المعهد العالي بين مطرقة البخلاء وسندان الأهواء

عاش المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في السنوات الأخيرة أزمة شديدة اتخذت طابعا كيديا لا يكاد يلفت الانتباه، فبينما كانت تجري عملية اغتياله بهدوء وراء الدهاليز ظلت الشائعات تنشر عن إصلاحه والقضاء على الفساد داخله من أجل تأهيله ليكون جامعة إسلامية تتبع لها فروع ومعاهد في كافة ولايات الوطن على غرار جامعة الأزهر في القاهرة وجامعة الإمام محمد بن سعود في العاصمة السعودية الرياض.

وبينما كان الجميع ينتظر القرار التاريخي الذي يعلن تتويج المعهد بتاج الجامعة بعد عقود من العطاء المتواصل ظهرت تسريبات من داخل أروقة وزارة الشؤون الإسلامية تكشف عن عزم النظام التخلص من المعهد ونقله مع طلابه وأساتذته إلى مدينة لعيون بولاية الحوض الغربي.

جاء رد المعنيين سريعا لسان حالهم يقول تمخض الجبل فولد فأرا، وبدأت الاحتجاجات على القرار. وتحت ضغط الطلاب تم الإعلان بسرعة أن المسجلين الحاليين سيسمح لهم بإكمال دراستهم في نواكشوط ولكن لن يقبل بالمعهد طلاب جدد.

وقد كان العام الدراسي 2010 -2011 عام احتجاجات الأساتذة على القرار وقد أجبرت تلك الاحتجاجات الحكومة على التريث في تصفية المعهد، ومن أبرز ملامح هذه السياسة:

– لم يشر إلى اسم المعهد العالي في القرارات والنظم الخاصة بجامعة لعيون الوليدة.

– لم يعلن رسميا عن إلغاء المقرر القاضي بفتح التسجيل كل سنة في المعهد.

– عين لجامعة لعيون مدير جديد وأبقي على الدكتور أحمد ولد أباه مديرا للمعهد العالي.

ومع بداية العام الدراسي 2011-2012 ومع مرور الوقت على بداية الدراسة وامتناع إدارة المعهد عن استقبال طلاب جدد اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن الهدف هو إغلاق المعهد نهائيا عقابا له على دوره الإسلامي الأصيل، وعقوقا للآباء العلماء الذين سطروا به مجدا شنقيطيا عظيما، وقد سهل ذلك إجماع الساحة الإسلامية بل والوطينة على إدانة هذه الفعلة الغادرة وتمثل ذلك فيما يلي:

– احتجاجات الطلاب التي شملت كافة ألوان النضال المدني السلمي من اعتصامات ومسيرات ووقفات احتجاجية وغيرها.

– احتجاج جميع أساتذة وعمال المعهد ورفضهم لذلك ولم يشذ منهم أحد عن هذا الموقف.

– تعرض وزير الشؤون الإسلامية أحمد ولد النيني للمساءلة من قبل البرلمانيين، وقد اتفقت مداخلات النواب من المعارضين والموالين على رفض القرار.

– توحدت خطب المساجد في الوطن على رفض القرار، ولم يتخلف عالم يشار إليه عن ركب المنادين بالقرار حيث نددت به رابطة العلماء وكان للعلامة الشيخ أحمد ولد لمرابط موقفه الصارم من رفض قرار الإغلاق سرا وعلنا.

وأمام هذا التيار الجارف تراجعت السلطات خطوة وأعلنت فتح المعهد أمام طلاب المعاهد الجهوية دون غيرهم، ثم عادت في وقت آخر ووعدت بفتح التسجيل لطلاب المحاضر بعدد محدود في العام القادم، ولكنها أعلنت أن حملة الشهادة الثانوية غير مرحب بهم في المعهد.

  • لماذا كل هذا؟

يتبادر إلى ذهن المتابع لهذه الأزمة إصرار غريب من النظام على موقف غير واضح الأهداف، وأنه في خطواته الخجولة في التراجع عن هذا القرار الجائر كأنما يساق إلي الموت وهو ينظر، فما سر هذا الموقف الغريب وما ذا وراء الأكمة؟

لقد صاحبت محاولة اغتيال المعهد العالي حملة إعلامية مكثفة، كانت بمثابة عريضة دعوى ضد هذه المؤسسة العظيمة سيقت فيها مبررات الحكم عليه، ومن ذلك:

– أن المعهد ليست له مردودية على الدولة وأن المؤسسات الأخرى التي تخرج الأساتذة والقضاة تغني عنه، وقد نسب تصريح بهذا المعنى لأمين عام وزارة الشؤون الإسلامية الأسبق.

– لقد فهم من إعلان رئيس الدولة محمد ولد عبد العزيز وفي مناسبات عديدة أن الدولة ليست بحاجة إلى الأدباء – التقليل من أهمية التكوين الثقافي عموما والإسلامي خصوصا، وأن الدولة لن تستثمر في المحاضر الإسلامية، ولن تستفيد من ثروتها العلمية في نهضتها الموعودة.

– أن الميزانية التي يكلفها المعهد لخزينة الدولة غير مجدية وأن الإنفاق على مجالات أخرى أمنية واجتماعية أولى وأجدى، على اعتبار أن أهل الدين يكفيهم فضلات الطعام والكساء.

– أن الدولة تكفيها جامعة إسلامية واحدة، وأن اللامركزية في التعليم تقتضي نقلها إلى الولايات الداخلية.

– أن مخرجات المعهد مخيبة للآمال فهو يخرج الطلبة المناضلين، والطالبات المشاغبات وأن العقم خير مما ينتجه هذا المعهد الولود، وقد قال المدير الحالي في خضم معركة فتح التسجيل إن طالبات المعهد لسن بنساء، وهذه التصريحات تذكر بتقديم العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو للمحاكمة بتهمة الإخلال بالآداب العامة، ونشر الصور العارية في آخر أيام العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع.

– أن المعهد يسيطر عليه تيار واحد يوجه العمل النقابي داخله، وأنه ربما يستغله لإزعاج النظام.

– أن مزاج النظام الحالي يفضل الدين التقليدي المحايد في الصراعات المعاصرة، النائي عن طريق السياسة المغامرة، وأنه لا يحتاج إلى رأي ديني عصري يسدد مسيرته التي يرسمها لنفسه بدون تكلفة مادية أو أخلاقية.

  • خلاصات

لقد أثبتت معركة المعد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية حقائق لا يمكن إنكارها وإشارات لا يمكن تجاهلها:

1- المجتمع الموريتاني مجتمع مسلم شديد الاعتزاز بدينه، لا يساوم على رموزه، وقد أعاد بمعركة المعهد العالي ذكريات معاركه المظفرة مع المستعمر في القرن الماضي، حيث كان التعليم الأصلي قلعته المنيعة ودرعه الحصينة من الاستلاب الثقافي والحضاري، وقد ظهر هذا واضحا في الإجماع المطبق على التضامن مع المعهد حتى أصبح عنوانا لرأي عام يرفض المساس بمقدسات البلاد.

2- يوجد تشابه واضح بين الحملة على المعهد العالي والحملة على المعاهد والمؤسسات الإسلامية في آخر أيام الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع، مما يبعث بمؤشرات تشير إلا أن الاستقرار في موريتانيا مازال بعيد المنال.

3- يوضح مسار الأزمة بعد الهوة بين النظام والشارع حيث يستميت المسؤولون في حبك الخطط لإنجاز عمل يجمع المواطنون على رفضه.

4- أن تعامل الإدارة مع أزمة المعهد العالي يكرس المنهج الذي أصبح متبعا في رفض الحوار، وعدم السماع لصوت المواطنين، والامتناع عن إشراك المعنيين، والاستغناء عن استشارة أهل الخبرة.

محمد عبد الرحمن ولد محمود

أستاذ بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى