من الجهل الى الهذيان

الجهل تلك الغلالة الثقيلة المظلمة القادرة على فعل الاعاجيب ، تحويل الإنسان ارقى مخلوقات الله الى اسفل سلم الكائنات الحية و أرذل أشكال الوجود.

تفترس الوحوش لتبقى على قيد الحياة ، لتطفئ لهيب الجوع و لتستمد من لحم فريستها الحياة لصغارها ، ليس الافتراس هدفها و لا غياتها.

أما الجاهل فتنطلق لديه غريزة التسلط و النهم منفلتته من عقال العقل والضمير ، عمياء تضرب في كل اتجاه ، لا غاية تحركها و لا هدف يحد شراهتها.

يتراكم المال و تتعاظم الثروة و يلطخ شرف الأمم وتدمر مصائر الشعوب وتقاد الى صراعات دموية من اجل غاية واحدة وواحدة فقط …

دمرت مقدرات الفلبين لتملك اميلدا ماركوس اكثر من نصف مليون حذاء و ربع مليون حقيبة جلدية و أطنانا من الذهب و الجواهر و صرف دكتاتور تونس الأموال الطائلة من عرق شعبه و دمائه لتسمية نجم في اقصى اركان المجرة باسمه و اتلف شاه ايران ربع مليار دولار في ليلة واحدة ليلهج الغرب بالتغني بكرم و بذخ مستبد طهران.

فإيهم يا ترى اكرم مقاما تلك اللبؤة التي تفترس لتطعم نفسها و تعيل صغارها ، ام ذلك الانسان الذي يلغ في الأعراض و يدمر المقدرات و يرتهن البلدان و يزج بها في الحروب و يفرط في ثروات الأجيال لزيادة الأحذية و الحقائب و الاسواق و الأراضي و لتلهج بذكره صحافة الغرب الصفراء؟!

ليس هذا هو اخطر نتائج الجهل و لا أشد حصاده مرارة …. فغالبا ما يتحول الجهل الى جنون مطلق بفضل الحثالة المسبحة دوما بأمجاد الطغاة الراقصة على ايقاع رغباتهم، مقنعة إياهم ان منطقهم الأعوج آيات العبقرية و ان جهلهم الفاضح مفخرة الأمة و عز البلاد.

عندما يقرر ولد عبد العزيز سحب صفة الموريتاني عن أسرة مصطفى ولد الشافعي و اتهامه و بالإرهاب يكون أتم قفزته من مهاوي الجهل الى درك الهذيان فتختلط الأماني مع الوقائع و الذاتي مع الموضوعي والحقيقة بالخيال… ويتجاوز الجنون محاولة تشكيل الحاضر الى اعادة صياغة الماضي.

نعم ، يتوهم ولد عبد العزيز انه قادر على إرجاع الزمن و تعديله حسب مزاجه و رغباته …. يظن أن بإمكانه تغير الحقيقة المسجلة في متون التاريخ بأن ربع جيش ابن تاشفين من قبيلة واحدة هم اجداد المصطفى وأن المرابطين هم فخر موريتانيا و نقطة الإشعاع الحضاري في تاريخها.

يظن طاغية البلاد أن قرارا اتخذه بجرة قلم قادر على محو ما سطرته انامل التاريخ عن حاضرة اجداد المصطفى تنيكي و عن امائها اللواتي يتغنين بمقامات الحريري ويحفظ ثلاثمائة منهن موطأ الإمام مالك… فهل سيعيد جنرال موريتانيا التقسيم الإداري للتاريخ ؟
وهل سيلغي من ذاكرتنا ما نفش في تلافيفها من فخر طالما شدا به كل موريتاني في المحافل :

و نحن ركب من الاشراف منتظم …… اجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنــا ظهور العيس مدرسة ………..بـها نــبين دين الله تــبيانــــا

ليس من الغريب على من بلغ هذيانه محاولة تغيير التاريخ ان يقع في شرك التحوير المضحك للواقع ، فيجعل من الرجل الذي غامر بحياته لإنقاذ الأرواح البشرية إرهابيا ، متجاهلا الحقيقة الصادمة بأن دولا غربية منحته أعلى أوسمتها شأنا عرفنا بجهوده و تضحياته.

وكون بلدان مثل النجير ـ اكتوت بنار الارهاب ـ اختارته كمستشار لرئيسها و أن حكومة مالي ـ التي تعرف على القاعدة مالا يعرفه ولد عبد العزيزـ كرمته و شكرت تضحياته، و كسبه ثقة رئيس بوركينا فاسو الذي أوكل له اشد المهام صعوبة و لا علاقاته الحسن واتارا الذي يعتبره احد مفاتيح نصر الديمقراطية و القضاء على الاستبداد في ساحل العاج.

فهل يعقل ان كل هذه الدول تعاملت مع ارهابي وكرمته. و أن دولا غريبة مثل بريطانيا و كندا تمنح الأوسمة لمن ساهم في سفك دماء أبنائها.

فلماذا حاول ولد عبد العزيز التقرب من هذا “الإرهابي” و ارسل إليه المبعوثين واحدا يتلوه الآخر ـ من وزراء و وبرلمانيين و مستشارين ومستشارات و أبناء عمومة ـ محاولا إغراءه بكل الوسائل لينضم الى اللائحة الطويلة من الشياطين الخرس و الناطقين.
لا مكان هنا للمنطق و لا العقل ، إنها الغرائز المنفلتة من كل عقال….إنه الهذيان ….

لم يستوعب ولد عبد العزيز إباء ولد الشافعي و لا عزة نفسه ورفضه أن يساهم في متابعة التدمير المنهجي لمقدرات البلد و اللعب بأمنه و استقراره.

تربى ولد الشافعي على قيم لا يفهمها طاغية البلاد ، قيم المروءة و الشهامة ، قيم العلم و التضحية ، قيم النبل و العزة.

لن انسى ما حييت ذلك الحديث في احدى ليالي واغادوغو ـ الذي اتاح لي فهم شخصية الرجل ـ عندما نصحه احد الأصدقاء بإغلاق بيته امام الغرباء حذرا من النظام الموريتاني آن ذاك و خشية من أعدائه الدمويين في ساحل العاج ، فكان جوابه :

و الله إن الموت لأحب إلي من سد الباب أمام المحتاج و ابن السبيل ؟

امتلأت أوردة مصفى بقيم آبائه الذين رفعوا راية القرآن في هذه الأرض وبهرت اضواء بيانهم عيون العالم ليحملوا اسم البلاد عاليا في سماء العلم و المعرفة.

تصدى الإمام الشافعي لجبروت فرنسا في الجزائر و رمى بنفسه في اتون المهالك…. اقتفى مصطفى اثار أبيه و حمل في ضلوعه إيمان أجداده فرمى بنفسه في مواجهة كل الظلمة و داس بقدميه اصنام البشر …..قارع نظام غباغبو الدموي الى ان دخل في قفص محكمة العدل الدولية… وعمل على انهاء الحصار على الشعب الليبي فكان على متن أول طائرة تتحدى الحظر الجوي … و وقف موقف الرجال بعد ذلك في وجه القذافي عندما خيل اليه غروره انه قادر على تحويل مصطفى الى أحد ازلامه المطبلين لسياساته الرعناء في افريقيا.

واجه نظام تانجا في النيجر الى ان كللت مساعيه بإدخاله السجن… ووقف مع المعارض الغيني ألفا كوندي الى أن جلس على كرسي الرئاسة ليتوج نضال شعب استمر نصف قرن من اجل الحرية و الكرامة.

حقن دماء أهل النيجر كما يشهد بذلك الثائر “مانو دياك ” في مذكراته… وبذل المساعي الناجحة لإيقاف شلال الدم في ثورة عرب مالي ليتوج في النهاية بسلام مشرف …سلام الشجعان.

صرف مصطفى حياته في حمل هموم موريتانيا و هموم الصحراء الكبرى و هموم أهل ساحل العاج و غينيا و النيجر و دخل المهالك لإنهاء مأساة أسرى القاعدة …..

فكيف يظن البعض انه سيرضخ لمن أفنى حياته في حمل الحطب لحماماته جاهرا نهار ـ كما يتذكر سكان لكصر ـ و الإغارة على من تأخروا في دفع إيجار المحلات و المنازل…. و مكابدة حر الصيف وزمهرير الشتاء لإنهاء معاناة اساطيل شاحنات النقل و الغاز بالإشراف على تغيير زيتها و ترقيع عجلاتها…. و المرابطة امام ابواب الوزراء طمعا في قطعة ارض أو اعطية كريمة….. من رمى نفسه في الأهوال من اجل ملئ معدة تتمدد بلا توقف لتأتي على كرامة وثروات ومستقبل وماضي وأحلام وطن بأكمله ؟!