إنهم غاضبون…

تقول الحكاية إن شيخا ورعا ساقته الأقدار إلى قرية وثنية يعبد أهلها شجرة عظيمة. غضب الشيخ الورع لله وعزم على أن يبيت الشجرة. شحذ قادومه وانتظر آخر الليل، ثم يممها… قبل أن يصلها بخطوات ظهر له فجأة شيخ بدا وقورا.. سأله الشيخ:

ـ أين تريد يا عبد الله.

ـــ أريد هذه الشجرة التي تعبد من دون الله لأجتثها.

قال الشيخ الوقور:

ـــ وما أدراك أنها تعبد من دون الله؟ ولنفترض أنهم يعبدونها..”أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين!” الإسلام دين الحرية “لا إكراه في الدين”، “لكم دينكم ولي دين”، “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، “الحرية مكفولة للجميع في نظم الحياة التي يختارونها”…

استمر الجدال بين الشيخ الغاضب لله، والشيخ المنتصر للحرية والتسامح… حين لاح الفجر في الأفق اقترح الشيخ المنتصر للحرية على الشيخ الغاضب لله حلا وسطا، يبعدهما عن الغلو والتطرف.. اقترح عليه أن يترك الشجرة وعبَّادها، فلو شاء الله لهداهم أجمعين، وسيعينه على صروف زمانه بدينارين ذهبا، يجدهما تحت وسادته كل صباح.. اتفق الشيخان فأطفأ الانتصار للحرية جذوة الغضب لله.

وفَّى الشيخ بوعده، الليلة الأولى، والليلة الثانية.. حتى إذا أشرق صباح اليوم الثالث لم يجد الشيخ الغاضب لله شيئا تحت وسادته.. التمس لأخيه عذرا وانتظر الصباح الثاني، والثالث، لكن الدينارين لم يظهرا! قرر العودة إلى مشروعه القديم، فشحذ قدومه، وانتظر آخر الليل، حتى إذا أشرف على الشجرة ظهر الشيخ الوقور، كما ظهر أول مرة…

ـــــ أين تريد يا عبد الدينار والدرهم!

صعق الشيخ، خارت قوائمه، وسقط القدوم من يده…

استمر الشيخ الوقور معنفا…

ــــــ في المرة الأولى كانت غضبتك لله فلقيت عنتا في ثنيك عما هممت به. أما الليلة فإنك غاضب للدينارين، لذلك سلطني الله عليك…

تتشابه ليالي الغضب، وأيامه، حين لا تكون لله، لتنتهي فتنة في الدين، وفسادا في الأرض.. غضب للديمقراطية، غضب للدستور، غضب للمعهد، غضب للحرائر، غضب للشيخ، غضب للجامعة… كل هذا الغضب لغير الله يولد العنف المادي واللفظي، فيخالف الغاضبون عن أمره صلى الله عليه وسلم، حين قال للذي سأله..”… يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فأنسى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغضب.” ( 1612/موطأ مالك).
وعقد البخاري، في صحيحه بابا بعنوان: باب الحذر من الغضب، أورد فيه الأحاديث التي تحذر من الغضب، ومنها هذا الحديث:”… عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب. فردد مراراً، قال: لا تغضب.” (5765/البخاري). أورد النووي، في شرح صحيح مسلم، عند تعليقه على الحديث..” أن الغضب من نزغات الشيطان، ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له أوصني: لا تغضب فردد مراراً قال لا تغضب فلم يزده في الوصية على لا تغضب مع تكراره الطلب، وهذا دليل ظاهر في عظم مفسدة الغضب وما ينشأ منه.” وأورد البيهقي الحديث في سننه، مع زيادة تظهر عمق إدراك السائل لوصية النبي صلى الله عليه وسلم..”… عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رجل أوصني يا رسول الله قال لا تغضب قال الرجل ففكرت حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.” (20065/سنن البيهقي).

أبعد كل هذا التحذير من الغضب يجعله حزب إسلامي عنوانا لفعله السياسي، ويتصرف، مع الأفراد والجماعة، بمنطق الغضب الذي “يجمع الشر كله”! ولما كان الغضب جامعا للشر كله، تجلى ذلك في سيل الشتائم والسباب التي كالها بعض الإخوان لمن يعتبرونهم خصوما سياسيين، أو فكريين. يكفي للإطلاع على ذلك قراءة بعض الجمل المكتوبة باللون الأحمر على الجدران، مثل هذه العبارة المكتوبة على جدار مؤسسة تربوية: “إرحل ياخسيس.”، فأي أخلاق إسلامية تسمح باستعمال مثل هذا اللفظ مع مسلم، أحرى أن يكون رمزا لشعب، ورئيسا لدولة! أو قراءة بعض ما نشر في موقع السراج، أو على صفحات الفيسبوك…

لقد صب القوم جام غضبهم على محمد إسحاق الكنتي فأقذعوا في هجائه، ولم يتوسطوا في سبه وشتمه، لماذا؟ لأنه يعبر عن رأيه في المواقف السياسية لقادة حزب الإصلاح المحرضة على الفتنة الاجتماعية، والفوضى السياسية، وينتقد انتقال حركة الإخوان العالمية إلى صف العلمانيين، بعد عقود قضتها ترفع شعار الإسلام هو الحل… للرد على مناقشة الأفكار، ونقد المواقف، يهتم بعض الإخوان بوجه الكاتب (صنع الله الذي أتقن كل شيء) على طريقة كاتب رواية (وليمة لأعشاب البحر) الذي وصف الله بأنه “رسام فاشل”، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا… لكن الأمانة تقتضي الاعتراف بأن أجهزة إعلام تواصل لم تخص الكنتي بالسب والشتم، وإنما هذا منهج راسخ عند القوم، الذين لا يملون ترديد عبارة “لحم العلماء مسموم”، حين يتعرض أحد بعبارة لطيفة، وأدب جم، لمواقف سياسية وفتوى فقهية تخدم أغراضهم. لكن لحم العلماء يفقد سُمِّيته بشكل تام حين يتعلق الأمر بفقهاء غير محسوبين على تواصل…

لقد شنت الراية حملة شعواء على الفقهاء، ونعتتهم بأسوء النعوت أيام صراع الإخوان مع نظام ولد الطايع. استخدمت الراية في تلك الحملة جميع وسائل التشهير.. تقول عن أحد الفقهاء.. “… وقد تمت مكافأته على جهوده الشريرة تلك بتحويل مبلغ مالي ضخم تجاوز المائتين والخمسين مليون أوقية على حسابه الخاص…” (الراية 25/7/2003). تنتقل الراية من التشهير إلى ما هو أسوأ.. فقد نشرت صورة لتحويل المبلغ المذكور إلى الهيئة التي يرأسها الفقيه، ولا يرد اسم الفقيه، ولا حسابه الخاص في التحويل إطلاقا!

وتستمر الحملة على الفقيه عبر مقالات كلها قدح وهجاء، مثل هذا المقال المعنون: الآن وصل الثمن… يقول أبو ياسين (اسم مستعار) “شيخ كبار يدخل حسابه ثمن دينه…” ويختم بهذه الآية “الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.” (السراج 14/8/2003). ويتهم شيخ آخر صراحة بهذه العبارة..” وقد جلستم مجالس الريبة.” (مقال بعنوان متى ينتصر الشيخ… للحق بالحق، الراية 25/8/2003). ويعود الهجوم على الشيخ عبر مقال بعنوان: شر العلماء أقربهم من الأمراء… يقول صاحب المقال:” المفسدة المترتبة على السكوت عنهم أعظم من مفسدة التحذير منهم وهتك أعراضهم… لأن هؤلاء مجرد طلبة علم، وهناك من العلماء من يتورع من [عن] الصلاة خلف أحدهم… وهذا الشيخ إذا ما استشهد بالحديث فإنه يستشهد بالأحاديث الموضوعة لأن بضاعته في هذا العلم مزجاة.” (الراية 30/9/2003).

سبحان الله! أي مصلحة تأتي من هتك أعراض العلماء، واتهامهم بالجهل والطعن في عدالتهم؟ لا يبدو أن تلك المقالات التي نشرتها الراية كانت آراء فردية، وإنما كانت حملة منسقة يقف خلفها تنظيم، كما صرحت بذلك إحدى المقالات، التي حملت عنوان: خطيب الشيطان. تقول المقالة:”… وهي افتراءات تولت كتائب عز الدين بن عبد السلام القلمية الرد عليها في مقالات كثيرة مختلفة المواقع.” (الراية 01/06/2005). وتلك إساءة أخرى إلى عالم جليل يربط اسمه بسب العلماء و”هتك أعراضهم”…

الغريب أن الموقع عند التعريف بنفسه، يقول: “… قررنا إنشاء موقع يساهم في الدعوة إلى منهج الله الخالد بالكلمة الطيبة، والخبر الصادق، والتحليل الجاد المحايد…” فأين هذه الدعوى العريضة من المقالات المذكورة، وهذا المقال بعنوان: يا علماء السلطان أليس منكم رجل رشيد.

يقول صاحب المقال:”… ولا تخافون الله إن كذبتم… فإلى متى هذا التمادي في الغي والضلال.” (الراية 22/05/2005). ومقال آخر بعنوان: معالي الوزير إنكم تكذبون، يقول صاحبه:”معالي الوزير إنكم تكذبون.. وتعتدون.. وتظلمون (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)” (الراية 21/05/2005). ينافي هذا الافراط في السب والشتم الأخلاق الإسلامية، والآداب العامة والفطرة السليمة، فليس المسلم طعانا ولا لعانا، لكن مقالات الراية لا تتجاوز الطعن واللعن، حين ترد على مخالفين يطرحون آراءهم بلغة العلم وأخلاق العلماء، الذين قد لا نشاطرهم ما يذهبون إليه لكن ذلك لا يبيح أعراضهم ولا يشرع الوقيعة فيهم بهذه العبارات النابية…

وورثت السراج الراية، ومنها تعلمت لغة الشتم والسب، فبقيت دار لقمان على حالها لأن هذا منهج متبع وأسلوب مرتضى، وعنها ورثت الدعوى العريضة في الدقة والتميز. يقول أصحاب الموقع..”موقع ألكتروني… يتخذ من الدقة والتميز والمهنية ضابطه العام.. وليكون منبرا للرأي والفكر والتحليل وميدانا لمناقشة الأفكار وتبادل التجارب…” (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، فأي فكر، وأي تحليل في مقالة كلها هجاء مقذع، وسب للأصول والفروع!

لقد توعدني محمد غلام ولد الحاج الشيخ نائب رئيس حزب الإصلاح والتنمية الإسلامي بهذا في رسالته التي نشرتها في مقال (قلم حبر وقلم رصاص). لقد تنكب السيد محمد غلام أشعريته حين رأى وجوب وفائه بوعيده، فكان ذلك الشاعر أقرب منه إلى روح الإسلام وشهامة العرب، حين قال:
وكنت إذا أوعدته أو وعدته… لمخلف إيعادي منجز موعدي
يبرر التواصليون سيل الشتائم بالرد على مقال: (من القصر الرمادي…) مدعين الدفاع عن الشيخ، الذي لم يذكر المقال اسمه للدلالة على أن شخصه غير مقصود، وإنما يتجه النقد إلى مواقف سياسية، وفتاوى يمكن لأي فقيه مشتغل بالسياسة أن يطلقها، ولم ترد في المقال عبارة واحدة نابية، ولا اتهام من غير دليل.. لكن ذلك لم يمنع محمد غلام من اتهامي بالتحامل على الشيخ! دون إيراد دليل واحد على دعواه.
إفراط التواصليين في دعوى حب الشيخ تجعلهم يشتمون الفقهاء، بل الشعب الموريتاني كله حين يريدون مديح الشيخ. فقد نشرت الأخبار مقالا بعنوان: “علماء مقلدون وعالم واحد مجتهد”. ونشرت الراية من قبل مقالا بهذا العنوان: “نحن حقا لا نستحق الشيخ…” (الراية 25/07/2005). لكن هذا الحب لا ينسحب على فتاوى الشيخ التي لا تخدم الحزب.. تقول الراية:”… يذكر أن الشيخ… قد أصدر فتوى السنة الماضية بوجوب قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني…” (الراية30/03/2003). لكن هذه الفتوى الملزمة لمريدي الشيخ ومحبيه لم تمنع حزب تواصل من الانضمام إلى حكومة التطبيع، ولم نسمع أن الشيخ غير فتواه، بل لم نسمع أن الحزب يستند إلى فتاوى الشيخ في ممارسته السياسية، أو يتخذها مرجعا، لكنه يستثمر الشيخ ما أمكنه ذلك… فقد كان شفيعه أيام المناصحة، ويتخذه اليوم جنة حين قرر المناطحة…
تقول العرب إن شر الناس من إذا رضي عنك مدحك بما ليس فيك وإذا غضب عليك أقذع في هجائك. يمارس التواصليون هذا النهج بإفراط. تقول الأخبار في مقابلة لها مع أحد العلماء، الذي طالما وقع التواصليون في عرضه: ” … العالم الموريتاني ذائع الصيت.. من محيط معرفي أثيل،[أصيل] خرج متفننا في مختلف علوم اللغة والشريعة الإسلامية، فنال بمسيرته العلمية والوظيفية شهرة انضافت إلى الشهرة القديمة لأسرته العلمية، فجعلت منه واحدا من أبرز الأسماء. عايش الشيخ … استقلال بلاده ورافق مسيرتها في الفترات المختلفة عالما ومفكرا. وكان لحضوره على التلفزيون الموريتاني الأثر الأكبر في تشكيل صورته لدى الرأي المحلي والتواصل معه كشخصية علمية بارزة. يعتبر … أحد أساطين علم “المنطق” الذي ازدهر في التاريخ الإسلامي، كما لديه ثقافة مستفيضة في علم الرياضيات والفلك، فضلا عن المعارف التقليدية للشخص العالم.. وهو إلى ذلك أحد كبار أدباء البلاد.” (مقابلة 16/10/2011). لكن الأخبار تعود لتنشر مقالا بعنوان: الفقيه الأديب والمستبد الجاهل…(الأخبار17/04/2012)، لا تبدو فيه صورة الفقيه مشرقة كما هي في المقابلة. وزاد الأمر تناقضا حين شن شباب تواصل حملة شعواء على الفقيه عبر المواقع الألكترونية. وحين سئل عنها رئيس الحزب اكتفى بالقول :”… إنه لم يكلف شخصا أو مجموعة أو جهة بالتهجم على الشيخ… أو غيره.” (في حفل عشاء أقامه الحزب للصحافة). يبدو تصريح رئيس الحزب قريبا من قول أبي سفيان في مثلة أحد:”لم آمر بها ولم تسؤني.”، فهو لم يستنكر الحملة، ولم ينه عنها، ومن لم ينه سفهاءه فقد أمرهم…

أبعد كل هذا يفرح شخص لمديح الإخوان أو يحزن لشتمهم! أبدا. لكنه يأسف لغضبهم الانتقائي؛ فقد غضبوا للسفارة الإسرائيلية حين وقع تفجير بجانبها لم يحدث خسائر في الأرواح، ولا خسائر مادية تذكر، لكن رئيس حزب تواصل كان السياسي الوحيد الذي ظهر على شاشة الجزيرة منددا بالعمل الإرهابي.. لكن حين أحرقت الأصول المالكية اكتفى الحزب بإصدار بيان باهت، هو إلى العي أقرب، يكاد يكون نسخة من بيانهم حول حرق المصحف، تواروا فيه خلف سلفية شبيهة بفقه برد… لكنهم لا زالوا غاضبين…

غضب نيرون فأحرق روما.. وغضب التتار فأحرقوا دار السلام.. وغضبت الكنيسة فأحرقت العلماء.. وغضب اليهود فأحرقوا المسجد الأقصى.. وغضبت إيرا فأحرقت المتون المالكية.. وغضب شباب تواصل فأحرقوا إطارات السيارات.. ترى ما الذي يجمع بين كل هؤلاء الغاضبين؟…

دكتور/محمد إسحاق الكنتي

Alkunty_dr@yahoo.fr