- من يعرف كاتب هذه الأحرف، يعرف كم هو صادق فيما يقول، لا يتلكأ في القول ولا الكتابة، ولا يهاب التعبير عن رأيه. لا يتكلم باسم أحد بالنيابة، ولا وكالة عن أحد، ولا يبيع قناعاته أو يرهنها رخيصة عند نظام، أو موالاة، أو معارضة أو شخصية.
فأنا لا أنتمي إلا لهذا الوطن، موريتانيا، وأضع مصالحه، تنميته، تقدمه، ازدهاره، رقيه، استقراره وأمنه، فوق كل اعتبار.
ولقد لفت انتباهي و أعجبني كلام سمعته في برنامج علي أمواج الإذاعة الموريتانية، والحقيقة أن استماعي لها كان عرضيا، فلست من المولعين بهذه الإذاعة، لما ينقصها من إفساح المجال أكثر أمام الرأي الآخر، أو الموالاة المعتدلة والتي تحاول الموضوعية، علي الأقل، قلت، سمعت كلاما، من مفكر موريتاني أحترمه، وأجله، ملخص هذا الكلام ومفاده، أن الشعوب المتخلفة تحتاج إلي التنمية والبناء والتشييد قبل كل شيء، وان مساقات البناء وتنمية البلد، الذي يتنافي تماما مع أبسط مظاهر قلة الأمن وزعزعة الاستقرار، أهم وأشد أولوية من إلحاح أي ضرورات في مساقات أخري، مهما كانت أهميتها.
كلام صحيح مائة في المائة.
وتأكيدا لصحة هذا الكلام، أقول: واجب المعارضة والأغلبية، واجب أصحاب المبادرات، والفاعلين السياسيين، والفاعلين الاجتماعيين، مهما كان انتماءهم، وعلي اختلاف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، بله واجب كل مواطن بسيط أن يقتنع بضرورة النفور، والابتعاد، والفرار من كل ما من شأنه أن يفضي إلي العنف أو زعزعة أمن واستقرار هذا البلد، ولو لحظة واحدة. هذه قناعتي، وهذا ما دعوت إليه، حين تحدثت عن أن الشعب الموريتاني ليس استثناء.
وإذا كان في الدنيا، وعلي أديم هذه البسيطة شعب أحوج ما يحتاج إلي الاستقرار والأمن، أكاد أقول، قبل الخبز وقبل الماء والهواء، فهو الشعب الموريتاني.
شعب تغني تركيبته، ومستوي العيش فيه، وغياب أبسط مرافق العيش الكريم في الغالبية الساحقة لولاياته الداخلية المترامية الأطراف، مع جدب غالب، ومحل مهلك للضرع والنسل، وهشاشة عيش، و فقر مدقع، تغني تلك الحالة المؤلمة عن الكلام والبرهنة علي أولوية انصراف الجميع إلي العمل علي الميدان قبل الكلام، و إلي البذل والتضحية بدل الأنانية، وإلي تغليب المصلحة العامة علي المصلحة الفردية، إلي السعي الدؤوب إلي انجاز شيء ملموس علي أرض الواقع، يفيد البلاد والعباد في واقع معاشهم اليومي، ويحسن من أحوالهم، ويرفع مستوى عيشهم.
نعم، إنها الحقيقية بعينها و الصواب الذي لا تخطئه عين العاقل المتبصر ولا بصيرته.
ولكن، هل يجوز أن نسوق هذه الأفكار الصحيحة التي لا جدال و لا مراء فيها، لا لشيء إلاّ لنفحم الذين يؤمنون بضرورة تغيير الأوضاع، تغييرا سلميا، سلميا، سلميا، في هذا البلد؟ ولكي نثبط همم الشباب و ندجّنهم؟ ونعلّمهم لغة التصفيق والتطبيل، أو الأنانية، وعدم التضحية، بالوقت، والجهد، والمال من أجل هذا الوطن؟ أو نرغمهم علي الارتماء في أحضان معارضة سياسية، قد لا تقدم المصلحة العليا للوطن في معظم الأحيان؟
لقد كان القاسم المشترك بيني وبين المعارضة، وآخرون، في هذا البلد، هو أنني حسبت ممكنا، بل ضروريا و ايجابيا أن تستفيد بلادنا من الربيع العربي، علي نحو يخدم بلادنا، سياسيا، واقتصاديا واجتماعيا، وثقافيا.
لكن، يبدو أن هذا القاسم المشترك وحده لا يكفي.
فالأمر، بالنسبة لي، كما لكثير من الشباب، علي كاهله وعواهنه، ربيع عربي شبابي، تجديدي، صرف، لا غير، يعيشه كل بلد علي طريقته الخاصة -انظر المغرب مثلا-، ويغير الأوضاع إلي الأفضل.
ولقد كنت اعتبر ولا أزال، أن اتساع هامش المشاركة السياسية، ومنح حق التعبير السلمي عن الرأي، دون عنف ولا عنف مضاد، ووصول شباب من تيار سياسي، كان إلي الأمس القريب يعتبر في البلاد العربية كلها رأس كل خطيئة، ومصدر التهديد الحقيقي لهذه الشعوب، و عنوان العمالة والتخلف والجمود، ناهيك عن الأهم و الأجدر من هذا و ذاك، أن أصبح لكل مواطن صوتا مسموعا و محترما، لا يشتري بالمال السياسي ولا يبتز، في البلدان التي أثمر فيها الربيع العربي، أو هو في طريق إعطاء أكله فيها، كتونس مثلا. حيث عمد الجميع، علمانيون، و ماركسيون، وإسلاميون، إلي صياغة دستور يعبر عن مرحلة حقيقية من التحول السياسي و الاجتماعي. قلت، إن كل ذلك، ربما كان شيئا مهما.
ولذلك، لم أتردد لحظة في نداء الشباب الموريتاني المتحرر من الانتماءات السياسية، المؤمن بضرورة التغيير السياسي السلمي، المفضي إلي التغيير الاجتماعي والاقتصادي الايجابي، إلي الاستفادة سلميا من هذا الربيع العربي. وهو ما لم يكن ليرفضه كل شاب مخلص، يطمح إلي أن يكون له دور في بناء هذا الوطن.
إلاّ أن الأمور ليست بهذه البساطة، وقلة التعقيد.
فاستدعاء الربيع العربي في بلادنا من طرف المعارضة ومن لف لفها اليوم، اتضح أن هناك شكوكا ربما تكون مبررة، أو علي الأقل واردة، تحوم حوله، مفادها أن الغرض منه في موريتانيا، هو الوصول إلي السلطة، مهما كلف الثمن، ولو علي حساب الأمن و الاستقرار في البلد، ولو حتى علي حساب آلاف من جثث المواطنين الشباب، لتحقيق المآرب السياسية الخاصة بها كمجموعة من المناوئين للسلطة، همّها الأكبر، بل الوحيد، هو الوصول إلي السلطة وإزاحة النظام القائم.
وهذه الشكوك تجعل المواطن أيا كان، ينفر من دعوي المعارضة إلي استدعاء الربيع العربي في موريتانيا، خصوصا فئة الشباب المتحمس إلي التغيير والذي ليست له انتماءات سياسية.
فعلي ائتلاف المعارضة ومن يلف اليوم لفها، أن يعطي الضمانات الكافية لهذا الشباب وان يقنعه بأن الربيع العربي لن يهدد الأمن و الاستقرار في بلادنا، و أنه لن يكون بهذه الصورة القاتمة و المستوي من الدموية الذي يري البعض أنه قائم حولنا.
وفي المقابل، علي الأغلبية كذلك، المعتدلة منها، بل حتى تلك المطبلة، المزمّرة، والتي لا تري في الربيع العربي إلا الخراب و الدمار،تزلفا وليس عن دراية، والتي لم تبرهن للشباب الموريتاني علي سعيها في مصلحة الوطن، حتى الآن علي الأقل، أن تقدم الأدلة.
إذ غدت هذه الأغلبية مشكّلة، في تركيبتها الحالية، من جزء من المعارضة هو أول من نادي بان احتراق البوعزيزي لا يعني موريتانيا في شيء، وهو صادق في وطنيته حين قالها، وأن الربيع العربي غير مرحب به في موريتانيا. وجزء آخر، يلعب دور بوق النظام، لا مصداقية لكلامه و لا برهان.
وما إن تحدثت المعارضة، تلويحا أو تهديدا بشبح الربيع العربي، بل عن عزمها اعتماده كمرجعية في تعاملها المقبل مع النظام، وتحدث آخرون ليسوا من المعارضة، ولا من الأغلبية، عن ضرورة الاستفادة منه، حتى انبرت بقية ما يسمي بالأغلبية الرئاسية، من المصفقين و المتزلفين، إلي المناداة بالصرامة، أي بسجن و محاكمة كل من دعا أو يدعو إلي الربيع العربي!
ألا لعنة الله علي الكاذبين، دعاة الفتنة والمفتنين.
إلي المصفقين، المتزلفين، المزايدين، الذين لا يهمهم، ولا يلقون اعتبارا إلا للكرسي، والمنصب، والمكانة، والحظوة عند السلطان، الذين هم ليسوا في مستوي حمل الأمانة ولا التضحية في سبيل بناء هذا الوطن..
لأولئك أقول: إن الفكرة لا تقارع إلا بالفكرة، و الحجة لا تضاهي إلا بالحجة ،والدليل لا يدفع إلا بدليل اقوي منه، أما الدعوة إلي الصرامة، والمناداة إلي مضايقة و متابعة و تلفيق قضايا، ثم اعتقال، و محاكمة، كل شاب متوضئ، متحمس إلي التغيير الايجابي في بلده، دعا إلي الربيع العربي أو غيره، فذلك شأن الذين لا يملكون الحجة و لا البرهان، و لا يعرفون الإقناع و الحوار الفكري الراقي، البعيد عن التموقع و التقوقع والانحياز الأعمى إلي الأنظمة، و ذلك لعمري ديدن المتزلفين من برلمانيينا الذين لا يجيدون إلا دعوة النظام إلي الصرامة بشأن الداعين إلي الربيع العربي، و المعارضة، مع التغاضي عن أكل المال العام والصفقات المشبوهة لبعض النواب، والثراء الفاحش والوجيز للبعض الآخر!
وتحفظا، وتحرزا، من استغلال هؤلاء و أولئك، لموضوع الربيع العربي، و حرصا علي أمن و استقرار بلادنا، لكن حرصا أيضا علي عدم تضييع الفرصة للتغيير الايجابي، البناء، السلمي، المتحضر، الراقي، الذي يفعل فعله بالفكرة البناءة، والعمل، والتحرك المجدد في الأنماط والأساليب، لتغيير الواقع نحو الأفضل، لبناء الوطن، موريتانيا للجميع، فإنني أدعو الشعب الموريتاني، بكافة مكوناته و أطيافه من طبقة سياسية، وحركات، وجمعيات، و مبادرات شبابية، إلى فتح حوار صريح، بناء، أي موضوعي و متجرد، حول الربيع العربي، ما له و ما عليه.
حوار بناء، يتساءل فيه الجميع، كيف يمكننا الاستفادة من الربيع العربي؟ بعيدا عن توظيف الفكرة لأغراض أنانية و ضيقة، أو النفور من هذا الموضوع كليا، وادعاء عدم إمكانية استفادة الشعب الموريتاني منه مبدئيا، بدعوي الخصوصية و عدم إمكانية و صوله إلينا، كل ذلك بأسلوب حواري راق و مقنع بالحجة، والدليل، و البرهان، بعيدا عن المزايدة و التحريض. لكي نخلص إلي أفكار بناءة من شأنها الإسهام في تقدم ونمو وازدهار موريتانيا الحبيبة سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا.
فهذا هو الأهم.
أدعو إلي هذا الحوار وأنا متأكد أننا، إما أنه يمكن أن نعيش الربيع العربي بطريقتنا الخاصة، لا عنف ولا زعزعة أمن أو استقرار فيها، وإما علينا النفور منه كليا، متى اتضح ارتباطه بالعنف و الدمار و الخراب.
ولأنني لا أدعو أولا وأخيرا إلا إلي السلم و الأمن و الاستقرار، لكن أؤمن بضرورة التغيير الحقيقي، الجالب للتنمية التي نحتاجها، في ظل دولة مدنية حديثة، يتمتع فيها جميع المواطنين بتكافؤ الفرص، والعدل والمساواة، أرجو من النظام والمعارضة عدم التعنت في المواقف، والدخول، في أسرع وقت، في حوار سياسي مسؤول، يشمل جميع ألوان الطيف السياسي، وحتى ذوى الحكمة والرأي السديد، وفئة الشباب، تغلب فيه المصلحة العليا للوطن علي كل شيء، وتعطي الأولوية فيه للخروج من الأزمة السياسية، عبر حل توافقي للمواضيع الشائكة، والعمل بالفعل علي تجديد الطبقة السياسية والإسراع في إرجاع الحكم إلي المدنيين.
محمد يسلم ولد يرب ولد ابيهات.
نواكشوط 18/03/2012