة” تقترب مني أكثر، فألتفت إليها مبتسما رحمة بمشاعرها، كانت على وشك أن تبكي الحيرة والقلق قد تملكاها، فتشابكت نظراتها المتسائلة الحيارى بنظرات الفضولية المترقبة. وقبل أن ينبس أي منا ببنت شفة، أطلق الرجل زفرة قوية، اتبعها بأخرى، لم تكد تنتهي حتى انشد بصوت هادئ، ونغمة مسكرة أنشد:
  • (لكن الغراب من أعلى التمثال لم ينطق بغير تلك الكلمة ، حتى لكأنه أسلم فيها روحه ، لم ينطق بغير ذالك ، ولا حف بريشه ، حتى حرت في أمري ولم أجد إلا أن أقول : لقد رحل عني من قبل اصدقائي ولا شك أنه عند الصباح طائر هو ايضا كما طارت جميع آمالي .،، لكن الطائر أجاب هيهات .
  • انتفضت إذ جاء ذالك الجواب الفاصل يحرك الكون من حولي ، وقلت : لا شك أن هذه الكلمة هي كلما يملك من لفظ حفظها عن سيد له ، سيد نزلت به الأحداث بدون هوادة تطارده في عنف أشد من عنف حتى لم يعد له من قول إلا تلك الكلمة وحتى استحالت آماله إلى أغنية تحتم مقاطعها تلك الكلمة هيهات ! ،، هيهات ،، لكن الغراب استمر يسوق نفسي الحزينة إلى الابتسام ، فدفعت مقعدا وثيرا أمام الطائر والتمثال والباب ، وألقيت بنفسي على ديباتج المقعد وأخذت أنظم خواطري خاطرا … متسائلا عما يمكن أن يكون الطائر العتيق ، وقد اجنمع به القبح والنحس والضمور، ثم عما يعني عندما ينعق باللفظ هيهات ” وظلت مستغرقا في احداثي دون أن أفوه بمقطع واحد أمام هذا الكائن ، وقد أخذت عيناه ترسل إلى اعماق قلبي لهيبا من نار، وازددت وازددت اسغراقا وقد طرحت راسي الى ظهر المقعد الذي يكاد ضوء المصباح ينهب ديباجه ، ترى هل ستعود فتجلس إلى هذا الديباج والضوء ينهبه … آه !.. هيهات !! ثم لاح لي أن الهواء يتطاير فيه من عبق مبخرة لا اراها ، مبخرة تلوح بها ملائكة اسمع وقع اقدامها على ارض الغرفة المنتثرة زهرا ، وصحت ,,أيها البائس لقد ارسلت لك السماء بردا وسلاما لتسلو عن ذكرى “لينور” تمتع بما أنت فيه ، تمتع بكل قواك وانس “لينور” وإذا بالغراب يصيح هيهات ،، فرددت أيها الرسول ،رسول الشر ، أيها الرسول طائرا كنت أم شيطانا رجيما ، سواء ساقتك إلي ارواح الغواية ، او حملتك إلي قوة العواصف ـ ايها الطائر الحزين بوحدته وإن لم يفقد بأسه بتلك البيداء بهذا البيت الذي آوى إليه الذعر قل لي ، وايم الحق قل لي اضرع إليك ، أما هنالك من بلسم في واد من الوديان ؟ قل لي بريبك ، قل لي أضرع إليك فأجاب “هيهات” فعدت قائلا: ايها الرسول طائرا كنت أم شيطانا بحق تلك السماء التي تحنو علينا اخبر نفسي المثقلة ، اخبرها عما إذا كانت ستسطع يوما ـ في جنة الخلد النائية ـ أن تقبل حسناء تسمها الملائكة “لينور” فصاح الغراب “هيهات ” ولتكن تلك الكلمة فراق بيني وبينك “طائرا كنت أم صديقا” هكذا صحت به ، وقد نهضت قائما ، عد إلى العاصفة في عالم الموت المظلم ، لا تترك أي ريشة من ريشك الاسود تذكارا لما فاهت به روحك من كذب ، اترك وحدتي غير معتد عليها غادر التمثال من أعلى الباب انزع منقارك من صدري ونح عني شبحك المخيف … فصاح الغراب هيهات . وظل الغراب جالسا لا يحرك ساكنا فوق تمثال “لا بلاس ” الشاحب فوق باب غرفتي وقد لا حت في عينيه صورة شيطان يحلم والضوء ينهال عليه كالسيل فيلقي بشبحه على الأرض ، وأما عن روحي فهي سجينة في ذالك الشبح الملقى على الأرض .” أتراها مفلتة منه ؟ هيهات )
  • لم أع من المشهد ـ بعد ذالك ـ ماهو جدير بالوصف.أذكر فقط عروق جبهة “محفوظ” النافرة ، وعيناه الغائمتان ، وجرس ألفاظه الحزين وهو يقرع آذاني في مزيج من الألم واللذة . وأذكر أيضا بأنني حاولت أن أصرخ فسدت حنجرتي، فحاولت الانسحاب وبالكاد تمكنت أوصالي من التحرك ، وأذكر الرجل وهو ممدد كمن يصارع للخروج من غيبوبة ، وأنا أهم بالخروج ، والمرأة متشبثة بثيابي وابتسامة حائرة تطل من بين شفتيها ، ووعيت قولها : “هل جننت أنت الآخر ؟ قل لي بربك ما ذا قال هذا المجنون ؟ وفي لحظات لا أدري طالت أم قصرت وجدتني في فراشي وقد جثم على صدري شيء ثقيل تملكني من الداخل ، هل ـ ياترى ـ أفلت “مصطفى سعيد ” من تماسيح النيل المفترسة ، فحمله النهر الخالد في حنو وسلمه إلى البحر ، وقذف به البحر بهدوء إلى عرض المحيط الهائج . لتلفظه أمواج هذا الأخير إلى صحراء شنقيط . وليختار من بينها ادباي” منسي في ركنها القصي ليهرب فيه من شبح ” جين مورس”؟ هنا أرض الخوارق ، والممكنات أللامتناهية ، لكن إن كان ذالك مستحيلا ، فإن هذا مستحيل أيضا . ” لينور” تلك الحسناء اللعوب التي ملكت عقل ووجدان “ألن بو ” يتردد اسمها في هذه البقعة من الأرض ـ في قصيدة الغراب ـ على لسان شخص يزعم أنه قضى معظم حياته صياد ظباء في صحاري النعمة بين أخوال من “انمادي” يدعي أنه شب وترعرع بينهم ؟!
  • استيقظت من النوم متأخرا على غير العادة ـ لكن ليلتي كانت مليئة بالسهاد وبالأحلام المزعجة وبالأرق ـ ثم توجهت إلى بيت “محفوظ” ورأسي يضج بالأسئلة .استقبلني الرجل استقبالا حارا، وأجلسني حيث هو. فبادرت إلى القول :
  • ـ أرجو أن تكون صحتك الآن أفضل ؟
  • ـ الحمد لله ، لكن رأسي مايزال ثقيلا ، واشعر بخدر في العظام ، وببعض الفتور.
  • ـ واصل ، تناول ” الباراسيتامول” فهو فعال في مثل هذه الحالات . قال :
  • ـ هل أجد عندك شيئا منه ؟
  • ـ لا ، لكن مايزال بالحقيبة ـ كما أظن ـ البعض منه ، ومن “لكلوركين”
  • ـ أية حقيبة ؟
  • ـ الحقيبة الزرقاء التي جاءتني بها “السالمة” الليلة البارحة، التي منها أعطيتك المسكنات.
  • ـ لا أتذكر شيئا .
  • ـ يبدو أنك بالفعل كنت غائبا عن الوعي ؟
  • ـ لا شك في ذالك ؟ لكن من أين جاءت بتلك الحقيبة ؟
  • ـ من مكان ما في العريش ، أو في الغرفة الأخرى ، فقد كانت المسكينة جزعة، و كانت تبحث في أي شيء، وعن أي شيء يمكن أن يساعد في تخفيف وطأة الحمى عليك.
  • ـ هذا مؤكد ، لكن …وسكت . كان يحدثني بطلاقة والبشاشة تكسو محياه ، ومع ذالك فقد كان يتجنبني بنظراته أو هكذا خيل إلي . لكن عندما وصلنا إلى هذا الحد أكفهر وجهه وبدا عليه الهم وشرد كأنما يسترجع ذكرى بعيدة. فقلت ـ وأنا أحاول أن أستعيده بتغيير موضوع الحديث ـ قلت
  • ـ أعتقد بأنني رأيت شخصا مثل “أخطورة” خارجا من عندك ؟
  • ـ إنه “أخطورة” نفسه
  • ـ هل كان يعودك ؟
  • ـ بل كان يتوعدني .
  • ـ لا بد من أنك تمزح !
  • ـ بل جاد كل الجد .
  • ـ من أخبره بمرضك ؟
  • ـ لعل “السالمة” قد أخبرت أمها.
  • ـ لا أصدق بأنها أرادت منها أن تستنجد به ؟
  • ـ ألم تقل بأنها كانت تبحث في أي شيء، وعن أي شيء يمكن أن يساعد في شفائي ؟
  • ـ وماذا لدى “أخطورة” يمكن أن يساعد في ذالك.
  • ـ لطالما اعتقدوا أن له عند الله دالة ، وبأن له سطوة على الشياطين . فقلت مازحا :
  • ـ يبدو أنها كانت تلميذة مخيبة للآمال ؟ فأبتسم الرجل في هدوء وقال :
  • ـ كانت إنسانة يائسة وحسب .
  • ـ لم أتوقع أن يصل بها الأمر إلى هذا الحد !
  • ـ إن أفضل طريقة لفهم إنسان يمر بمثل تلك الحالة هي الابتعاد قدر المستطاع عن توقع ما يمكن أن يصدرمنه .
  • ـ وبم توعدك ؟
  • ـ قال إن ما أصابني البارحة كان مجرد إنذار، وإذا لم أتوقف عن سعيي لإفساد العلاقة بينه وبين ناسه و ” عبيده ” فستحل على المصائب من كل حدب وصوب.
  • ـ مازال يجد صعوبة في هضم ما جرى ذالك اليوم ؟
  • ـ لطالما عانى من عسر هضم مزمن لكلما لا يرضي غرور أناه .
  • ـ وهل سعيت ـ فعلا ـ مسعى كهذا الذي يدعيه الرجل ؟
  • ـ كنت أعتقد دائما بأن علاقة من ذالك النوع أمرا غير سوي ، إلا أنني كنت حذرا ولم أنجرف قط وراء قناعاتي . . وفي المرات العديدة التي تعين علي أن أواجه أشياء ذات صلة بذالك الموضوع، حرصت غالبا على أن ينتهي الأمر لدى الجميع بأقل قدر ممكن من عدم الرضا. لقد سعيت فعلا ـ ومنذ وطئت أقدامي أرض هذه القرية ـ إلى تشجيع هؤلاء المساكين اللذين يسميهم “أخطورة” بناسه ، وأمثالهم من ضحايا إثم الرق المقيت ، على تنمية قدراتهم الذاتية والاعتماد على أنفسهم في مواجهة الحياة ، وفي المقابل فإنني لم أدع مناسبة تمر دون أن انتهزها لشجب كل أنواع الاستغلال ، ولتعرية ذالك الرجس الكريه من كافة البراقع التي طالما أخفى فيها وجهه القبيح . ولم أتفاجأ حين لا حظت أن صدور البعض كانت تضيق بذالك ، لكن الأمر لم يصل قط إلى حد التهديد الصريح وتمني المصائب والمحن .
  • ـ كان لا بد من أن يصل إلى ذالك ،لأن تلك هي وجهته الطبيعية .
  • ـ لكن لم الآن، فهذه ليست هي المرة الأولى التي أمرض فيها.
  • ـ ليس لدي جواب حاسم . لكنني أدركت ـ يوم أخمدت نار تلك الفتنة ـ بأنك ـ لا محالة ـ ستواجه بعض المتاعب. فأولئك الذين وصفتهم بالمتاجرين في مصائب الناس، لاشك قد اعتبروك من يومها خطرا، وينبغي مواجهته.
  • ـ إدراكك في محله تماما . فهم قد اعتبروني بالفعل كما تقول، إنما قبل ذالك بوقت طويل. فبعد حادث مراث “أم العيد” وأولاد ابنتها ، واجهت بعض ردود الفعل المتشنجة من بعض المعنيين وذووهم ، وأحيانا شغب نسوى وأشياء من هذا القبيل ، ومع أن لأمر انتهى عند ذالك الحد ، إلا أنني لا حظت أن تفاعل الناس مع أرائي أمسى أقل مما كان عليه قبل ذالك . والحق أنني خشيت على نفسي مواجهة ما هو أسوء، لكن الأمر ـ كان من وجهة نظري ـ يستحق العناء، فأن تقف متفرجا وأنت ترى إنسانا يستغل حتى بعد موته شيء يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى.
  • ـ لعل جدتي لم تسمع بهذا الموضوع ؟
  • ـ ربما ، ولا أخالها الوحيدة في ذالك . فقد بدأ وانتهى بسرعة .
  • ـ لا أطيق الاختصار؟
  • ـ يا لفضولك !
  • ـ إنك تتعمد إثارته في كل مرة أجالسك .
  • ـ ليس في الأمر أية إثارة .
  • ـ ليكن ، أريد التفاصيل .
  • ـ حينما توفيت “أم العيد” قام “العرب ولد المخطار” بالإستلاء على ممتلكاتها بدعوى أن المرأة ملك له .
  • ـ لكن ، كانت لها ـ على ما أذكرـ ابنة ؟
  • ـ ابنتان على الأصح. لكن أحداهن مفقودة منذ زمن بعيد، عندما هربت من قسوة بطش الرجل وإذلاله.
  • ـ نعم ، نعم ، أذكر حادث هروبها ، كنت صغيرا ساعتها ، إلا أنه علق بذاكرتي ، فقد بقي حديث “أهل ادباي” لفترة طويلة، وأين الثانية؟
  • ـ الثانية كان هو قد وهبها منذ صغرها لإحدى بناته، وحين تزوجت أخذتها معها إلى أهل زوجها.
  • ـ هذا ما يسمونه تشتيت الشمل ! وبقيت العجوز في “ادباي” وحيدة ؟
  • ـ نعم، لكنهم كانوا يسمحون لها بزيارة ابنتها مرة في السنة ـ كما قال لي “ازوين” وفي كل مرة كانت تعود من عندها تأتي وبصحبتها ولد أو بنت.
  • ـ يا للمصيبة! هل كانت متزوجة .
  • ـ لست أدري، لكن “ازوين” قال لي: بأن الرجل (زوج عربيتها) كان ـ كلما بلغ أحد أولادها الخامسة أو السادسة من العمر يأخذه إليه لرعي الغنم. وعندما مرضت العجوز، وأصبحت عاجزة عن الحركة رفض أن يمنحها أحد أولاد ابنتها ليعتني بها أثناء مرضها. فغضبت البنت وجاءت “ادباي” بنفسها وبقيت تخدم أمها إلى أن توفيت.وجن جنون الرجل وكاد أن يفقد صوابه حينما عادت إليه بعد ذالك ، وقالت له أنها قررت العيش في “ادباي”. حاول ثنيها عن قرارها بالحسنى أولا ، ثم لجأ إلى الحيلة ، والخداع ، ولما لم يجدي ذالك كله نفعا ، شكاها أمرها إلى “العرب” فأوعز هذا الأخير بأن يتم الاستيلاء على أغراضها وبأن تمنع عن أولادها إلى أن تعود صاغرة ، ثم لحقها هو نفسه إلى “ادباي” وأخذ كلما تركته أمها . لجأت إلي عندما سدت كل الأبواب في وجهها ، فالجميع هنا ـ كما قالت لي ـ يهابون غضب “العرب” ويتحاشاه ، ولذالك لم تجد من يعينها على مواجهة صلفه وجبروته أو من ـ على الأقل ـ يوجهها كيف ينبغي أن تتصرف . وحده “ازوين” أخبرها بأنني ربما أستطيع مساعدتها.
  • ـ يا للورطة ؟!
  • ـ لم أجد الأمر كذالك ، ذهبت إلى الرجل في “لفريج” ، وأخذته على إنفراد . لم أطنب كثيرا، قلت له إن زمان إذلال الناس ـ بلا جرم اقترفوه سوى أن لهم بشرة مغايرة ، أو أنهم غير قادرين عن الدفاع عن أنفسهم ـ قد ولى إلى غير رجعة ، وسيكون من المفيد له أذا كان يحرص على مصلحته ومصلحة جماعته أن يترك “بنت أم العيد” وشأنها ، وأن يعيد إليها أولادها وما تركته أمها . لم يعلق ، وإنما نظر إلي شزرا ، ثم تركني حيث أنا وغادر. وفهمت أنهم في “لفريج” أخذوا كلامي على محمل الجد ، فضغطوا على الرجل ، فكان للبنت ما أرادت . ربما لم يكونوا سعداء بذالك ، ومن المرجح أن الكثيرين منهم عارضوه بشدة ، لكنهم كانوا ساعتها منهمكين في الإعداد لإنشاء القرية ، وكانوا حريصين على أن ينضم إليها أكبر قدر ممكن من القبيلة ، وفكروا بأنهم ربما ـ وبسبب هذه القضية ـ قد يخسرون فرصة انضمام “أهل ادباي” إليهم خصوصا وأن الفكرة كانت تلاقي معارضة شديدة من بعضهم .
  • “الآن لم يعد لدي أدنى شك بأنك شخصا مختلفا عما يعتقده الجميع هنا ، وأمسى لدي من الأدلة ما يكفي لسوقك مرغما إلى كرسي الاعتراف” كنت أفكر في هذا والرجل منشغل بمداعبة صغيرته “زينب” لكنه كان ـ بين الفينة والأخرى ـ يلقي علي تلك النظرة الخاطفة ، لكن المركزة ، وكأنه بها يتحسس ما يدور بخلدي ” هذه المرة لن تفلت فقد أمسكت بك متلبسا بالجرم المشهود ” وأنشق الصمت الذي ساد مجلسنا منذ لحظات بقولي ـ وأنا أعبث بخصلات شعر الصغيرة “زينب”
  • ـ لماذا لم تسمي هذه الحسناء باسم ” فرجينيا” فرد علي بسرعة وكأنه كان يتوقع هذا السؤال رد
  • ـ “فر.. فرجانيا ! ما هذا ؟
  • ـ إنه الاسم الحقيقي “للينور”
  • ـ لينو..لنوار…
  • ـ لا تدعي بأنك غير قادر على تهجيته، فقد نطقته البارحة، نطقته بكل فصاحة في قصيدة الغراب وكأنك تمضغ قطعة من الحلوى. ابتسم ابتسامة جافة خيل إلي أنها قادمة من غور بعيد ففقدت بهاءها في مناطق مظلمة في نفس الرجل فجاءت كئيبة وباهتة ثم قال:
  • ـ الليلة البارحة..! قصيدة الغراب … ؟!
  • ـ سأوضح الأمر قليلا: لقد قرأت الليلة البارحة مقاطع من قصيدة الغراب، وبطريقة شعرية رائعة، وبنبرة متأثر متذوق ومدرك لمعاني ما يقرأه !
  • ـ وهل يعني ذالك أن أسمي ابنتي باسم “لينور، أفرجينيا ” ؟
  • ـ لا ، لكنه قد يعني أشياء أخرى !
  • ـ لا أفهمك ؟! وضحكت لأخفف من حدة الحرج الذي أوقعت فيه الرجل ثم قلت:
  • ـ أهل القرية يزعمون بأنك “شريف من أهل تشيت” وبأن معظم حياتك قضيته صيادا مع أخوالك من “انمادي” !
  • ـ وماذا تزعم أنت ؟
  • ـ أعذرني، فأنا لم استطع التخلص من فكرة كونك الشخص الذي تعرفت عليه في ساحل العاج. ثم أردفت: لكنك لا أهمية لذالك كله. فقد وعدتني البارحة ـ فيما يشبه التهديد ـ بأن تقول لي كل شيء لم يعلق . وظل ساكتا، مرة يلاعب ابنته، ومرة ينفث الجمر تحت الإبريق. ثم نظر إلي وقال :
  • ـ هل تخافني ؟
  • ـ ولماذا أخاف منك ؟
  • ـ ربما بت ترى في خطرا من نوع ما !
  • ـ ولم تقول ذالك ؟
  • ـ محاولاتك المتكررة لمعرفة كل شيء عني، واستغلالك لكل ما يصدر مني للبرهنة على أنني شخص آخر غير الذي يعرفه الجميع هنا.
  • ـ لا أنكر بأنني كنت فضوليا بعض الشيء ، وربما كان اهتمامي بك زائدا عن الحد شيئا ما ، والواقع أنني أجد صعوبة كبيرة في تقبلك على نحو ما فعل الآخرون . فمعرفتي بأهل المنطقة هنا يجعلني أجزم بأنك غير ما يدعون .
  • ـ أفرض أنني كذالك فأين المشكلة في هذا ؟ لقد عشت مع هؤلاء الناس لأكثر من عشر سنوات ، وتزوجت منهم وولدت . هل أسأت التصرف يوما مع أحدهم ؟ و هل كنت مصدرا لأي نوع من الأذى ؟ وأصارحك بأنني وقبل أن آتي إلى هنا كنت شخصا مختلفا تمام الاختلاف عما أنا اليوم لكن ما أهمية ذالك الآن ؟ تقول بأنني قرأت الليلة البارحة مقاطع من قصيدة الغراب . قد يكون ذالك حدث بالفعل إنما لا أدري كيف ربطت بين ذالك وبين ما يدور في ذهنك ؟ أما كوني قد وعدتك ، مهددا ـ كما تزعم ـ فقد كنت محموما، ولا أحسبك تجهل ـ وأنت إنسان متعلم ـ بأنه وتحت وطأة الحمى قد تصدر عنا تصرفات غير مألوفة، أو نقول أشياء غريبة.قد تكون لها بالفعل بعض الصلة بالماضي أو بالحاضر ، وربما بالمستقبل أيضا ، لكنها في مجملها تبقى نوعا من الهذيان وبالتالي فإن بناء أحكام عليها هو شيء خاطئ تماما . ولأن آخر ما فكرت فيه ـ هو أن يتخذ إنسان مثلك من مساهمتي في مساعدة هؤلاء الناس الطيبون على التغلب على بعض مشاكلهم البسيطة سببا للتشكيك في ، وإثارة الاستفهام من حولي ـ فإنني لم احرص أبدا أن أبدو مشاكل للآخرين في كيفية تفكيري وتصوري للأشياء ـ لكي لا تحوم الشكوك حول شخصي .
  • كان الرجل يتكلم بانفعال، ومع أنه لم يتجاوز حدود اللباقة والأدب إلا أن نذر الخطورة كانت تشع في عينيه، ولا أخفي عليكم أنني خجلت من نفسي، وكنت ألعن في سري هذا الفضول الذي ابتليت به. وأنا أهم بالانصراف ، قلت معتذرا :
  • ـ أرجو عفوكم ؟ فقد تسببت في إزعاجكم من غير ما داع، ولا مبرر. كانت هذه هي الجملة الوحيدة التي اهتدى إليها لساني وأنا أنسحب خائبا من المواجهة التي ظننت بأنني كسبتها حتى قبل أن تبدأ. عدت إلى البيت ورأسي مثقل تنوء بالفضول وبالخيبة ، فقد أضفى الرجل على نفسه المزيد من الغموض والإبهام ، وعزز في ذات الوقت شكوكي ، وزاد من اضطرام نار فضولي . أتراه فعل ذالك نكاية بي ؟ أم إمعانا في إثارتي وتشويقي . ؟ ربما الأمرين كليهما ؟ لست أدري ولعل الإجابة في ما حدث عشية ذالك اليوم. فبينما كنت استعد عشاء للخروج من البيت، وجدت “محفوظ” لدى باب الحوش وطلب مني أن أذهب معه إلى الحقول . قال إنه تحامل على نفسه عصرا وذهب إليها، وفي طريق عودته رأى بعض همل الإبل تحوم في حماها، ومع أنه قام بمطاردتها وإبعادها ما أمكنه إلا أنه يخشى من أنها قد تعود. كنا طوال الطريق نتحدث في أمور عامة ، ومن حين لآخر كان يطلق نكتة ما ويضحك بأعلى صوته ثم يضرب يده في يدي ، وحين يشعر بأنني أتألم يزداد ضحكا ويقول لي :
  • ـ تبدو طريا ، ألا تشرب لبن “السخانة” ومرة قال لي لكن بمكر هذه المرة :
  • ـ هل ترى أنه من الضروري ـ لكي نضطهد إنسانا ما أن نلصق به أولا كل الصفات الذميمة ؟
  • ـ من تنوي أن تضطهد ؟
  • ـ لا أحد ، إنما أتساءل .
  • ـ لا أقول أنه ضروري، لكنه هو ما يحصل غالبا.
  • ـ لماذا حسب رأيك ؟
  • ـ الواقع أنني لا أملك تفسيرا لذالك، فلم يسبق لي أن اضطهدت أحدا.
  • ـ لكنك تسمع وترى ؟ لم أعلق . فقد كنت مشغول البال، منصرفا إلى التفكير فيما يمكن أن يكون وراء هذه الدعوة المفاجئة. و كانت ذكرى غضب الرجل مني اليوم ما تزال ماثلة في خيالي. وكنت أخشى من أنني لن أتمكن لجم فضولي . وصلنا إلى الحقول فقادني الرجل إلى عريش صغير أقامه وسط مزرعته حيث تركني هناك وقام بجولة قصيرة في أنحاء المزرعة . وحين عاد كان يحمل على عاتقه حزمة من الحطب، وقبل أن يضعها قال:
  • ـ هل تمانع في أن نعد كأسا من الشاي على عجل ؟
  • ـ ولم العجلة ؟
  • ـ لعلك مرتبط بموعد ما ؟
  • ـ لن أفوت فرصة أن أشرب الشاي في هذا الجو الطبيعي.
  • ـ حسن . راكم الحطب فوق بعضه البعض ومن ثم أشعل فيه النار، وجلس ينتظر ريثما يخبو اللهب لينصب الإبريق . وبينما أنشغل هو في ذالك انصرفت أنا كليا إلى التدقيق فيه، وكأنني أراه للمرة الأولى. الوجه جميل يميل إلى الاستطالة قليلا ، لكنه مشاب بحمرة غير طبيعية ، الخدان متناسقان مع الجبهة بشكل كامل ، يتوسطهما أنف وسيم . الرأس مثل الوجه لكنه مكسو بشعر ناعم، وقد غزت فلول من الشيب فودية فأضفت عليه وقارا وإجلالا. كانت لحيته صغيرة لكنها رتبت بعناية لتلاءم استدارة الشارب فوقها . الأصابع في اليدين رشيقة تكسوها بقع من الشعر، وفي القدمين ناعمة. الأقدام ليست متشققة كأقدام جدي و “مبيريك” بل بضة وملساء . شربنا الكأس الأولى دون أن ينبس أحدنا ببنت شفة ، وعبأ الإبريق للمرة الثانية ووضع أحد الكؤوس على ماسورته وتركه دون أن ينصبه .ثم أخرج سيجارة من جيبه وقام بإشعالها في الجمر أمامه وجذب منها نفسا ، ثم نفسين ، قبل أن ينظر إلي زاما شفتيه متوثبا ـ نظرة أثارت في نفسي مزيجا من الأحاسيس المتناقضة ، لكنني أبقيت عيناي مسلطتان على وجه الرجل الذي كان يغرق في لجة الحزن تلك من جديد . ثم قال :
  • لفصل الثاني
  • الواقع أنني لا أجد متعة تذكر عندما أتحدث عن نفسي. وحين كان يتعين على أن أقوم بذالك، كنت أتجنب الإطناب، والخوض في التفاصيل أو ما أعتبرها خصوصيات. والحقيقة أن تجربتي في الحياة كانت ـ من وجهة نظري ـ اقل أهمية من أن تكون مصدرا لأي نوع من الإلهام أو أي نوع من الإثارة أو المتعة.
  • وكنت طوال عمري أحسب أن التعامل مع أي إنسان كان ، ينبغي أن يتم وفق قاعدة أن الإنسان هو: هو ، كما يقدم نفسه ما لم تحتم الضرورة القصوى البحث في وراء ذالك . بناء على هذا كله لم أرى داع إلى أن أقول لهؤلاء الناس حقيقتي ، وهي على الرغم من بساطتها لا تخلو ن بعض المسائل ، أو قل المساوئ التي كان من شأنها ـ لو علموها ـ أن تسبب لي بعض الحرج ، وربما جعلت من الصعوبة علي بمكان أن أعيش وسطهم كما عشت فعلا .
  • وبما أنك إنسان مثقف ـ أو هكذا أفترض ـ فإن هوة الاختلاف في التفكير بيني وبينك قد تكون أضيق مما هي عليه بيني وبين باقي أهل القرية ، وعليه فلا بأس من أقول لك بعض الأشياء مما لم أقله لأحد من قبلك ، وأحكي لك عن بعض الوقائع ـ وإن شئت ـ الأحداث التي كان مسرحها حياتي ، خاصة أنك إنسان فيك فضول وتطلع شرهين .
  • المهم أن اسمي الكامل هو “محفوظ ولد أعل ” ، لكنهم في الحي كانوا ينادونني “ولد أهل”.
  • ولدت في ” كيفه” أو على الأصح في بوادي “كيفه” في الريف ، من أم بنت لعجوزين حكمت عليها الأقدار بإنجابي من غير أب معروف ، احدهم أغراها إلى أن استسلمت ، ثم قادها بقلب جامد إلى جحيم الخطيئة . ورغم آلامها ومعاناتها فقد ولدتني كاملا وبشكل طبيعي ، ومنحتني من الحنان والدفء الأمومي أقصى ما يمكن أن تجود به روح مضغتها أفواه الشامتين حتى ذبلت واعتصرها الشعور بالعار طويلا وأضناها . عندما بلغت الرابعة أو الخامسة من عمري ،رمت بي إلى ذانيك العجوزين ، في حين ساقت لها الأقدار أحد الرجال فتزوجها ورحل بها إلى حيث يقيم . كان ذالك ليكون مستحيلا في الظروف العادية، فالرجل من قاع المجتمع وكان فقيرا ومعدما، بينما كانت هي من علية القوم وكان أبوها يملك بعض المال. لكن ذالك التنازل المؤلم كان من وجهة نظرها يعد ثمنا مقبولا لقاء تواريها عن عارها وشهوده. وربما وجدت في تلك الزيجة بالرغم من كل علاتها فرصة لتعيش ما بقي لها من أنوثتها . إلا أن الأقدار لم تغفر لها زلتها فأبت إلا أن تبقيني دوما إلى جانبها لأدمغه، بجريمتها وأنغص عليها حياتها. إذ توفي العجوزين كليهما بعيد ذالك بقليل، فجاءت وأخذتني معها إلى حيث كانت تقطن.
  • وأحسست فور انتقالي للعيش مع أمي وزوجها بأن هذا الأخير ليس هو الرجل الذي ولدني. لم يقل لي ذالك أحد ، لكن القسوة التي بدا عليها وجهه وهو يستقبلني وأسلوبه المتعجرف في معاملتي جعلني أدرك ذالك بدون عناء كبير. وسألت أمي مرة :
  • ـ لماذا يناديني أطفال الحي ب”ولد أهل” ؟
  • ـ لأنك كذالك ، وهم أيضا .
  • ـ إنهم يقولون بأن “أعمر” ـ هذا هو اسم زوج أمي ـ ليس بأبي ؟
  • ـ كذبوا ، بل أبوك . كان الرجل متكئا ، وقفز حين فاهت أمي بتلك الكلمة ـ جالسا ، وحدجها بعينان لا تطرفان ، قبل أن ينفجر في وجهها غاضبا :
  • ـ من أذن لك في أن تنسبي إلى هذا النحس ؟ فلاذت المسكينة بالصمت . فعاد يسألها في استنكار ممزوجا هذه المرة بحنق و بنفاذ صبر. ألم أحذرك قبل من هذا ؟ رفعت إليه عيناها الغائمتان بالحزن وبالأسى ثم همست قائلة بصوت مرتعش تخنقه العبرات :
  • ـ الجميع هنا يعرفون الحقيقة ، ولن يضيرك هكذا كلام أطفال ؟ وازداد الرجل هياجا ، وهم بصفعها ، إلا أنه عدل عن ذالك في اللحظة الأخيرة ، ليصب جام غضبه علي ، فانتهرني صارخا
  • ـ أغرب من هنا يا وجه السوء . لم أبادر إلى الفرار كما هو متوقع ، وإنما تحركت ببطئ وعيناي مسلطتان على وجه الرجل إلى أن صرت خلف أمي ، ثم طوقت عنقها بذراعي ، وغالبت المسكينة الدموع لكنها لم تفلح ، فانهمرت من عينيها غزيرة كالشلال ، قبل أن تفلت زمام أعصابها فيعلو نشيجها ألممض بالبكاء . لا أدري أين أصابتني كلمات الرجل بالتحديد، كما أنني لا اذكر بالضبط ردة الفعل التي بدت لي ملائمة للموقف ساعتها، أذكر فقط أنني بكيت أنا أيضا ولثمت خدها المضرج بالدموع، ثم رجوتها قائلا ـ في براءة وتأثر ـ “ميم ” ـ هكذا كنت ألقبها ـ اسكتي. نظرت إلي تلك النظرة الحدوب ـ لا شك أنها أودعتها آخر ما ادخرته من عطف ومن حنان ـ ثم أزاحتني عنها بلطف، وقالت: أذهب إلى الأطفال، لكن إياك ثم إياك من أن تتشاجر معهم.
  • كانت هذه الحادثة ـ رغم بساطتها ـ بمثابة إيذان ببدء المشاكل بيني وبين ذالك الرجل ، فقد كرهته على أثرها وسخطت عليه أيما سخط ، وتبلورت كراهيتي له في شكل عصيان مستمر لكل أوامره ونواهيه . وبدأ ت كراهيته هو لي أيضا تجد طريقها إلى سلوكه، لم يعد قادرا على إخفائها. فقد كان يعتدي علي بالضرب لأتفه الأسباب، ويشتمني بكلام قلما كنت أعي معانيه .
  • لم تكن والدتي تتدخل عندما تراه يعاملني تلك المعاملة، وحينما كان عنفه وبطشه يتخطيان قدرتها على التحمل، كانت تجهش بالبكاء وتظل تبكي إلى أن تخور قواها. كانت رقيقة جدا وعاطفية جدا لكنها كانت ضعيفة إلى حد الوهن .
  • وزادت المشاكل بيني وبين الرجل مع تزايد عمري ، وغدت مواجهاتنا فرجة أهل الحي اليومية وموضوعا لتندراتهم . في هذا الخضم غدت حياتي أشبه بجحيم لظاه السب والضرب صباحا، والتنكيل والطرد ليلا. وكان للعناد الذي ولده هذا الوضع في نفسي الدور الأكبر في تغذية قسوة الرجل علي، وبغضه لي. نعم كنت عنيدا إلى درجة أنني كنت أسلم جسدي لعصاه أو سوطه بدون مقاومة. ولكي أحرمه من لذة منظري وأنا ذليل، أو كسيرا كنت أحبس دموعي كلما يضربني. مما يثير حنقه فيستمر في ضربي والتنكيل بي إلى أن أفقد الوعي.
  • ترى ما نوع اللذة الذي كان يشعر بها ذالك الرجل عندما يراني مهموما وكئيبا ؟ وما الذي كان يدفعه إلى استغلال أبسط خطإ أقع فيه ليتخذ منه ذريعة لإيذائي ؟
  • ذات مرة ذهبت صحبة بعض الأطفال لسقاء صغار الغنم ، من معين يقع بالقرب من مضارب الحي ، وصادفنا ـ ونحن عائدون في الطريق ـ بعضا من الأغنام كانت تنتجع قريبا من المكان فر أحد خرافي نحوها ، ولما أعياني جريا رميته بحجر، فأصابه في الر أس فمات من حينه . ولم تمر سوى لحظات قليلة حتى كان الرجل يجتاحني بكل قسوة. وكما يحصل في كل مرة أسلمت جسدي الغض لسوطه يلسعني، وروحي البريئة لتعييره وسبابه ، لكن دون أن أبدي أي أمارات للخوف أو للجزع. فطفح ركلا بالوجه والرأس والجذع ، ولما أعييته صبرا طرحني أرضا ، ثم أطبق بكلتا يديه على عنقي . لم أعي تفاصيل ما حدث في تلك اللحظة ، وحين أفقت كان وجه الرجل ملطخا بالدم وشجة عريضة تخترق جبينه ،كان ثمة نسوة من الحي يولولن ويقلن مستغربات : يا لجرأة هذا الولد كيف استطاع أن يشج رأس الرجل ؟ بينما كان الرجل يزبد ويهدد ويتوعد . وجاء أحد رجال الحي وأخذني معه إلى خيمته لأبقى في حمايته ليومين أو ثلاثة.
  • فجرت هذه الحادثة في داخلي ينابيع من الكراهية والحقد سيطمر طماها نفسي سنين عديدة . كراهية وحقد لا حدود لهما، لا اتجاه الرجل الذي كان يعذبني وأمي الضعيفة وحسب، بل اتجاه كل الناس وكل الأشياء.
  • هذه كما ترى أحداث تافهة خلت، لكني رأيت أن ارويها لك فقط من أجل إشباع فضولك، و لتهدئة مشاعر توجسك حيالي التي كادت أن تفقد نفسك هدوءها.
  • جاءت أمي بعد ذالك، بعد أن اندمل جرح الرجل، وسرى عنه الغيظ وأعادتني معها.
  • المكاسب التي جنيتها من هذه الحادثة فاقت في أهميتها كل توقعاتي ، فبالإضافة إلى تراجع الحدة في تعامل الرجل معي ـ وإن لم تختفي نهائيا ـ غدا أقراني من أبناء الحي يهابونني ، بل يخافونني إلى حد أن عبارة “ولد أهل ” البغيضة على نفسي قد اختفت من على ألسنتهم نهائيا .
  • في ظهيرة أحد الأيام الخريفية الجميلة ـ هطلت فيه الأمطار صباحا بغزارة ـ وبينما كنت صحبة بعض أطفال الحي نلهو بالقرب من أحد الوديان ـ توقفت على مقربة منا سيارة ـ عرفت بعد ذالك أنها من نوع “لاندرو فر” ـ ونزل منها رجل يرتدي بزة عسكرية ، ثم أقبل نحونا . سرت بين الأطفال عندئذ حالة من الاضطراب مشوبة بالخوف والترقب، لكنهم بقوا متماسكين والتفوا حول بعضهم البعض، وتطلعوا بفضول إلى الرجل وهو قادم في اتجاههم. جاء الرجل وبأدب وعطف قام بمصافحة الأطفال واحدا بعد الآخر، وعندما جاء دوري ، ولدى مصافحة الر جل لي ـ قمت بالضغط على يده . فعلت ذالك متعمدا، ربما تغذية لإحساس بالتميز مافتئ يدغدغ مشاعري منذ أن نجحت في الثأر لنفسي من زوج أمي، أو ربما حبا في لفت الانتباه لاغير لست أدري ؟ المهم أن الرجل إذاك ابتسم ابتسامة عريضة ، لم تخلوا من بعض الإعجاب والدهشة معا ، ثم مرر يده على رأسي بحدب وتفرس في وجهي مليا وقال :
  • ـ ما اسمك ؟
  • ـ “محفوظ”
  • ـ ما اسم أبوك ؟
  • ـ ليس عندي أب. ضحك برهة ثم عاد يسألني :
  • ـ هل عندك أم ؟
  • ـ نعم .
  • ـ وما اسمها ؟
  • ـ “مريم منت أعل” . فقر الرجل فمه في دهشة ثم صاح : “ولد أختي” ! كيف لم أعرفك ؟ ثم أضاف متسائلا ـ في مرارة سأعرف مغزاها إنما بعد ذالك بزمن طويل ـ لكن أني لي ذالك. قال هذا، ثم جثي على ركبته وقربني إليه، وربما هم بتقبيلي، لكنه لم يفعل، وعوضا عن ذالك أخرج منديلا من جيبه وأخذ يمسح عني التراب، ثم ضمني إليه بقوة. في تلك اللحظة نبعت في داخلي مشاعر غبطة وفرح لم أعرف لهما مثيلا في ما مضى من عمري ، فأنا الذي لم أعرف لدفئ الحنان الأبوي لونا ، أجد نفسي فجأة ـ وبدون مقدمات ـ أتفيأه ، كما لو أن ذالك يحدث في غفلة من أيام عمري الكالحة . صعدت السيارة إلى جانب خالي، وعندما تحركت بنا سألته:
  • ـ هل ستأخذني معك ؟
  • ـ إلى أين ؟
  • ـ إلى حيث تسكن.
  • ـ بدون علم والدتك ؟
  • ـ نعم .
  • ـ ألا تخشى من أن تغضب ؟
  • ـ لن تغضب ، سوف تبكي لبعض الوقت ، ثم تنسى الأمر. ضحك لبرهة ثم قال :
  • ـ سنستأذنها ، وآخذك معي .
  • وصلنا مضارب الحي ، وقدت خالي إلى خيمتنا ، وفور نزوله من السيارة وثبت أمي نحوه فاحتضنته ، ولاتزال متعلقة به تبكي وتقبله إلى أن أغمي عليها ، ورأيت كيف أن خالي كاد ينهار هو الآخرـ من شدة التأثر إلا انه قاوم باستماتة ، وبقي متماسكا يحاول أن يخفف عن أمي .
  • لم يجد خالي أية صعوبة على ما يبدو في إقناع أمي بأن يأخذني معه ، وما كادت القيلولة تنتهي حتى كنت اجلس في مقدمة السيارة بين خالي وسائقه . وقبل أن تنطلق بنا ألقيت نظرة أخيرة على وجه أمي، التي كانت تقف مسمرة إلى جانب السيارة في استحياء ، نظراتها الحزينة تضمني ـ كان في وجنتيها مثل قرص الشمس عند الأصيل ،و كانت في عينيها حسرة ، ولما تحركت السيارة هزت يدها ملوحة باضطراب ، ثم دفنت وجهها في طرف ملحفتها ـ لا بد أنها بكت حتى آخر نفس ، وعلى كل حال فإن ذالك هو سلاحها الوحيد في مواجهة كل الصعاب .
  • سارت السيارة مبتعدة عن الحي ، وأنا قابع مكاني قرير العين مطمئن النفس ، كعصفور حط على قمة جبل بعد طول معانات في يد طفل شرير، ثمة رسوما كاريكاتورية لأحلام صغيرة كانت تظهر وتختفي بين الفينة والأخرى على سطح مخيلتي ، كان خيالي صغيرا ساعتها ، ولذالك فلم يكن قادرا على بلورتها في شكل جلي ، فكانت تبدوا ضبابية أحيانا ، ورمادية أحيانا أخرى .
  • في مدينة “كيفه” حيث كان يقيم خالي ، بدأ فصل آخر من حياتي ، وكان عمري حينها ثمانية أعوام . وهنا وجدتني من جديد في مواجهة ذات الوضع اللعين، حب من طرف واهن و مستكين في مقابل كراهية من آخر مستبد وشرير. فعاد يطل برأسه في حياتي مرة أخرى ذات الإحساس الذي طالما أحسسته عندما كنت أعيش في كنف أمي وزوجها ، ليؤطر علاقتي ـ هنا ـ بخالي وزوجته . هذه المرأة مثل ذالك الرجل في قسوته ، وهذا الرجل نسخة طبق الأصل لتلك المرأة في تخاذلها ، فكنت أحس بمزيج من الشفقة والاحتقار اتجاه هؤلاء ، وبالكثير من المقت الكراهية اتجاه أولائك . لم يكن بمقدوري خالي ـ على الرغم مما كان يظهره من حبي ـ أن يمنع زوجته من أن تسيء معاملتي ، فكان كلما أغلظت لي القول أو أساءت إلي يرمقني بتلك النظرة الخائرة كمن لا حول له ولا قوة أمام أمر جلل . ويوم جئت دارها مع خالي من البادية ، كان أول ما فاهت به قولتها وهي تؤنب خالي (هذه هي المودة باشنين الحامظ) وكانت تقصد بالطبع مجيئه بي ، تلك لعمري كلمات لن تستطيع العوادي أن تمحو وقعها من نفسي ، وهل استطاعت أن تمحو من مخيلتي أول صورة ارتسمت لها في خيالي ، بوجهها ذي التقاطع الباردة وعيناها الخاليتان من أي تعبير، اللهم إلا لعنات كانت تنطق بها نظراتها .
  • لم يكن لخالي أولاد كثر ساعتها، ولد يصغرني بسنتين أو بثلاث، وبنت تصغر الولد بمثل ذالك لست متأكدا. كان الولد عدوانيا ومشاغبا، فكان دفاعي عن نفسي ضده سببا إضافيا لتغذية عدوانية والدته اتجاهي، وكانت البنت وديعة ومسالمة ، لكنها كانت ـ وعلى الرغم من صغرها ـ تعاملني بأسلوب خاص ، أسلوب طالما أغاظني إذ بدا لي غامضا ، وغير مفهوم ، فخلته لفرط حساسيتي ـ نوعا من التعالي أو الازدراء .
  • وبدأت أدرك ـ بنضوج عقلي ـ لماذا أبدوـ في عيون الناس ـ مختلفا عن الآخرين، فانكمشت شيئا فشيئا على نفسي، وانفصلت عمليا عمن هم حولي ، وزادت ـ مشاكلي المستمرة مع زوجة خالي ـ وضعي سوءا وطيني بلة ، فقد كان يستفزها منظري وأنا سعيد ، وكان يحلو لها أن تراني كئيبا ومهموما ، وأفلحت جهودها إلى حدما في إقناعي بأنني خطيئة وينبغي أن تستر، وعندما أراد خالي بأن يدخلني المدرسة ، قاومت إرادته بكل ما أوتيت من قوة ، وعلى غير المألوف فقد هزمت إرادته رغبتها . فدخلت المدرسة، لكن في سن متأخرة. كنت أدرك بأن في نفسي بقعة لم تعرف النور قط، وبأنني كنت أفتقد في شخصيتي عنصرا هاما مما يعيق تفاعلي الإيجابي مع الآخرين. فمهما حدث لي من مسرات فلم أكن أفرح إلا قليلا، وإذا هلت على المصائب من كل حدب وصوب، فنادرا ما كنت أجزع. وكنت أقاوم إحساسي الدفين بالهوان بالتمرد على كل شيء وكنت أهرب من ضعفي أمام الآخرين عن طريق أللامبالاة والعناد.
  • وحدث الزلزال العظيم في حياتي عندما اقتحمت ابنة خالي “زينب” وحشة قلبي ، وحصلت على شهادة “الباكالوريا” ، ثم شهادة “المتريز” في الاقتصاد من جامعة “نواكشوط” حينها لم أكن أريد من الدنيا سوى أن أتزوج “زينب” .
  • “زينب” ذاك الملاك الطاهر الذي أخترق بنوره غسق نفسي، وعتمة قلبي .
  • “زينب” الإنسان الوحيد الذي أستطاع بهدوء وبمهارة من أن يتحدى أسوار القسوة التي أقامتها سنوات الاضطهاد حول عاطفتي.
  • “زينب” الإنسان الوحيد الذي عرف كيف يزرع بذور السعادة في روحي، حين فركتها في معين حنانها الذي لا ينضب.
  • “زينب” سبت قلبي فملكته وملكتني. ملكته بابتهالات روحها الشفافة ، وحمى قلبها الكبير وبنظراتها الحالمة ، وبنبرات صوتها الشاعرية الدافئة الحنون. كانت النور الذي أبصرت به عيناي الدنيا من جديد ، والمصباح الذي أضاء أمامي دروب شعابها .
  • “زينب” علمتني معنى الحب، معنى المرأة، بل معنى الحياة ـ كانت ساعتها فتاة صغيرة تمرح الأنوثة والبراءة في كل شبر من جسدها الغض ـ عندما همست بي ، بلغة شاعرية عذبة وحس مرهف أنيق وبعاطفة المؤمن : أحبك كل الحب الذي أعرفه والذي سمعت به والذي قرأت عنه . كانت تلك اللحظة، لحظة تحول حاسم في مستقيم حياتي الذي لن يستقيم أبدا. ساعات قليلة كانت قد مرت على آخر شجار بيني وبين زوجة خالي، شجار رفضت على أثره أكل أي شيء، وشرب أي شيء. تلك هي عادتي، عندما أغضب يفيض مني السخط، فأكره كل شيء حتى نفسي. ولا أدري لماذا اختارت “زينب” من بين حالات سخطي الكثيرة تلك الحالة بالذات لتبثني لواعج نفسها ، ولتصارحني لأول مرة بحقيقتي مشاعرها نحوي .
  • في تلك الليلة الشتوية العاصفة آويت إلى غرفتي الحزينة الكئيبة مهموما ، وقد ران على قلبي من الأسى ما جعل النوم يهجرني . ولأنه لم يكن لدي الكثير من الأشياء لأشغل بها نفسي ، فقد تركت روحي تتلظى في أتون عذاباتها المزمنة . وفجأة تناهى إلى سمعي طرق خفيف على الباب . قلت هي الريح تصفع الباب ليس إلا. لكني عندما أرهفت السمع أتضح لي بأن الأمر يتعلق بطرق على الباب حقيقي. فأشعلت” لمبة” البترول التي أراجع عليها، وقمت إلى الباب وفتحته. ولا أخفي عليك بأنني كدت أفقد توازني إذ وجدت الطارق “زينب” فقلت لها والمفاجأة تعقل لساني:
  • ـ ماذا تريدين ؟ لم تتكلم وإنما اندفعت إلى داخل الغرفة بسرعة . فعدت أسألها نفس السؤال، لكن بلهجة أكثر حدة ؟ فقالت في صوت خفيض :
  • ـ أغضض صوتك، من فضلك، ثم أغلق الباب. في حلم أنا أم في علم ؟ يا للمسكينة هل جنت ؟ وفكرت في أن اطردها فورا، أو أن اترك لها الغرفة وأهرب. وقبل أن أقرر، جاءني صوتها الندي وهي تقول في دلال:
  • ـ هل ستتركني واقفة هكذا ؟ وجمت ، ولم أدري بم أجيبها ، فقد كنت مرتبكا ومشوشا ، وكانت الحيرة تفترسني والمفاجأة تشل أعصابي . وأدركت البنت ـ على ما يبدوـ ما حل بي ، فجلست على حافة السرير، ودعتني إلى الجلوس جنبها ، فقلت لها بجفاء ـ ولم يعد لي من خيار أمام إصرارها سوى أن أنتظر لأرى ما الذي حدا بها إلى أن تقتحم علي وحدتي في ساعة متأخرة كهذه ، وهي التي ظلت كل تلك السنين تتجنب حتى ـ مجرد الحديث معي ؟ قلت :
  • ـ يمكنني سماعك من هنا، تفضلي ! رنت إلي مبتسمة وقالت :
  • ـ أهكذا يستقبل الضيوف ؟ فرددت عليها بعصبية :
  • ـ منكم تعلمنا .
  • ـ من تقصد ؟
  • ـ أنت وأمك وأبوك وأخوتك، وحتى شغالتكم .ابتسمت ابتسامة صغيرة، ثم جالت بنظرها في أرجاء الغرفة نصف المضاءة، قبل أن تسقطهما علي، وقالت:
  • ـ آسفة جدا، كان يجدر بهم أن يعلموك شيئا أحسن من هذا ؟
  • ـ فاقد الشيء لا يعطيه.
  • ـ لا بد من أنك غاضب، إنما أنا لا ذنب لي. فيما يحصل لك من أمي .
  • ـ ومن قال لك بأنني آبه لك أو لأمك أو لما يحصل منك أو منها ؟ .
  • ـ لماذا تضعني معها في كفة واحدة ؟
  • ـ لا تتظاهري بأنك مختلفة.
  • ـ وهل يعني لك ذالك الشيء الكثير؟ فأجبت فورا وبلا تردد :
  • ـ بالطبع، لا. جذبت نفسا عميقا من صدرها ثم قالت :
  • ـ ورغم ذالك، فأنا مختلفة عنها تمام الاختلاف.
  • ـ ليكن، فهذا شأنك وشأنها. سكتت برهة ثم قالت في ما يشبه التحسر، وعيناها تتجنبان النظر إلي ـ حسبت أن لقائنا سيكون أكثر حميمية قليلا .
  • ـ كنت مخطئة، و… حسنا . اسمعي أظن أن أمك شتمتني بما فيه الكفاية ، لكن إذا كان لديك ما تضيفينه ، فاسمعنيه وارحلي .
  • ـ ماذا تقول ؟! هكذا قالت البنت فيما يشبه الصرخة ، ثم قفزت واقفة ،وحدجتني بنظرات متفاجئ غير مصدق لما يسمعه ، ثم فغرت فاها كأنها تريد أن تقول شيئا، أو لعلها كانت على وشك أن تصرخ ، لكنها لم تقل شيئا ، واكتفت بتغطية فمها بيدها ، وأطرقت ، وظلت مطرقة إلى أن جاءها صوتي الحازم هذه المرة وأنا أقول :
  • ـ إذا كنت تنوين البقاء هنا طويلا، فسأرحل أنا، واترك لك الغرفة ! تلعثمت قليلا وهي تتساءل في يأس ، وبصوت تخنقه الدموع :
  • ـ ماذا فعلت لك لكي تقسو علي هكذا ؟
  • ـ من فضلك . أريد أن أنام ؟ صمتت للحظات ثم نفثت نفسها في حيرة وقالت :
  • ـ العتب علي. لقد رخصت نفسي كثيرا.
  • ـ شيء طيب أن أدركت ذالك قبل فوات الأوان. قلت هذا قبل أن أشعر فجأة وكأن انفجارا وقع داخلي ، لا ليس انفجارا واحدا بل عدة انفجارات دفعة واحدة . فانتزعت الغطاء ومرة واحدة عن كل تلك مشاعر الغضب والحنق والاضطهاد المتراكمة في داخلي لتندفع كالحمم إلى رأسي، هكذا طفقت أصرخ في وجه البنت بكلام طويل عريض، كلام ضمنته كل ما عن لي من أنواع السب والشتم لها ولأهلها. فوصفت أمها باللعينة المتسلطة، وأخوها بالمتغطرس التافه، وأبوها بالإمعة الضعيف عديم الرجولة المستكين، أما هي فنعتها بالمتكبرة الغبية، ولم أنسى أن اتهمها بالتواطؤ مع أمها ضدي، وبأنها كانت تنظر إلي دائما كما لو كنت أنتمي إلى عالم آخر… وكلام كثير آخر لا أتذكره ، كلام استرسلت فيه دون انقطاع حتى شعرت بأنه لم يعد لدي ما أقوله ، فأخذت الكلمات تعلق في حلقي وتتباطأ في طريقها إلى فمي . كل ذالك و”زينب” واقفة مكانها عيناها مسلطتان علي باهتمام محلل نفساني يراقب أحد مرضاه وهو يفرغ سلة لا شعوره. وعندما لاحظت أن الحدة في صوتي بدأت تخبت، اقتربت مني نصف خطوة، ورنت إلي ومسحة حزن تلون نظراتها، ثم همست قائلة ـ بصوت خفيض لا يكاد يسمع كأنه ابتهالات ناسك ـ همست:
  • ـ لقد أردت لمجيئي إليك أن يجعل من نار آلامك ومعاناتك بردا وسلاما على روحك الطاهرة، أردته بلسما ـ إن لم يشفي جراحك نهائيا ـ فلا أقل من أن يجعل آلامها محتملة.
  • أردته قبس نور يضيء عتمة ليل حياتك المدلهم ، ونسمة ربيع تلطف أجواء نفسك الصائفة الغائظة . أما أن يثير حفيظتك هكذا فأمر لم يخطر لي على بال.
  • موقفك من أمي لا يفاجئني ، وأفهم خيبة أملك من أبي ، لكنك توشك أن تظلمني حين تضعني معهم في سلة واحدة . قالت هذا ثم سكتت للحظة قبل أن تردف:
  • عموما لا أريد أن أجادلك في شأن الأوصاف التي نعتني بها ، لكن ليس صحيحا بأنني كنت أتواطأ معي أمي لإيذائك ، فما كرهت نفسي شيئا أكثر من منظرك وأنت متكدر أو حزينا . أما كوني كنت أنظر إليك كما لو كنت من عالم آخر فأمر لا أنكره، لكن شتان بين العالم الذي كنت أحسبك منه، والعالم الذي يخيل إليك أنني أنسبك له. كنت صغيرة عندما جئتنا مع والدي من البادية، لكن الصورة التي ارتسمت لك في خيالي ساعتها لم تمحي بعد من ذهني، لأنها محفورة بمشاعر طفولة غضة وبريئة. ربما بدا لك هذا غريبا إلى حد ما، ولا فكرة لدي عن وجهة نظر علماء النفس فيه، لكني حينما رأيتك لأول مرة أبصرت في عينيك قدري. كان وحيا، كان إلهاما أو كان محض خيال لست أدري. ونمت ليلتي تلك بأحاسيس طفل ينتظر شروق شمس صباح العيد ، وحين التأم شملنا في الصباح حول سفرة الفطار، اختنقت بمشاعري المضطربة ووليت هاربة . وتجنبت لقاءك من يومها خوفا من مشاعري تلك التي لم أكن قادرة على استيعابها، وكان علي الانتظار حتى اكبر لأفهم حقيقة ما يجري في أعماقي. إن كانت عيناك رأت في وجهي يوما شيئا آخر غير التقدير والاحترام ، فلا بد أن ثمة خطأ ما ، فأعد تفحص الصورة من جديد ، وإن كان قد بدا لك أن في سلوكي ما هو موجه ضدك ، فإن الأمر لا يعدو أن يكن مجرد سوء فهم . فأنت لم تكن بالنسبة لي مجرد ابن عمة وحسب، بل مثالا لما ينبغي أن يكونه الإنسان النموذجي في نظري، إيمانك بنفسك، ورفضك الانحشار في الدور الذي أرادت لك والدتي، والغير أن تلعبه. وعزة نفسك، بالإضافة إلى حرصك الدائم على ألا تكون غير نفسك، رغم كل شيء. هذا كله جذبني نحو عالمك، و دفعني دفاعا للارتماء، بل للفناء فيه. لكن البغض المتبادل بينك وبين والدتي كان يقف بيني وبين أن أصارحك بكل هذا. وبين أن اقتحم هذا البغض والتريث على أمل أن يزول فضلت التريث. لكن الأيام ما فتئت تؤكد لي بأن أمل زواله ضرب خيال منسوج بخيوط أمل واهنة. وقبل أن يتحول هذا البغض إلى سور يفصل بيني وبينك ـ وكنت أخاله مجرد حائل مصيره إلى زوال ـ جئتك وفي نفسي أمر واحد أريدك أن تعلمه، هو أنني وحياتي ملك لك وحدك. وعلى لساني كلمة واحدة أود أن أقولها لك: أحبك كل الحب الذي….
  • كنت في حالة بين الوعي واللاوعي ،والدهشة والحيرة تعصفان بي ،وكان صدى كلمات هذه المخلوقة الوديعة يفعل فعل المخدر في نفسي . وتأملت في ما حولي بدون تركيز، فخلت مثل الضباب يملأ الغرفة ويطوقني . وخلت مثل السحابة يغمر وجه البنت آنا فيحجبه عني قبل أن ينقشع آنا آخر. وتحركت في جذور قلبي أشياء لم أميزها جعلتني ارتجف من الأعماق فزادت وضعي تشويشا ، ثم بدأت بحيرة القسوة المترسبة في داخلي ، و تلك بركة الكراهية ، وأمواج الغضب العاتية التي كانت تجتاحني ـ تنصهر بفعل كلمات الفتاة في نفسي إلى مشاعر من نوع غريب . مشاعر لم أعرفها من قبل في حياتي ، وبالكاد استطاعت هي التعرف علي . مشاعر آلمني تدفقها وتدافعها في نفسي ، ولما ضجت في قلبي ضاق بها فانفجرت في عيني دموعا ساخنة . تحركت ببلاهة كالسكران والتقطت أصابع الفتاة المضطربة فألقت بنفسها في أحضاني في ما يشبه السقوط، . تلقفتها بين ذراعي بشغف وحنان، قبل أن نتوارى كلينا في الصمت والدموع والظلام. ثم ـ وقد طرحت رأسها على صدري بإعياء من يغالب النوم، وكانت تنشج البكاء، كطفل يستعيد الطمأنينة في حضن أمه ـ أخذ ذالك الشعور اللذيذ يستولي على قلبي وعلى روحي، حين أحسست بأنه يوجد في هذه الدنيا من يهتم لأمري. وطفقت أتأمل وجهها الجميل الرقيق في نشوة بلهاء وشدوه ، وكأنني أراه للمرة الأولى . كم بدت بريئة كالأطفال ووديعة كالحملان وطاهرة كالملائكة ، ولم البث أن عدت القهقرى بدون مقدمات ، وعاد إحساسي بالتعاسة الدفين يلبد سماء قلبي من جديد . لو لم أكن ابن…لوجدت تفسيرا لما حل بالفتاة ، ولتمايلت طربا على أنغام روحي ! لكنني لا أدري ـ إلى الآن ـ بأي نوع من السعادة تشعر به وديعة حسناء في حب إنسان مثلي . ” وتساءلت بمرارة بيني وبين نفسي: هل على يا ترى أن أثق هكذا في مشاعر هذه الفتاة وأن أصدقها ؟ أو ليس من البلاهة بمكان وقصر النظر والإدراك أن انجرف وراء هذا الملاك يقودني إلى المجهول.؟ أولا يعني ذالك أنني أتجاوز بخطوات حدودي، ومن أجل ذاك فإنني سأستثير المزيد من بغض أم “زينب” ؟ ألم تسبغ علي هذه المرأة من نقم كراهيتها بالمجان ، وجلدتني بعاري دونما مبرر ، وقاومت أي أحساس لدي بالسعادة وضنت علي حتى بلحظة حنان .؟ فماذا لو أنها فجأة قامت من مرقدها ، لتجد ابنتها منفردة معي في غرفتي؟ آه لماذا لا تتركني ـ هذه البنت ـ وشأني غير متعدية على وحدتي ، وتهملني وحسب كما يفعل الآخرون ؟ كنت أفكر في هذا ثم همست قي الفتاة قائلا :
  • ـ الواقع أنني لا أعرف كيف أشكرك على مشاعرك النبيلة هذه نحوي. ولا كيف سأتمكن من أن أرد لك الجميل. ولما لم ترد. عدت أقول
  • ـ أنه يجدربك أن تكوني الآن في فراشك يا حبيبتي ؟ أجفلت قليلا ثم تحسست موضع وقع صوتي على أذنها ، وضغطت برأسها على صدري بقوة وغمغمت بشيء لم أفهمه . وتراءى لي بأن الفتاة في حالة غياب للوعي شبه تام ، وكأنها تلقت للتو جرعة مخدر مضاعفة ، فدق قلبي من الخوف وأطبقت الحيرة على ذهني . رباه ماذا أفعل الآن ؟ كانت هذه المرة الأولى التي يعرف فيها الخوف طريقه إلى قلبي ، لكنها لن تكون الأخير، فمن الآن وحتى إشعار آخر سيعشش ويبيض فيه ويفرخ . خلعت رأس البنت من على صدري، لكن بلطف وحنان وشيء آخر ـ ثم حملتها بين ذراعي وخرجت. خرجت وأنا استرق الخطى قدماي بالكاد تلامسان الأرض ، ورغم ذالك فقد خلت لوقعهما في أذني صوت كدوي الانفجار، ومع أن المسافة إلى غرفتها كانت قصيرة ، إلا أنني حسبتها أضعاف ما هي عليه بالفعل . وأنا انزلها عند عتبة البيت ندت عنها تنهيدة صغيرة ، ثم وقبل أن تلامس قدماها الأرض ـ طوقتني بذراعيها من عنقي وجذبتني إليها بكل قواها ، ثم همست بي ـ وأنا أهم بالانصراف ، وقد افتر ثغرها عن ابتسامة وضيئة أضافت المزيد من العذوبة على المحيا المخضوضب بالإثارة وبألألق ـ همست :
  • ـ أرجوك : ابقي قليلا ؟ وضعت يدي على فمها مشيرا إليها أن تسكت، فقد كنا نقف على بعد خطوات من باب الغرفة التي ينام بها أبويها. فتحت عيناها في رجاء، ثم أغمضتهما في استسلام وخطت نحو باب غرفتها ببطء وكسل.
  • في تلك الليلة الغريبة عرفت الوجه الآخر لهذا المخلوق العجيب الذي نسميه ـ دونما يكفي من الفهم ـ بالمرأة ، لا كوسيلة إمتاع تسكت عويل الجسد ، بل كفيض من المشاعر هي جوهر الحياة ـ الوجه الذي قلما أعير أقل اهتمام لدى التعاطي مع ذالك المخلوق. والذي هو في حقيقته سلافة الوجود ومنبع كل سعادة . وهل كان يدور بخلدي ساعتها أن ثمة في هذا الوجود قوة ـ مهما كان شأنها ـ في مقدورها أن تجعلني أنسى آلام طفولتي ، وقسوة مراهقتي ؟ وحتى هذه الساعة التي أحدثك فيها ، ما يزال مصدر قوة تلك الفتاة لغزا يحيرني . يتحدى كل مهاراتي التحليلية، وتقصر عن تفسيره كل قدراتي العقلية. فقد كان يخيل إلي بأنها كانت تلبس من القوة، بل من الحياة أضعاف ما يتحمله قوامها الجميل الرشيق. أو لعلها كانت معين قوة وحياة يعطي بلا انقطاع ويسع كل دلاء الدنيا.
  • عدت إلى الغرفة وكنت في غاية الاضطراب، بينما كان قلبي مفعما بالسرور، وأخلدت إلى التفكير لحظات، وأنا أتخيل ” زينب” إلى جنبي. تضحك لي ، فيضحك الوجود من حولي ، وتحدثني فتفيض السعادة من روحي . وانجرفت مع خيالاتي تلك برهة، فوجدتني أتحسس السرير بيدي ،وقبضت فلم يكن ثمة إلا الفراغ ، وطيف ذكرى يحكم قبضته على قلبي . ولم استطع أن ابتعد أكثر من ذالك في تخيلي . والواقع أنني كنت مندهشا من سرعة تجاوبي مع البنت وكنت على وشك أن أبدأ في تأنيب قلبي . ووجدت مخرجا إذ حسبت أنه لم يكن لي من الأمر من شيء حيال ذالك . فلمثل هذه الأشياء خاصية البذور، تستجيب لنداء الحياة حتى وإن كانت مدفونة في الأرض البور. ثم دهمتني الهواجس من جديد لتنتزعني من أحلام يقظتي . وأخذ ذهني يستعرض ـ أمامي وبالعرض البطيء ـ تفاصيل ما حدث قبل لحظات بشكل واقعي . كم كنت أحمقا حين سمحت “لزينب” بالدخول علي في ساعة متأخرة كهذه، ومجنونا عندما حملتها إلى فراشها على ذالك النحو المتهور، لكنني كنت رهين لحظة مهما أجدت فلن أوفيها حقها من الوصف ، لحظة من الصعب على من لم يعشها بالفعل أن يتخيلها مهما خصبت مخيلته . ومن بين الأسئلة الكثيرة التي تزاحمت في ذهني تلك الليلة سؤال واحد بقى يلح علي لفترة طويلة. ترى ما سر ذالك الشعور الذي استحوذ على حسناء خجولة مثل “زينب” فدفع بها إلى القفز فوق كل ذالك ركام العادات والمحرمات، في سبيل مغامرة عاطفية مع رجل أدانته شرائع أمها سلفا، دون أن تمنحه حق الاستئناف، وبجريمة لم يرتكبها.؟
  • انزاحت الغيمة الرمادية التي أظلمت سماء حياتي ، واعشوشبت صحراء نفسي بالأمل ، فانقلبت حياتي كلها رأسا على عقب . وغدت العودة إلى البيت موعدا مع الحب والأمل ، بعد أن كانت لعنة لا مفر منها. وتوارى ماضي القريب ـ رغم أساه ـ في ركن قصي من نفسي. فانطلقت و”زينب” في مغامرتنا لا نلوي على شيء ، وقد أنستنا الفرحة ببعضنا ضرورة أن لا ننجرف وراء عواطفنا فانجرفنا ، وأن نراعي محاذير كثيرة فلم نفعل إلا لمما .
  • كانت “زينب” تستجيب تلقائيا لاقل همسة من عواطفها ، ولذالك فقد كانت عاجزة بشكل جلي عن كبح جماحها أو لعلها لم تحاول . فقد كانت تخطف فطوري من بين يدي أمها لتحمله إلي في غرفتي. وفي كل مرة تحمل إلي الشاي كانت تمكث معي إلى أن ينادونها . وكانت ساعة تناول الطعام تختلق مئات الحجج والأعذار لتتمكن من أن تشاركني نفس السفرة ، فتجلس قبالتي عيناها في عيني ، تتحدث إلي بدون حرج .
  • كانت صغيرة وعفوية لكي يثير سلوكها هذا الانتباه في البداية، لكن اندفاعها ونشوتها ألمفرطة،كانا أحيانا يثيران انتباه والدتها، فكانت تقوم بتقريعها تارة، وتارة تكتفي بلفت نظرها . أما أنا فقد كنت كهاو يركب الموج للمرة ألأولى يصرخ جذلان حين ينجح في ترويضه، وحين يطوح به يكاد يشله الفرق .
  • قضينا فصل خريف جميل ومميز بإحدى ضواحي ألمدينة في تلك السنة، نعمنا خلاله بكل ما توفره أجواء المخرف من مباهج. لقد ترقى خالي أخيرا في وظيفته، وتحسن وضعه ألمادي كثيرا فأشترى بقرات حلوب وناقتين وبعض النعاج. وتوطدت علاقته بكبار التجار بالمدينة ، ومسؤولي الدولة بها ، و تعززت . فعاد ـ كما كان تقليديا ـ واحدا من ألأعيان ، وتبعا لذالك غدت خيمتنا في البادية قبلة لأفواج من المتسكعين ، وأشباههم ،والهاربين عموما من جو ألمدينة الخانق والباحثين عن طراوة جو البادية الهادئ النقي . وقد انتقت زوجة خالي ـ وهي المغرمة برموز الوجاهة والثروة ـ خيمتها بعناية فائقة ، فاختارتها كبيرة ومطرزة كأحسن مايكون التطريز ، وأفرشها بأحدث ما يتوفر في ألأسواق ألمحلية من الماركات العالمية ، فكانت معرض مفروشات بحق شبه متكامل ، لا ينقصه سوى القليل من حسن التنظيم ، وسلامة الذوق . وعلى الرغم من بخل زوجة خالي وهوسها المعروف بالأشياء المادية عموما وبالنقود على وجه التحديد ، إلا أن الموقع الحالي لخالي فرض عليها التأقلم ـ وان على مضض ـ مع حالة البذخ ألمفرط التي كنا نعيشها .
  • نعم كان الخريف في تلك السنة رائعا بكل المقاييس . هطلت فيه الأمطار بكميات قياسية ، فأزينت الأرض وأخرجت زخرفها وانبتت من كل زوج بهيج ، فأزبالناس غرام البادية الدفين وعشق الخيمة ألأبدي ، فتركوا بيوتهم في المدينة في ـ ما يشبه الهروب المنظم ـ ليتقاطروا على الضواحي . فازدحمت بهم وازدانت بهم ربوعها وبألوان خيمهم ، وتحول أديم ألأرض إلى فسيفساء خلابة من العشب اليانع والجداول الرقراقة والخيام البيض وقطعان الماشية . كان كل شيء من حولنا ـ في هذا الجو المفعوعم بالجمال وبالحسن ـ يفيض بالمتعة ، ويبعث السعادة وألا مل في النفوس . إلا أنني و”زينب” كنا ألأقل حظا من الاحساسا بذالك كله، فقد فقدنا بعضنا البعض إلى حد جعلنا نبكي لحظات الشاي ألقصيرة تلك، التي كنا نلعن قصرها. لقد كانت تظلني ذات الخيمة التي تستظل بها ، وكان نفس ألفراش الذي يقلها يقلني ، وكنا غالبا نأكل من ذات الصحن ، لكن بدون خصوصية.وكنا نحاول أن نستغل اللحظات ألقليلة ـ التي كانت تتيحها لنا صحبتي النادرة لها إلى “الشن” حيث تسهر مع صويحباتهاـ إلى أقصى حد ممكن ، لكن المسافة كانت قصيرة ومكشوفة لكي نكون أكثر من حارس ومحروس ، وأقصى ما كانت تتيحه على كل حال، شكوى بث كنا نتبادلها ، والقليل من العتب وبعض النجوى ، ومع أن مجلس “الشن” ذاك ، كان بمثابة فضاء رحب للشباب يهربون فيه لسويعات ، من قسوة اسوارالمحظورات ، إلا أنه لم يكن بوسعي ، ولا في وسع “زينب” ـ كغيرنا من الشباب ـ أن نظهر غير الوجه ألأخوي الخالص لعلاقتنا، وكان علي من أجل ذالك أن أبدو كغير المهتم بأمرها ، أتودد لهذا البنت وأنشد ود تلك ، ومن ثم كان علي بعد ذالك أن أتحمل بمزيد من الصبر لوعة دموع “زينب” و جنون غيرتها .
  • ومرة أقسمت وقد قف من ألغضب شعرها أنها لن تهتم بعد ألآن بإخفاء حقيقة علاقتنا، بل وربما ستعلنها، إذا ما رأتني أغازل فتاة أخرى.
  • ـ هل علي أن أذكرك، لماذا أفعل ذالك ؟
  • ـ لكنك لم تكن مضطرا .
  • ـ تعرفين أنني لا أستمتع به.
  • ـ لكنك تفعله وحسب ، ولن أهتم بعد ذالك بما إذا كان ذالك يمتعك أو يقززك .
  • ـ ألم نناقش كل الخيارات ونتفق على أن هذا كان أحسنها، في ألوقت الراهن على ألأقل.
  • ـ لا أتذكر شيئا . أو أقول لك : كان ذالك خطئا محضا .
  • ـ أحسب أننا عقدنا اتفاقا في هذا الشأن .
  • ـ إنني أنسحب.
  • ـ لكنك وعدتني بالصبر، وبأنك ستتحملين .
  • ـ نكثت .
  • ـ وماذا تقترحين ألآن ؟
  • ـ لنعش علاقتنا ، ولنستمتع بها ، كما يفعل الآخرون .
  • ـ لكننا لسنا كالآخرين .
  • ـ هذا مجرد وهم، وقد ترسب في ذهنك.
  • ـ انك منفعلة قليلا ياعزيزتي ، فلنؤجل نقاش هذا ألأمر إلى ألغد .
  • ـ بل منفعلة كثيرا، لكنني جادة هذه ألمرة في ما أقول.
  • كانت تلك الليلة، ليلة مشهودة. إذ كنت فيها ضحية لواحدة من أكثر مؤامرات الفتيات طرافة وإحراجا في نفس الوقت ، و فيها أيضا واجهت أول تحد من نوعه في علاقتي ب”زينب” فإحدى اللائي تعودت أن أخفي علاقتي “بزينب” في معابثتهن ارتابت من أمرنا ، فاتفقت هي وإحدى زميلاتها ـ و كانت ممن لاتروقهن “زينب” وكانت ” زينب” لا تطيقهاـ على أن يضعن ريبتها تلك موضع الاختبار. وهكذا عندما حاولت أن ألعب معها لعبتي ألمعتادة تلك ـ عند ” ألشن” ـ صدتني بإصرار، قائلة:
  • ـ عليك أن تختار: أما أنا أو” زينب”. وقبل أن أرد عليها تدخلت زميلتها قائلة بمكر:
  • ـ أخفضي صوتك إنها تسمعك ، ثم أردفت ـ وقد صار مكرها خبثا صريحا ـ ألا تعلمين يامجنونة إنها بمثابة أخته ؟
  • ـ هذا ، ما يريدان أن يعتقده ألاخرون .
  • ـ لكنها على علاقة بمفوض الشرطة في ألولاية، وسيتزوجان الشتاء ألمقبل، كما تقول أمها، وهو بدون شك على علم بذالك.
  • ـ هذا، إذا يفسر كل شيء، حرصهما ألمبالغ فيه على أبراز أخوتهما، لكي تبقى علاقتهما ألحقيقية خفية عن الأنظار. وأحسست وكأن قلبي ينتزع من صدري عنوة ، وبأن ألنور في عيني قد أنطفأ ، وتنازعتني ألهواجس ، وقرصتني ألغيرة في الصميم وتساءلت في نفسي ، ترى : ما مقدار الصحة فيما تزعمه هذه الخبيثة؟ ،وهل باتت علاقتي ب”زينب” مكشوفة إلى هذا ألحد ؟ لكنني تحاملت على نفسي وجمعت بسرعة شتاتها، و تجاوزت سكرتي تلك فابتسمت وأنا أقول:
  • ـ انك تظلمينني ؟
  • ـ أتمنى لو أن الأمر كذالك
  • ـ أؤكد لك أنه كذالك .
  • ـ أريد إثباتا .
  • ـ أي نوع من الإثباتات ؟ فانبرت زميلتها الخبيثة تلك قائلة:
  • ـ قل ـ في حضورها، وأمام “زينب”، وفي ملأ من ألفتيات ـ بأنك مغرم بها، وبأنها حبك الوحيد. فقالت هي:
  • ـ لقد سهلت عليه ألأمر كثيرا، أنا أريد أفعالا، لا أقوالا.
  • ـ أنني أزورك بانتظام كلما سنحت لي ألفرصة وكان ذالك ممكنا، وعند “الشن” لا أفارقك إلى أن ينفض ألمجلس.
  • ـ هذا ليس كافيا .
  • ـ وماذا تريدين بعد ؟ تبادلت مع صاحبتها نظرات متواطئة، قبل أن تقبل علي وتقول، كأنها تتحداني:
  • ـ أريدك أن تقوم بتقبيلي أمامها ؟! .
  • ـ هنا أمام الناس ؟
  • ـ سنحتال حتى نأخذها معنا إلى تلك الرابية ، وعليك ـ إن كنت صادقا ـ أن تلحق بنا ، وتنفذ ما أطلبه منك .
  • تصرف وقح كهذا ، سيؤذي ـ بدون شك مشاعر “زينب” ، وسيفقدني ـ وهذا ألأهم كل احترام لي عندها ، لكن ألأسوأ من ذالك كله ، هو: أن تعمد ـ وقد جرح كبرياءهاـ إلى هجري ومن ثم قطع علاقتنا، أو ان تدفعها ألغيرة ، والإحساس بألاهانة إلى مهاجمة ألبنت والتشاجر معها ، فينكشف ألمستور ، ويقع المحظور. لكن “زينب” أعقل من أن تترك لحظة غيرة عابرة تدمر حبنا ، وإذا ما نجحت ـ وهذا ما أأمله على أي حال ـ في أن أبدد كل شك ـ يحوم حول علاقتنا من رأسي هاتين ألمأفونتين ، فان ذالك سيكون ثمنا مقبولا ويستوجب الدفع لقاء هذا ألتصرف ألوقح ، فما من شيء يخيفني ألآن أكثر من أن تنكشف حقيقة علاقتنا . فلأن أم البنت تكرهني ، وتعتبر حياتي مصيبة في حد ذاتها و ترى إقامتي في بيتها رزية ومعرة، فما من شيء كان يرهق تفكيري أكثر من تخيلي ردة فعلها، حين تكتشف بأنني قد استحوذت على قلب صغيرتها. كنت أفكر في هذا ، وأنا مذعورمن طلب ألفتاة الغريب هذا وقد قتلت الدهشة ألكلمات على شفتي. هذا عمل صبياني بامتياز ، وسخافة بنات وجنون مراهقة ، لكن خشيتي من أن يؤدي رفضي إلى تغذية شكوك الفتاتين ، وربما تسرب عدواه إلى آخرين ـ استبدت بي ، ومرة أخرى تحاملت على نفسي وقمعت مشاعرها فوجدتني أقول
  • ـ إلى هذا ألحد أنت لا تثقين في كلامي ؟
  • ـ لا تتهرب من الموضوع
  • ـ وذا فعلت ما تطلبينه مني !
  • ـ سأقتنع بأن علاقة “بزينب” أخوية خالصة
  • ـ ولن تتحدثي أنت ولا زميلتك في ألأمر مجددا
  • ـ نعدك .
  • ـ حسن ، أنا موافق .
  • تجاوزت علاقتنا ذالك ألمطب بنجاح ، لكن ذالك لم يكن بلا ثمن ، فقد كرهت “زينب” “الشن” وكرهت مجلسها ، فهجرتها نهائيا ، وألزمتني أن أحذو حذوها . ولأنني فشلت في إقناعها بأن هذا التصرف سيلفت إلينا ألانتباه أكثر من أي شيء آخر نفعله ، خصوصا بعد الحادثة السخيفة تلك ، فقد كنت مضطرا إلى البحث عن سبب للزومي الخيمة الدائم ،خصوصا أمام أمها ،وإلى إيجاد مبرر لانقطاعي ألمفاجئ عن “الشن ومجلسها، خصوصا أمام تانيك الوقحتان . لم يخلو ألأمر من بعض ألمشقة ، لكن كل شيء في سبيل أرضاء “زينب” يهون ، ولحسن الحظ فقد كنت مقبلا على الباكالوريا خلال العام الدراسي القادم ، فكفيت بذالك سببا ، فكنت أشعل شمعتي من ألمغرب ولا أطفؤها إلا عند مطلع ألفجر، وفي الضحى أذهب إلى أحد ألغدران مصطحبا دفاتري ولا أعود إلا مع الزوال .
  • كانت ” زينب” كلما شق عليها هذا الوضع ، وضاقت به ذرعا ، وألم بها الشوق وقرصها الإحساس بالبين ـ رغم القرب ـ تعزي نفسها بقرب بداية ألعام الدراسي الجديد. كان ذالك مجرد أمل في أن الوضع سيتغير نحو الأفضل، لكنه أمل شكل بوابة هروب آمنة “لزينب ” كلما أوشك جدار أليأس أن يطبق عليها. ومع أنني لم أكن أعير ألأمر ذات ألأهمية إلا أني كنت مضطرا إلى مجاراتها في أحلامها.
  • ” قريبا ستفتح المدارس أبوابها، فنعود إلى المدينة، إلى دارنا، إلى غرفتنا حيث ولد حبنا، بل حيث ولدنا نحن أنفسنا. سيكون عبق لحظاتنا الجميلة على الباب ينتظرنا، وستستقبلنا ذكرياتنا الحلوة مضيئة لنا الدرب. ” هكذا كانت “زينب” تهمس بي ، ثم تنشد لفيروز” سنرجع يوما إلى حينا…” قبل أن تتوقف وتنظر إلي كمن تذكر أمرا مهما لتقول:
  • ـ ستكون لدي ـ طوال العام الدراسي ألمقبل ـ حجة مقنعة لأبقى معك أطول وقت ممكن.
  • ـ ألست معي الآن ؟
  • ـ أقصد أننا سنكون لوحدنا.
  • ـ وماذا سيضيف ذالك إلى علاقتنا ؟
  • ـ ليست لدي أشياء محددة، لكنني أظن أن هذا ما يتمناه كل حبيبين.
  • ـ لا بأس، أريد أن أسمعها.
  • ـ تبدو غير متحمس، ولذالك سأحتفظ بها لنفسي.
  • ـ وإذا أقسمت عليك بحياتي.
  • ـ أبدا، قررت أن أتحول إلى الشعبة ألفرنسية خلال ألعام الدراسي ألمقبل، وسأحتاج دائما إلى مساعدتك.
  • ـ لا أريد التقليل من حسن اجتهادك، لكن هذه حجة قديمة، وحيلة أصبحت مكشوفة
  • ـ لكنها مازالت تعمل
  • ـ أتمنى ذالك .
  • لم تحمل لنا بداية ألعام الدراسي ، البشرى ألتي كانت “زينب” تنتظرها، فقد قررت زوجة خالي ، فجأة ألبقاء بالبادية لشهر آخر أو أثنين ، متعللة بأن ألجو في ألمدينة مايزال خانقا ، وبأن بيتنا في ألمدينة قد تضرر جراء ألأمطار ، وأنه لذالك سيحتاج إلى بعض الصيانة. لم تكن تلك هي الحقيقة كلها، أو هذا ما كنت أرجحه على ألأقل. لكن المرأة حدست ـ وكان حدسها في محله ـ أن ثمة مقابل سيتعين دفعه ، لقاء استعادة ألأسرة ـ أخيرا ـ لمكانتها في صدارة ألقبيلة ،و لقاء هالة ألعز التي أحيطت بها نتيجة لذالك . وقدرت أنه في حالة ما إذا عادت إلى ألمدينة في أوج بداية العام الدراسي، فسيكون بيتها ألوجهة ألأولى لكثير من أبناء ألقبيلة ألوافدين حديثا إلى الإعدادية، وذالك ثمن باهظ ـ في حسبتها ـ ولا مبرر للاستعجال في دفعه.
  • قالت “زينب” ـ وهي تحاول بعث الحياة في روح أمل تحتضر:
  • ـ هذا لا يشبه ما تمنيناه، ولم يكن كما كنا ننتظر، ومع ذالك، فقد يكون أفضل، إذ سنقضي اليوم في ألمدينة على ألأقل.
  • ـ لن يكون هنالك سببا لذالك يا عزيزتي ، فأبوك قد أستأجر سيارة ستتولى توصيلنا من والى ألمدرسة . ابتسمت في حسرة، لكنها لم تلبث أن قطبت جبينها، وزمجرت قائلة: لعنة الله على هذه النقود التي هبطت علينا فجأة.
  • ـ ولم ألحسرة، و كل هذا التبرم ؟
  • ـ إنني أختنق .
  • ـ لولا أن تتهمينني بالسوداوية، لزعمت أنك ستبكين هذه اللحظات التي تضجرين منها ألآن.
  • ـ كما أبكي لحظات شاي ألفطور، السعيدة تلك ؟
  • ـ سعيدة وحسب ؟! سيكون الظفر بمثلها حلما بعيد ألمنال
  • ـ ماذا تقصد ؟
  • ـ أقصد أن ألأسوأ لم يأتي بعد. قالت ـ وقد بدأ التبرم يلاحق بقايا الشيء ألقليل من ألمرح الذي كانت تبديه:
  • ـ ومتى يأت إن شاء ألله ؟
  • ـ إحساسي يقول لي بأنه قريب .
  • ـ أرجو أن يكون قد قال لك أيضا كيف ينبغي عليك مواجهته !
  • أحاديث ـ كهذه ـ كانت تستهلك معظم اللحظات التي كان يجود علينا بها ألزمن، ومع أننا أصبحنا نحظى بوقت أطول للبقاء مع بعضنا بعضا، وفي أحيان كثيرة لوحدنا، إلا أن “زينب” كانت تتوق إلى أبعد من ذالك.
  • وفوجئت في أحد الأيام ـ بينما كنت أستعد للخروج من ألفصل ـ ب”زينب” لدى الباب ، وهي تنتظرني . لم أعهد منها ذالك ، فقد كنا نتعمد أن تكون لقاءاتنا في المدرسة تبدو كما لو كانت صدفة . تبادلنا تحيات مختصرة ، ومن ثم همست لي قائلة :
  • ـ أتبعني .
  • ـ إلى أين ؟ لم تجبني ، وإنما أومأت تستحثني ومضت . سرت إلى جانبها، وكأنني طفل يصحب أمه لأول مرة، لم تتضح لي وجهتها للوهلة ألأولى ، لكن وحين ابتعدنا بضع خطوات من ألمدرسة ، أدركت أنها تتجه بنا نحو البيت ، عندئذ جفل قلبي وأرتجف ، ومع ذالك فأن الإصرار في خطواتها ألجمني فلم استطع أن ابدي أي اعتراض . عندما وصلنا ألبيت، توجهت رأسا إلى غرفتي، وقبل أن تدير المفتاح في الباب، أمسكت بيدها، وقلت ـ وقد قررت أن أقوم بدور ألأخ بدل دور العشيق :
  • ـ ماذا تفعلين ؟ نظرت إلي بغنج ودلال ، وقالت :
  • ـ ألا ترى، إنني أفتح ألباب.
  • ـ أعرف، لكن لماذا ؟أطرقت لبرهة ثم قالت ـ وهي ما تزال تحتفظ بنبرة الدلال تلك:
  • ـ رأيت أن نمضي هذا اليوم معا، ولوحدنا . فقلت ـ وسحر عذوبة ألبنت، وبراءتها من جهة، وخطورة ألموقف وجرأته من جهة أخرى يتعاركان بداخلي ـ قلت:
  • ـ لن أذهب معك إلى أبعد من هذا، هيا لنخرج من هنا حالا.ضحكت وقالت :
  • ـ بلى ستفعل ، أفلت يدي ، وسترى .
  • ـ لكن …، ألثمت شفتي أصابعها ، ثم ضغطتهما بلطف ، وهمست بي قائلة :
  • ـ لا تقل، لكن، ثم حررت يدها من قبضتي، وأدارت ألمفتاح في الباب فأنفتح.فقلت
  • وقد بدأ رأسي يدور من ألخوف، وأظلم القلق عيني ـ قلت:
  • ـ لا يمكن لمجنون أن يفعل أكثر من هذا !
  • ـ من قال ذالك ؟ أم تراك جننت من قبل، وأنا لا أعلم ؟
  • ـ من قبل . لا، لكنني ألآن في طريقي إلى ألجنون.
  • ـ انك تبالغ قليلا.
  • ـ سيبدو ألأمر أقل ايثارة للريبة ، لو نجلس في الصالون .
  • ـ أية ريبة ياحبيبي ،نحن لا نسرق . هكذا أجابتني ببساطة، ومن ثم أخذت تذرع ألغرفة جيئة وذهابا وهي تترنم وتصفق، في غبطة وسرور، قبل أن تتوقف فجأة وترنو إلي بحدب ـ وكنت ما أزال مسمرا بالباب ـ وتقول ـ وهي تحسس بتلذذ غريب جدران ألغرفة، وأشياءها ـ هنا ، ياحبيبي ، خطونا خطواتنا ألمباركة ألأولى ، في درب السمو ألإنساني ، وهنا اكتملت وهنا ارتوت بدموع الصدق بذور الحب والصبابة في مهجتينا. وهنا نضجت ، وهنا ولدنا حبنا ألمقدس ، وهنا شب ، وترعرع ، وهنا …،وهنا قاطعتها قائلا ـ بسخرية أردتها لاذعة ، لعلها تثيبها إلى رشدها ـ قاطعتها :
  • ـ وهنا ، وإذا لم نرحل من هنا فورا ، فستبدأ أول خطوات هبوطنا في سلم أدنى مراتب الحيوانات وأخسها ، وهنا ، وإذا لم تلجمي جموح عواطفك ، وجيشانها ، فسيموت حبك ألمقدس بغتة ، لكن بعد أن يفوح بالفضيحة وبالدنس . وإذا لم تكفي عن هذا الجنون حالا وتعقلي ، فستحترق بدموع الندم كل بذرة أمل زرعتها تضحيتك في نفسينا فتذبل . وهنا تموت وهنا … ،

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى