- تأملت كثيرا ـ في الآونة الأخيرة ـ التغيرات التي حدثت وتحدث في عالمنا العربي محاولا الربط بين خيوطها ومعرفة أبعادها ونتائجها المحققة والمنتظرة .
إن الثورات كمفهوم تمثل التغير الجذري للواقع السياسي والاجتماعي للمجتمع الثائر ، هذا التغير يتماشى مع حجم وشكل الضغط الشعبي الذي نحن بصدد فهو تغير جذري إذا كنا أمام عمل ثوري متكامل بشقيه الفكري والشعبي ، وهو تغير طفيف إذا كنا أمام حراك اجتماعي أو تمرد جزئي أو ضغط سياسي … الخ .
إن الحراك الذي يحدث في العالم العربي ومحاولة البعض إقناعنا بوصوله إلى مستوى العمل الثوري ، جعلني أتساءل عن شكل التغير الذي نسعى إليه وما هي طبيعة النظام السياسي الذي نطمح له .
فالحراك الشعبي الذي يحدث نتيجة تذمر واستياء من تردي الأوضاع الاقتصادية أو عدم الارتياح من بعض السياسات أو التصرفات الخاطئة لأصحاب القرار لا يمكن أن يقود إلى ثورة بدون التكامل مع الجانب الفكري الذي يطرح أصحابه الأساس الحقيقي لشكل التغير الذي نسعى إليه ، فيكون طرحهم هذا على مستوى الرؤية المشتركة التي تكون محل إجماع بين أطياف المجتمع .
هذا الجانب ـ الفكري ـ هو الأقل تناولا خلال هذا الحراك الذي شهده ويشهده عالمنا العربي ، ولعل المسؤولية في هذا الجانب تقع على عاتق النخبة أصحاب المشاريع النهضوية الذين استغلوا شعور الاستياء والتذمر لدى المواطن العربي واستخدموه في تحريك عواطف الناس لصناعة التغير ، وهيأت لهم الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي الأرضية الخصبة لتقبل هذا الخطاب ، لا كنهم لم يستطيعوا ـ أي النخبة ـ أن يلهموا رؤية مشتركة لشكل الدولة التي يطمحون إليها بعد التغير ، لم يستطيعوا أن يصفوا البديل الذي يتناسب مع طبيعة المجتمعات العربية ، فكان جل خطابهم يركز على وضع اليد على الجروح المفتوحة ووصف آلام المواطن العربي بسبب تردي واقعه المعيشي ، وفساد أنظمته ، وتخلفه عن ركب الأمم المتقدمة ـ وهم محقون في ذلك ـ ولكن عندما يصل أحدهم إلى نقطة البديل يلقون شعارات فضفاضة من مثل الديمقراطية والحرية … الخ ، دون وصف دقيق لشكل الديمقراطية العربية التي يطمحون إليها ودون تعمق في التفاصيل .
إن البون شاسع بين المجتمعات الغربية والعربية ، ولعل نقطة الاختلاف الجوهرية هي أن المجتمعات الغربية هي مجتمعات علمانية طلقت المعتقدات الدينية ، فلم تعد من أولوياتها ، فأصبحت شعوب مادية .أما الشعوب العربية فلا تزال ـ ولله الحمد ـ المعتقدات الدينية تلعب دورا رئيسيا في حياة الفرد فهي شعوب تمتزج عندها المادية بالروحانية .ومن نقاط الاختلاف أيضا ، اختلاف الثقافات فالشعوب العربية تعتز بعروبتها وتراثها العربي وما يتضمنه من قيم وعادات وتقاليد … الخ .
إن إي مشروع نهضوي للأمة العربية يتجاهل أصحابه هذه الحقائق أو يتجنبون نقاشها بشكل مباشر لا يمكن أن يقود إلى وضع أسس صلبة للاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يشكل المنطلق نحو التنمية والازدهار والتقدم الذي يطمح إليه المواطن العربي وبناء الدولة القوية القادرة على مواكبة العصر .
إن حملة لواء التغير وقادة المشاريع النهضوية وقعوا في أخطاء جسيمة وذلك عندما أهملوا التركيز على صياغة شكل النظام السياسي ، لم يستطيعوا أن يراعوا خصوصية المجتمع العربي ولا أن يحدثوا التناغم الحقيقي بين مفاهيم كثيرة من قبل إسلامية المجتمع ، دولة المؤسسات والقانون ، الديمقراطية …
مما أوقع لبسا في المفاهيم ، ولعل أول هذه المفاهيم هو الديمقراطية .
لاشك أنه في هذه الكلمة بريقا قويا خاصة بالنسبة للشعوب التي تعاني من القهر والاستبداد ، ولكن عامة الناس لا يكترثون في البحث عن الأسس الفكرية التي تنطلق منها الديمقراطية بقدر ما يهتمون ببعض المظاهر والممارسات السياسية التي يرتاحون إليها ويثنون عليها ويودون أن تكون جزءا من واقعهم لعلهم ينعمون ببعض الخيرات التي تنعم بها الشعوب التي أقامت نظما سياسية ديمقراطية .
والخطأ هنا يكمن في أنهم عندما نظروا إلى الديمقراطية الغربية لم يستطيعوا أن يميزوا بين ثلاثة أمور رئيسية هي :
أ : المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الغربية
ب : الآليات والأجهزة الدستورية المطبقة لهذه المبادئ
ج : نتاج الديمقراطية الغربية أو ما حققه الغرب باستخدام هذه الآليات والأجهزة
وإذا توقفنا عند المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الغربية والتي تنتج عنها آليات وأجهزة دستورية نجد أن هذه المبادئ يمكن أن تلخص كتالي :
1 ـ الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات والشرعية
2 ـ انبثاق السلطات بواسطة الانتخابات
3 ـ فصل السلطات
4 ـ الإقرار للأغلبية أن تحكم وللأقلية أن تعارض
5 ـ التعددية الحزبية
6 ـ التداول السلمي على السلطة
7 ـ مراقبة الحكام وممارسة التأثير عليهم
8 ـ ضمان حريات المعتقد والتعبير والعمل النقابي
9 ـ حفظ مصالح الضعفاء والأقليات
10 ـ احترام حقوق الإنسان
لو تأملنا المبادئ السابقة التي تقوم عليها الديمقراطية الغربية نجد أن بعضها يتوافق مع مبادئ إسلامية ، وبعضها يمكن قبوله كاجتهادات تتماشى مع العصر ولا تتعارض مع المبادئ الإسلامية ولا الرؤية الإسلامية ، ونجد أيضا أن بعضها يتعارض تعارضا تاما مع المبادئ الإسلامية .
وكأمثلة على ذلك نتعرض لبعض المبادئ الإسلامية ونقارنها بمبادئ الديمقراطية الغربية .
- 1 ـ مصدر التشريع
قال تعالى وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك وقال تعالى ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أن تكون لهم الخيرة وقالى تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم وقال تعالى إن الحكم إلا لله …
إن مصدر التشريع هو الله سبحانه وتعالى وحده والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى بالوحي ، والحاكم منفذ لأحكام الله تعالى في الأمة مجتهد في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأساسية .
وبمقارنة هذا المفهوم مع النظام الديمقراطي نجد أول نقاط الاختلاف حيث أنه في هذا النظام يعتبر مصدر التشريع هو الشعب .
- 2 ـ اختيار الحاكم
في الإسلام يعتبر اختيار الحاكم هو للأمة بواسطة أهل الحل والعقد ، ويعتبر الحكم في الإسلام عقد عن تراضي بين الأمة والحاكم ، والحاكم مقيد بتبني الأحكام الشرعية ، ومقيد بالحلال والحرام .
عن عبادة بن الصامت قال : بيعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المكره والمنشط ، فبايعناه فقال : فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان .
وبالعودة للحضارة الإسلامية نجد أن الخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي اختيروا بطرق مختلفة تتناسب مع زمن كل منهم مع مراعاة مبدأي الشورى والبيعة .
وبمقارنة هذا المفهوم مع النظام الديمقراطي نجد أن هناك آليات كثيرة ـ في هذا النظام ـ تتماشى مع العصر ولا تتعارض مع المفاهيم الإسلامية ويمكن قبولها كاجتهادات .
ومن المفاهيم الخاطئة التي يجب التوقف عندها هو اعتقاد البعض أنه لا يمكن فصل الديمقراطية كمبادئ وآليات عن ما حققه الغرب باستخدامها ، فيتصورون أن الشعوب العربية لا يمكن أن تحصل على الديمقراطية إلا إذا أصبحت تحاكي الغرب في كلياته وجزئياته ، وهو ـ مع الأسف ـ تصور سائد في أوساط الشباب وبعض المثقفين .
ولعل اللبس يقع هنا لعدم قدرة البعض على التميز ما بين هدفين أو نتاجين تسعى المجتمعات إلى تحقيقها باستخدام الديمقراطية .
هدف رئيسي أو نتاج نهائي وهو الاستقرار السياسي الذي يشكل الدعامة الرئيسية لأي تقدم أو تطور .
وأهداف جزئية أو نتاج جزئي وتتمثل في صياغة القوانين وإصدار القرارات بالطرق والآليات الديمقراطية من أجل خلق التناغم الدائم ما بين المبادئ التي يقوم عليها المجتمع ، وما بين المتغيرات التي تتطلب تدخلا ، وهو ما يوصلنا إلى الهدف النهائي وهو الاستقرار السياسي والاجتماعي .
ولتوضيح الفرق الشاسع ما بين النتاجين نذكر على سبيل المثال ما حققته فرنسا الدولة الديمقراطية باستخدام آلية ديمقراطية ممثلة في البرلمان الفرنسي عندما سن قانون يمنع ارتداء النقاب ، هذا القانون هو نتاج لعملية ديمقراطية كاملة اعتمدت على إحدى مبادئ الديمقراطية الفرنسية وهو علمانية الدولة والحفاظ على هوية الشعب الفرنسي .
إن الديمقراطية الغربية تحوي من المبادئ والأفكار العلمانية ما يجعل تطبيقها بصيغتها الحالية ـ في المجتمعات العربية ـ أقرب إلى المستحيل .
ومن المفاهيم التي يقع فيها اللبس ” مفهوم دولة المؤسسات والقانون ” ، وإذا توقفنا عند هذا المفهوم نجد أنه يرتكز أساسا على احترام القانون ، حيث تستمد المؤسسات شرعيتها منه ، وهو المنظم لعملها ، وهو المحدد لحقوق المواطنين وواجباتهم ، وفي هذه الدولة يعتبر الناس سواسية أمام القانون الأمر الذي يضمن العدالة والمساواة لكل أفراد المجتمع .
وبمقارنة هذا المفهوم مع منهج الخليفة أبو بكر الصديق في بناء دولة العدل عندما قال بعد توليته الخلافة …. إلا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له الحق ، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه وبوقفة بسيطة مع المفاهيم الإسلامية يتضح بجلاء أن العدالة مطلب إسلامي .
ولكن الإشكالية لا تكمن هنا ، وإنما تكمن في ” طبيعة هذا القانون ” الذي يعد أساس دولة المؤسسات والقانون والذي يحتكم إليه الجميع ويطالب الجميع باحترامه ، هل هو قانون وضعي أم أنه يستمد من تشريع سماوي ، ولن أدخل هنا في جدلية شرعية حول أحقية تطبيق شرع الله في أرض الله على عباد الله ، وإنما سأتعرض له من جانب آخر .
إذا كنت تملك مشروع لبناء دولة المؤسسات ، عليك أن تحرص على أن يحترم الناس القانون ، وأن يسري على الجميع .
ولكن كيف يمكن إقناع الناس باحترام القانون في الدول التي يغلب عليها طابع التدين ، أو بعبارة أخرى في الدول التي تأتي المعتقدات الدينية في مقدمة الأوليات .
إن من أسباب فشل المشاريع السابقة لإقامة الديمقراطية في الوطن العربي يعود إلى تصور أصحابها بأن بإمكانهم تجاوز هذه الخصوصية لإرضاء الغرب ، فكانت النتيجة ديمقراطية مشوهة لا تتناسب مع طبيعة العالم العربي ، ولعل هذا الخطأ هو ما وقع فيه الأخوان .
لقد حمل الأخوان لواء التغير في العالم العربي ، وتجاوزوا في طرحهم كل الخطوط الحمراء في سبيل هذا التغير ، فتحالفوا مع الغرب وقاتلوا تحت مظلتهم ، وبرروا الخروج المسلح على الأنظمة الديكتاتورية ، وأغرقوا الناس بالفتاوى لحثهم على صناعة التغير ، حتى دفع العالم العربي فاتورة غالية من دماءه واستقراره ووحدته وتماسك نسيجه الاجتماعي .
وعندما وصل الأخوان إلى السلطة بدئوا في تقديم التنازلات عن مبادئ كانوا يموتون ويحيون من أجلها ، حتى أنهم بدئوا يسوغون أفكارا غربية لا تخفى علمانيتها على أحد .
لقد بشرنا الأخوان بنتائج هذه الثورات وبأنها ستقود إلى التغير الجذري ، ولكن مع الأسف عندما نرى ما آلت إليه ليبيا من تناحر وتقاسم ونرى مايجري في سوريا اليوم من قتل ودمار ، والصراعات التي تعصف بمصر واليمن ، نتأكد عندها بأن التاريخ سيحاسب الأخوان علي نتائج مشروعهم النهضوي للأمة العربية .
سعد بوه الشيخ أحمد
saadna2005@yahoo.com