وزارة التهذيب .. وإحراج الحكومة في وقت عصيب

لن نجول ولن نصول فيما عرف ضرورة عند العقلاء والمفكرين من أهمية التعليم، وكونه المنفذ الوحيد للرقي والتنمية، ففي هذا يستوي الذيب وحبيب، طبقا لموروثنا الشعبي.

كما لن نعوج على التذكير بعراقة الفساد الذي ينخر جسم تعليمنا المنهك بالأمراض وسيء الأعراض، الراسف في غلالة من الأنقاض، فهذا أيضا مما سارت به الركبان، وعلمه القاصي والداني.

لكن ما لا بد من التعريج عليه وإطالة التنبيه إليه هو أن وزارة التهذيب منذ حوالي ثلاث سنوات وخاصة منذ هيكلتها الجديدة جعلت المواطن عموما والأستاذ خصوصا يتحسر على أيام طالما أن منها وشكا وتململ وبكى منطبقا عليه قول القائل:

رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه

وقول الآخر:

عتبت على سلم، فلما فقدته وجربت أقواما بكيت على سلم

وهذا الإفلاس التام والفشل العام ناجم عن اتصاف الوزارة بثلاث سمات:

• أولى هذه السمات غرابة الهيكلة التي لا أبدع في نعتها مما اهتدى إليه الكاتب اللامع حبيب الله ولد أحمد في مقاله ((ليلة خفت كفة الحكومة في الميزان)) حين شبهها ببطارية الهاتف الصيني الذي يستوعب ثلاث شرائح تتشاكس على طاقة البطارية المحدودة أصلا.
ومن هذه السمة تولدت مفارقات من أهمها:

ـ جعل الوزارة أعلى رتبة من وزارات السيادة وهو خطأ ابروتوكولي أحرج دبلوماسيتنا.

ـ مخالفة أحكام القانون 2004/ 017 المتضمن مدونة الشغل والذي ينص على أن التشغيل يتبع للوزير المكلف بالشغل.

ـ حضور وزراء صوريين في مجلس الوزراء أشبه ما يكونون في حضرة وزير الدولة بالذي لا يستشار إذا حضر ولا يفتقد إذا غاب.

ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود

ـ محدودية الصلاحيات الممنوحة للوزراء المنتدبين لذا كانت كل خرجات وزير التعليم الثانوي خرجات سياسية بوصفه الأمين العام لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية فكان سيفا مصلتا على المعارضة (والصحة كما يقول المثل الشعبي)، لكنها لم تحمل يوما ما مكسبا واحدا للقطاع المكلف به.

• ثانية السمات: التعارض ما بين القول والعمل ائتماما بوزير الدولة الذي تميز في تلك السنة ولكل قوم سنة وإمامها.

فقد قال: إن المنتديات العامة ستنظم ولا تلوح بوادر ذلك، كما لا يبدو أدنى مستوى من الجدية فيه.

وقال: إن حوالي ألفا من أساتذة المواد الذين تكونوا في مواد بلغة لم تعد تدرس بها سيعاد تكوينهم هذا العام وهو ما لم يحدث وما زالوا طاقات معطلة شاهدة بفساد من طراز عظيم.
وقال: إنه أنشأ ثانويات نموجية ومع أن في هذا إقرارا منه بفقدان النموذج، فالواقع يشهد أنها نموجية تشاكل نموجية الوزير، وليسأل المرتاب في ذلك عن كيفية اختيار التلاميذ، والأساتذة، أما اختيار التلاميذ فأكل الكلام فيه إليهم أو إلى أوليائهم، وأما اختيار الأساتذة فباستثناء ثمانية منهم جاءت البقية خارج المعايير الموضوعية والموثقة بين إدارة التعليم الثانوي والمفتشية العامة والنقابة المستقلة لأساتذة التعليم الثانوي.

وقال: إن العقدويين لا يزيدون على 400 وهذا العدد منهم يكاد يوجد في مدينة انواكشوط وحدها، أما في عموم التراب الوطني فلا يقل العدد عن 1000 عقدوي ممثلين 30 % من مجموع الأساتذة الميدانيين، البالغين حوالي 3000 أستاذا إضافة إلى ذوي الوظائف الإدارية.
وقال: إن كل الترقيات والتحويلات كانت في منتهى الشفافية، وما عرفته الوزارة من عشرات التحويلات والترقية عبر الهاتف أمر لا يخفى على الأعمى والأصم.

وقال: إن نسبة النجاح في الباكلوريا ارتفعت بشكل غير مسبوق والحق أن ما حدث مهزلة لم يعرف نظامنا التربوي لها مثيلا في تاريخه، حيث استبعد الأساتذة ذوي الخبرة والتجربة والميدانيين المدرسين لأقسام الباكلوريا، وعهد بالتصحيح إلى غير أهله لتكون النتائج خبط عشواء ويتحكم فيها مما أثار اللغط والاحتجاج في حالة غير مسبوقة.

ولولا الإطالة لأبنا مغالطات أخر وفي التمثيل كفاية وليقس ما لم يقل، بيد أنه مما ينبه إليه أن المركب الجامعي الذي طالما شدا وأشاد به الوزير ثمرة متراكمة لجهود حكومات وأنظمة سبقت حكومته ونظامه من عهد معاوية بن الطائع فمن بعده.

ثالثة السمات: الاستبداد واللامبالاة، وسنركز من تجليات هذه السمة على ثلاث نقاط:
أولاها: أن وزير الدولة للتهذيب اعتاد في مفتتح ومختتم اللقاءات وكلما حزبه أمر أو تخوف منه أن يهرع إلى الثناء على رئيس الجمهورية، والناس ما بين موال ومعارض، أما الموالي فيقول:
إذا افتخرت بآباء ذوي كرم لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
وأما المعارض فيقول:

كان الفرزدق إذ يعوذ بخاله مثل الذليل يعوذ تحت القرمل

والوزير بهذا السلوك يرسخ مبادئ الدكتاتورية ومبدأ الرجل الملهم، كما يحاول التملص من المسؤولية، والتغطية على عجزه.

والثانية: أنه يدعي بلسانه فتح الباب، وأنه ينتهج الحوار وقد قال البوصيري رحمة الله عليه:
والدعاوى ما لم تقم عليها بينات أبناؤها أفرياء.

وفعلا لم تقم بينات فلم توقع في عهده مذكرة عمل تحدد المتفاوضين، ولم ترد وزارة معاليه على رسائل النقابات، ولو نطق الوسطاء – مشكورين في مساعيهم ـ بما حدثهم به لقالوا إنه ينكر وجود الإضراب ولا يعترف بوجود أزمة، وأنه دعاهم إلى أن يسهموا في إحضار التلاميذ إلى السكاتين ويتركوا ما سوى ذلك.

والثالثة: أنه كرس جهوده منذ تولي الوزارة ـ وكأنه يأخذ العبر من الماضي ـ لمحاصرة الإضرابات لا تطوير القطاع، إدراكا منه أن ذلك أصهل الخيارين، وفي هذا السياق أخرج التحويلات والترقيات عن المعايير الموضوعية، وكلف الأساتذة المحسوبين على الإدارة بتقديم حصص في بعض المؤسسات، وسيب مئات الأساتذة في الظروف العادية للجوء إليهم في أوقات الإضراب، وأوصى باكتتاب العقدويين وأصدر التعليمات إلى مسؤولي الوزارة وسخر الإدارة الإقليمية للقيام بكل ما من شأنه أن يكسر صمود الأساتذة، وبلغ من اللامبالاة أن استبدل الأساتذة المضربين بسكاتين من المختفين والعقدويين يمسكون التلاميذ، في استخفاف بمشاعرهم ومشاعر آبائهم، كما سحب الرقابة العامة من عدة أساتذة في خروقات واضحة للقانون في كل ذلك.
وتؤكد المعلومات أنه أمر بإنفاق مبالغ مالية لكسر الإضراب في حدود (777000000) أوقية، وهو مبلغ أعلنت النقابة أنه كفيل بحل الأزمة.

ومعاليه الآن في أشد الارتباك فيما يتعلق بقطع رواتب المضربين، فهل يقطع رواتب ما يربو على الألف من الأساتذة في عام الرمادة الجديد، ويقدم على ما ترفع عنه زميله في نفس الحكومة وزير الصحة أيام إضراب عمالها في عام كان أخف وطأ، وبذلك تبدو الحكومة نفسها حكومة مزاج لا قانون؟ أم يترك الرواتب، وعندها يرى في تقديره أنه سيقف عاجزا أعزل أمام أي احتجاج جديد، أما جمهور الأساتذة فيتمثلون بالمثل الحساني (مس أي أذنيك أقرب) فلو قطعتنا إربا إربا ما تراجعنا قيد أنملة.

وينال رئيس الجمهورية حظ الأسد من الإحراج فهو الذي أعاد في عهده رواتب قطعت بموجب إضراب لم يكن في عهده، فهل يرضى لحكومته ما عاب على حكومة غيره؟

تلكم جوانب من حقيقة وزارة التهذيب التي تحرج الحكومة وتعرضها للإحراج في وقت عصيب.

1.gif


الأستاذ محمدن ولد الرباني


قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى