يوميات شخص عادي جدا (10)

بسم الله الرحمن الرحيم

كان الركاب يتمايلون بتناغم عجيب مع تمايل سيارة 504، ذات الركاب التسعة (سبعة رجال وامرأتين)، والتي كانت تبتلع طريق الأمل بسرعة فائقة، لا تعادلها إلا السرعة العجيبة التي سيبتلع فيها ـ فيما بعد ـ عقد التسعينات آمال وأحلام جيل بكامله، قُدِّر لي أن أكون واحدا منه.

جيل كان يعتقد بأن الباكالوريا هي بداية لتحقيق الأحلام، فإذا به يكتشف لاحقا بأنها كانت بداية للخيبة الكبرى التي ستلتهم كل الآمال والأحلام.

لقد قدر الله لي، لحكمة بالغة، لا يعلمها إلا هو، بأن أكون واحدا من ذلك الجيل، وأن أكون أيضا واحدا من ركاب تلك السيارة، والتي اختزنت رحلتها من مدينة “لعيون” إلى العاصمة “نواكشوط” ذات يوم من أيام أكتوبر 1985، الكثير من أسرار رحلة أخرى، ستكون أكثر اختصارا، حتى وإن بدت أطول زمنيا. إنها رحلتي التي بدأت يوم ولدت، وستنتهي حتما يوم أموت، في مكان ما، وفي لحظة ما، من يوم قادم لا محالة، من عام قادم.

هكذا نحن مجبرون دائما على السفر عبر طريق سريع، يبدأ بالولادة، وينتهي حتما بالموت. إننا دائما في سفر، يمتد بمسافة أعمارنا، ويتسع بحجم أحلامنا، سنتساقط خلاله واحدا بعد واحد على أرصفة شارع العمر، الطويل والفسيح بأحلامنا، الضيق والقصير بمقياس الزمن.

هكذا نحن دائما، سنسافر جميعا عبر ذلك الطريق، ولن يتخلف عن السفر إلا من لم يولد أصلا، أما من وُلِدَ فسيظل يلهث ويسرع الخطى إلى موت لا يعرف في أي مكان سيقابله، ولا في أي وقت سيلاقيه. ولأننا لا نعرف مكان أو زمان نهاية رحلتنا تلك، فَلِم نتعب أنفسنا بتحديد الأزمنة والأمكنة في التفاصيل الأخرى من تلك الرحلة العابرة، إذا ما أردنا أن نسرد بعض تفاصيلها العابرة، في يوميات عابرة، لقراء عابرين، يعيشون زمنا عابرا، تماما كما أفعل أنا في يومياتي هذه؟

ذلك سؤال كبير أثار جدلا حادا بيني وبين الكاتب، وكان أكثر حدة من الجدل الذي أثاره الخلاف بيننا حول البداية المناسبة لهذه الرواية، والذي أعتقد بأنكم لا زلتم تتذكرونه، ولا زلتم تتذكرون كيف حسمته لصالحي.

إن أكبر مشكلة واجهتني خلال تقديم هذه اليوميات، هي أني ابتليت بكاتب من صلصال قديم، لا يملك من الجرأة ما يكفي لكي يتحرر من الأنماط التقليدية والضوابط البالية في كتابة السير.

وكم من مرة أغاظني هذا الكاتب بجملة بلهاء، ظل يكررها دائما كلما دار بيني وبينه نقاش ساخن حول هذه الجزئية بالذات.

ـ إنه لابد من احترام فواصل الزمن وهوامش المكان عند كتابة سيرتك الشخصية، أي أنه لا بد من احترام التاريخ والجغرافيا في سيرتك.

ولأن الكاتب كان يجد متعة كبيرة في أن يغيظني، فقد أضاف الجملة الأخيرة، والتي لا تضيف أي معنى لما قال، وإنما أضافها فقط حتى يلفظ كلمة “جغرافيا” بنبرة عالية، وبصوت حاد، يختلف تماما عن أسلوبه الطبيعي في الكلام، والمعروف ـ عادة ـ بأنه أسلوب هادئ، بل وخجول في كثير من الأحيان.

ـ ومن قال بأنه لا بد من احترام خط الزمن عند كتابة السير؟ هكذا كنت أسأل الكاتب دائما، كلما كرر جملته البلهاء تلك.

وكان الكاتب يرد : إنه المنطق، إنها كل تجارب كتابات السير التي اطلعت عليها حتى الآن.

وكان ذلك الرد كافيا لأن يشعرني بأنه لا فائدة من مواصلة الحوار، لأنه لن يكون من الممكن أن تقنع شخصا تقليديا كالكاتب ـ حتى لا أقول أثريا ـ بأفكار غير تراثية.

فالكاتب لا يزال غير قادر على أن يقتنع بأن سيرتي هي سيرة غير تقليدية، وأنها تختلف عن كل السير التي قرأها، فهي سيرة شخص عادي جدا، وليست سيرة لأحد المشاهير، لذلك فكان من الأنسب ـ حسب وجهة نظري ـ أن تروى بطريقة غير تقليدية، لأن ذلك وحده هو الذي كان بإمكانه أن يخفف من رتابة حياتي، ومن إيقاعها البطيء والثقيل، والذي لن يتحمله القراء إطلاقا.

كنت أشفق كثيرا على القراء، كلما طالعت حلقة منشورة من حلقات يومياتي، لأني كنت اكتشف مع كل حلقة أطالعها بأن الكاتب قد فشل في أن يضيف شيئا قليلا من التوابل والبهارات ليفتح به شهية القراء لابتلاع حلقات رتيبة، من يوميات رتيبة، كتبت بأحرف وبكلمات أكثر رتابة.

ولعل أعظم مصيبة واجهتني أنا والقراء،على حد سواء، هي أن الكاتب لا يزال ـ رغم كل نقدي ـ يتمسك بأسلوبه البائس في كتابة حلقات هذه اليوميات، والمعتمد على احترام الخط الزمني للرواية، رافضا أن يتجاوز أي سنة من سنوات عمري، حتى ولو لم يكن في تلك السنة أي حدث يستحق أن يذكر.

لم أستطع أن أقنع الكاتب بأن في حياتي ـ كما هو الحال بالنسبة لغالبية البشر ـ لحظات تختزن من المشاعر والأحداث ما يكفي لأن يملأ مجلدات لو وجدت كاتبا مبدعا يبسطها وينثرها في صفحات هذه اليوميات بطريقة إبداعية تختلف عن الطريقة البائسة التي يعتمدها كاتب هذه اليوميات.

وإن في حياتي سنوات أخرى قاحلة، لو وجمع كل ما فيها من أحداث لما ملأت صفحة واحدة من هذه اليوميات.

تلك حقيقة لم أستطع أن أجبر الكاتب على احترامها أثناء كتابة هذه اليوميات، وذلك بسبب أن العقد المبرم بيننا كان يسمح له بكتابة حلقات هذه الرواية بالطريقة التي يراها هو مناسبة، ودون أن يستشيرني. وكانت تلك واحدة من نقاط الضعف في العقد، وهي النقطة التي استغلها الكاتب استغلالا سيئا، انعكس سلبا على الحلقات التسع التي نشرت ـ حتى الآن ـ من هذه الرواية.

ولم يكن أمامي ـ أنا المكبل بعقد جائر ـ إلا أن أتوسل للكاتب، على غير عادتي، حتى يغير طريقته في سرد سيرتي الشخصية، ولذلك فقد قلت له في بداية هذه الجلسة التي كان من المفترض أن أروي له فيها أحداث الحلقة العاشرة من هذه اليوميات.

ـ ما رأيك لو خصصنا هذه الحلقة للقطة واحدة من سفري إلى العاصمة، وهي اللقطة التي لازالت تحتفظ بها ذاكرتي حتى الآن؟

أجاب الكاتب على سؤالي الذي طرحته بنبرة متسولة، بسؤال ارتأى أن يطرحه بنبرة ساخرة.

ـ وما هي تلك اللقطة التي لازالت تحتفظ بها ذاكرتك الكسولة، حتى الآن؟

ـ قد لا تصدقني إذا قلت لك بأني نسيت كل تفاصيل ذلك السفر الذي جرى منذ ما يزيد على ربع قرن، نسيت لحظة الانطلاق، ونسيت لحظة الوصول، ونسيت كل الذي حدث بين لحظة الانطلاق ولحظة الوصول، باستثناء لقطة واحدة لا زالت محفورة في ذاكرتي، لقطة لا طعم لها ولا لون، لا فرح فيها ولا حزن، لا خوف فيها ولا أمان يميزها عن غيرها، ومع ذلك ظلت ـ لحكمة ما ـ عالقة في ذاكرتي، دون غيرها.

لقطة غريبة، وأغرب ما فيها، أنها خالية من أي شيء غريب.

لم يكن من الكاتب إلا أن كرر سؤاله مع زيادة مستوى السخرية في نبرته.

ـ وما هي تلك اللقطة التي لازالت تحتفظ بها ذاكرتك الكسولة، حتى الآن؟

ـ أتذكر بأني خلال ذلك السفر، وفي مكان ما على طريق الأمل التفت عن يميني وعن شمالي ومن أمامي ومن خلفي، فوجدت أن ثمانية من الركاب كانوا يتمايلون بتناغم عجيب مع تمايل السيارة، وذلك بعد أن غلبهم النعاس، فناموا.

وكان كلما استيقظ أحدهم للحظة بفعل ارتطام أو هزة ما، عاد من جديد إلى النوم، في الوقت الذي ظل فيه الراكب التاسع مستيقظا طوال الرحلة، وكنت كلما وصلتني عدوى النعاس، وأغمضت عينيَّ للحظة قصيرة جدا، أعود لفتحهما من جديد.

رد الكاتب بسؤال يقطر سخرية، وكأنه قد امتص كل ما تبقى في حنجرته من سخرية.

ـ أتريد حقا أن نخصص حلقة كاملة من الرواية للقطة تافهة كهذه؟

ـ بلى، هكذا أجبت، ولا أدري إن كنت أنا الذي لفظت كلمة “بلى”، أم أن الكلمة كانت في عجلة من أمرها، فلفظت نفسها بنفسها.

ـ أنا على استعداد لتنفيذ طلبك الغريب هذا، ولكن بشرط.

ـ وما هو؟ هكذا سألت.

ـ أن توافق على تغيير اسم هذه الرواية، ليصبح: “يوميات مجنون تافه جدا”.

ـ ولكنك تعلم بأني لست مجنونا، أما التفاهة فتلك حكاية أخرى.

ـ لست متأكدا تماما من صحتك النفسية، لذلك فإن كانت لديك شهادة صحة نفسية فأرجو أن تريها لي، فربما يطلب مني القراء مستقبلا أن أصورها وأنشرها في الرواية حتى يتأكدوا من أن بطل روايتي ليس بمجنون.

لم أجب الكاتب، وإنما اخترت أن ألوذ بالصمت، فقد كان من العبث بالنسبة لي، أن أحاول أن أثبت عدم جنوني لكاتب غبي، لا يستطيع أن يميز الخيوط الرفيعة التي تفصل بين العبقرية والجنون، فكيف إذا تعلق الأمر بالخيوط الرفيعة جدا التي تفصل بين المجانين وعقول الأشخاص العاديين جدا، كما هو الحال بالنسبة لي؟

خيمت لحظات من الصمت الثقيل، قطعها الكاتب بالإعلان عن استنتاج سخيف، كان قد توصل إليه للتو.

ـ لقد أيقنت الآن بأن أفكارك الغريبة هي التي كانت وراء فشلك في الحياة.

ـ وما الذي كان وراء فشلك أنت في الحياة، يا صاحب الأفكار النيرة؟

لم يجبني الكاتب، ولم يكن لديه ما يجيب به، ولذلك فقد واصلت الحديث، مع محاولة لتغيير مساره قليلا، وذلك بطرح بالسؤال التالي:

ـ هل ترغب في أن أكشف لك سبب فشلي في الحياة؟

ـ بالتأكيد، أرغب في ذلك.

ـ إن سبب فشلي في الحياة يعود أساسا إلى أني بقيت مستيقظا في السيارة خلال رحلتي تلك التي حدثتك عنها، والتي لم أعد أتذكر منه سوى تلك اللقطة العالقة بذاكراتي، والتي رويت لك تفاصيلها.

رد الكاتب بكلمات ساخرة، لم يستطع ـ هذه المرة ـ أن يلفظها بنبرة ساخرة، بعد أن استهلك كل مخزون حنجرته من السخرية في بداية هذا الحوار.

ـ ما رأيك في أن تؤجل قليلا شرح سبب فشلك في الحياة، حتى نذهب إلى مستشفى المجانين، بمقاطعة السبخة، فربما تجد هناك من يفهم حديثك أكثر مني؟

ـ هذا اقتراح جيد، ولعل الجيد فيه هو أن توفق إدارة المستشفى في استغلال فرصة زيارتك لها، وتقرر أن تحتجزك في أحد عنابرها، تطبيقا لمبدأ الإنسان المناسب في المكان المناسب، فتكون بذلك هي أول مؤسسة موريتانية تطبق هذا المبدأ.

سكتُّ للحظة، عدلت خلالها من جلستي، ثم واصلت حديثي بكلمات واثقة، وكأني معلم يحدث أحد تلاميذه الأغبياء في سنة أولى ابتدائي.

ـ يا أيها الكاتب “العبقري”، إني أعلم بأن عقلك المتواضع لن يستوعب ما سأقوله لك الآن، ولكن أرجوك أن تنقل هذا الكلام ـ وبأمانة تامة ـ إلى القراء، فربما يكون من بينهم “مجنون” قادر على فهم ما سأقوله لك الآن، ورب سامع أوعى من مبلغ.

إن تلك اللقطة التي حدثتك عنها منذ لحظات، والتي لا زالت محفورة في ذاكرتي، رغم مرور ما يزيد على ربع قرن من الزمن، لم تكن لقطة عادية، حتى وإن بدت في ظاهرها مجرد لقطة عادية لا تثير أي فضول .

إن تلك اللقطة تفسرـ يا كاتبنا “العبقري” ـ الكثير من أسرار حياتي، إنها تفسر ـ وكما قلت لك ـ سبب فشلي في الحياة، أو ما قد تعتبره أنت والقراء، على أنه فشل، وإن كنت أنا أعتبره أعظم نجاح حققته حتى الآن.

فأي نجاح أعظم من أن تظل ساهرا لعقد كامل من الزمن، ودون أن تغمض عينا، في الوقت الذين يكون فيه كل من حولك نياما لا يستيقظون أبدا؟

أرجو أن لا تحاول الإجابة على هذا السؤال، فالسؤال ليس موجها إليك، يا كاتبنا “العبقري”، فأنا أعرف بأنك لا تتقن الإجابة إلا على الأسئلة الهامشية، أما الأسئلة الكبرى، كما هو الحال بالنسبة لهذا السؤال، فلا يمكنك الإجابة عليها، وستبقى الإجابات عليها أكبر من عقلك بمئات السنين الضوئية.

وأعلم يا كاتبنا “العبقري” بأني عانيت مشقة السفر في رحلتي تلك، لأني لم استطع النوم كما فعل بقية الركاب، وهو ما جعلني أعيش الرحلة لحظة لحظة، وأتجرع أتعابها كاملة، عكس بقية الركاب الذين ساعدهم النوم في قطع مسافات طويلة من الرحلة دون أي معاناة.

ونفس الشيء تكرر في رحلتي الأخرى، خاصة في عقد التسعينات، والذي تعتبره أنت، كما قد يعتبره القراء،عقد فشل بامتياز بالنسبة لي، وإن كنت أنا أعتبره عقد نجاح بامتياز.

لم أستطع أن أغمض عيون الضمير، وأنا أبذل جهدا كبيرا لعبور مسافة عقد التسعينات من رحلة عمري، وكان عبور تلك المسافة، هو من أصعب مسافات عمري التي عبرتها حتى الآن.

لقد كان بإمكاني أن أغمض عينيَّ في رحلتي إلى العاصمة، كما فعل بقية الركاب، وكان ذلك سيخفف ـ لا محالة ـ من وغثاء السفر، ولكني لم أفعل. وكان بإمكاني أيضا ـ يا كاتبنا “العبقري” ـ أن أغمض عيون ضميري في التسعينات، كما كانت تفعل أغلبية الناس، وكان ذلك سيخفف حتما من شقاء التسعينات، ولكني لم أفعل، بل تركت عيون ضميري مفتوحة، لأصل إلى قمة “الفشل” في ظرف قياسي.

كان سائق سيارة 504 يتعمد أن يسوق سيارته بطريقة لا توقظ الركاب، ربما خوفا من طلباتهم المزعجة، وكان الركاب يجدون متعة في مواصلة نومهم، وكان الكل مرتاحا، باستثنائي أنا لأنني لم أتمكن من أن أغمض عيني.

كان سائق “البيجو” سعيدا بنوم الركاب، تماما كما كان سائق البلاد، والذي استولى على زمرة قيادتها منذ يوم 12 ـ 12 ـ 1984، سعيدا بنوم ضمير شعب بكامله.

ولقد كان العام الدراسي 1984 ـ 1985 عام أحلام بالنسبة لي. ففي مطلع ذلك العام حلمت ببلد ينعم بالديمقراطية والعدل، وذلك بعد أن صدقت وعود قائد انقلاب 12ـ 12. وفي نهاية ذلك العام الدراسي حصلت على الباكالوريا (الدورة الثانية)، والتي كنت أعتبرها بمثابة تأشيرة لتحقيق أحلامي الشخصية، ولم يكن تزامن حصولي على الباكالوريا مع انقلاب “معاوية” مجرد صدفة عابرة على رصيف شارع عمري. .

حلمان كبيران رسمتهما في ذلك العام الدراسي، حلم شخصي، وحلم للوطن، ولكن عقد التسعينات لم يكن عقدا لتحقيق الأحلام، لا الأحلام الشخصية، ولا تلك التي تتعلق بالوطن، وإنما كان عقدا لاغتيال كل الأحلام، وبشتى أصنافها، كبرى أو صغرى، شخصية كانت أو وطنية.

ففي عقد التسعينات تبخرت أحلامي الشخصية لأني رفضت أن أغمض عيون الضمير، في ذلك العقد الذي أغمض فيه الجميع عيون ضمائرهم، فناموا وارتاحوا.

أغمض العلماء عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..

وأغمض المثقفون عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..

وأغمض الوجهاء عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..

وأغمض الشيوخ والصغار والنساء والرجال والبسطاء و”كبار” القوم عيون ضمائرهم فناموا وارتاحوا..

لقد عبر الشعب كله عقد التسعينات، وهو نائم مرتاح مغمض العيون، تماما كما فعل ركاب سيارة “البيجو” في تلك اللقطة العالقة بعناد عجيب على حافة ذاكرتي.

وكان الشعب يهذي وهو نائم..

ووصل الهذيان بعجوز أن طلبت من الرئيس “معاوية” أن يحجز لها مقعدا في الجنة، وذلك بعد أن حقق لها كل أحلامها الدنيوية..

ووصل الهذيان بشخصية سياسية وإعلامية بأن قدمت ـ وهي نائمة ـ المصحف الكريم للرئيس “معاوية” على أساس أنه هدية متواضعة.

ووصل الهذيان بشيخ كبير إلى أن أقسم بأن البركة نزلت من السماء ليلة 12 ـ 12، وأن أفراد عائلته شبعوا في تلك الليلة من قبل أن يأكلوا..

لقد تعرضت الأخلاق والقيم في عقد التسعينات إلى زلزال عظيم، جعل عاليها سافلها، و سافلها عاليها، ولعل المصيبة الكبرى أن الزلزال حدث والناس في سكرة نومهم يعمهون، ولم يشعر به أحدا، إلا من رحم ربك.

إن أخطر الزلازل تلك التي تحدث والناس نيام.

وفي عقد التسعينات، وبعد الزلزال الكبير الذي دمر أخلاق الناس، لم يكن غريبا أن نشاهد ـ ونحن نيام ـ الشيخ الطاعن في السن، يكذب الكذبة الكبيرة، والتي تمتد عبر الآفاق التي يصلها بث “عربسات”، يظهر على الشاشة، وهو يرتعش، مصحوبا بدفتر أحد أحفاده، ويدعي بأنه دفتره هو، وبأن ما كُتِب في الدفتر كتبه هو بيمينه، أو بشماله، في فصل محو الأمية الذي لم يزره إلا مع زيارة التلفزيون له.

وفي عقد التسعينات كان بإمكاننا أن نشاهد ـ ونحن نيام ـ الطبيب، وهو يفتخر بكثرة القمامة في البلاد، ويعتبرها بشارة خير، لأنها جاءت نتيجة لطفرة استهلاكية لم يكن بالإمكان تنظيف مخلفاتها، حتى ولو جيء بكل عمال النظافة في العالم.

وفي عقد التسعينات كان بإمكاننا أن نسمع ـ ونحن نيام ـ صاحب منظمة غير حكومية، وهو يهذي ويقول بكل وقاحة، بأن منظمته ستقضي ـ نهائيا ـ على الأمية في موريتانيا وفي كل الدول المجاورة، خلال الأشهر الستة القادمة.

لم يبق فحش إلا وشاهدناه في عقد التسعينات، ولم يبق هذيان إلا وسمعناه في ذلك العقد الضائع من عمري، والضائع من عمر وطن بكامله، ولا يعني ذلك ـ بأي حال من الأحوال ـ بأن هناك عقودا أخرى في عمري، أو في عمر الوطن، لم تكن ضائعة.

ولم يكن أمامنا في عقد التسعينات إلا خياران لا ثالث لهما: إما أن ننام فنُريح ونستريح، وإما أن نستيقظ فنَشقى ونُشقي.

وكانت من حين لآخر تحدث هزة، أو ارتطام ما، يجبر الجميع على أن يفتح عيونه، ولكن المأساة أن الجميع لم يكن يفتح عيونه إلا بقدر مسافة الهزة، وعمر الارتطام، ثم يعود إلى نوم عميق، تماما كما كان يحدث لركاب سيارة “البيجو” خلال عبورها لطريق الأمل، فكان الركاب يستيقظون مسافة الهزة التي قد تتعرض لها السيارة، ثم يعودون إلى نومهم، وكأن شيئا لم يحدث.

وكانت أعظم هزة حدثت خلال فترة حكم “معاوية” هي تلك الهزة التي أيقظت الناس جميعا ـ على الأقل ـ خلال يومي الثامن والتاسع من يونيو من العام 2003.

ثم عاد الناس لنومهم، بعد فترات متفاوتة طبعا من اليقظة، كانت تختلف من شخص لآخر، كل حسب تأثيرات الهزة العظيمة عليه. ولكن المفارقة، أن قلة من أولئك الذين ناموا أكثر من غيرهم، في فترة حكم “معاوية”، هم الذي رفضوا أن يناموا نوما عميقا هذه المرة، وهم الذين أيقظوا الناس على هزة عظيمة أخرى، صادفت فجر الثالث من أغسطس من العام 2005.

وبالتأكيد فإني لم أسلم من نعاس عقد التسعينات، ولقد مرت بي أوقات كدت أن أغمض فيها عيون ضميري، تماما كما مرت بي لحظات في رحلة “البيجو” كدت أن أغمض فيها عيون بصري، ولكني كنت دائما أتمكن من أفتحهما من جديد.

لم أكن أنبل خُلقا من نيام عقد التسعينات، ولم أكن أشرف منهم، ولا أكثر وطنية، ولا أقوى صلابة، حتى أفسر يقظتي بشيء من ذلك.

لقد كنت من نفس العجينة، وأتذكر أني في مرة من المرات، وبعد أن أرهقتني البطالة، وأتعبني السهر، قررت صحبة بعض أصدقائي أن أطلق مبادرة، كانت ستشكل لو أنها رأت النور حديث الناس في تلك الفترة.

ومن المعروف مما تم تسجيله من هذيان النائمين، بأن أولئك الذين يُظهرون في البداية قدرة عجيبة على تحمل السهر لسنوات، هم الذين عندما يغلبهم النعاس، ويناموا في وقت متأخر، يصدمون الجميع بهذيان فاضح، لم يتجرأ عليه غيرهم ممن نام في وقت مبكر.

وكدت أن أنضم إلى أولئك، لأقول لنيام التسعينات بأني لست أقل ذكاء منهم، وأن بإمكاني ـ أنا أيضا ـ أن أغفو، وأن أهذي، وأن أبتدع مبادرة أختصر بها المسافات التي قطعوها هم خلال سنوات من النوم العميق. كنت أريد أن أقول لهم بأن بإمكاني أن أقفز مباشرة إلى أعلى السلم، لأضع منكبي بمنكب أولئك الذين ناموا منذ عقد من الزمن.

كانت مبادرتي ستعزف على وتر حساس جدا، لأنها كانت ستطالب بمملكة دستورية في موريتانيا، على أساس أن ذلك سيجنب البلاد أي هزات في المستقبل، وسيوقف مطامع الجميع لتظل السلطة حكرا لآل “الطايع” الكرام.

وتم إعداد خطة مثيرة لإخراج تلك المبادرة بطريقة في منتهى الإثارة، قادرة على أن تجعلها تبرز من بين مئات المبادرات، في ذلك العقد الذي لم ننتج فيه سوى المبادرات. وكانت المبادرة ـ بكل تأكيد ـ ستبهر كل النيام، وكانت ستلفت ـ لا محالة ـ انتباه الرئيس.

وفجأة صحوت، كما كنت أصحو دائما كلما أغمضت عينيَّ في تلك اللقطة العالقة بعناد عجيب في ذاكرتي، منذ ما يزيد على ربع قرن، خلال سفر على طريق الأمل، كنت مثقلا خلاله بحمولة كبيرة من الأحلام، لي، ولوطني، سينتزعها مني عقد التسعينات بعجرفة وخشونة لم أكن أتوقعها.

صحوت لأغتال مبادرتي في مهدها، وذلك من قبل أن يتلقفها النيام فتصبح عملية اغتيالها عملية مستحيلة.

صحوت في الوقت المناسب، ليس لخصوصية تميزني عن بقية النيام، وإنما لأن رحمة من ربي تداركتني، كما كانت تتداركني دائما في كل تلك الأوقات التي كنت أضع فيها نفسي في مواضع الهلاك.

تصبحون على الحلقة الحادية عشر من الرواية….

محمد الأمين ولد الفاضل

رئيس مركز ” الخطوة الأولى” للتنمية الذاتية

هاتف 46821727

elvadel@gmail.com

www.elvadel.blogspot.com

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى