تفكير هادئ وعيون مغمضة: “اليوغا” على جماجم الأرقاء…

لطالما فضلت النأي بنفسي عن ما أسماه الدكتور الشنقيطي مجازا “العجاج واللجاج” حول قضية الرق وإرتباطها بالمحرقة التي قام بها الحقوقي بيرام ول إعبيدي لبعض متون الفقه المالكي.


ومع ذلك فلقد كان موقفي من هذه السابقة الخطيرة واضحا جليا حيث قمت بشجب هذا التصرف المبتذل من طرف منظمة “ايرا” انطلاقا من قناعاتي بأن إحراق أي نتاج معرفي (وبالخصوص إجتهادات فقهائنا الأجلاء) هو إرهاب فكري يعبر عن عجز الجاني عن مقارعة هذه النصوص والرد عليها من منطلق عقلي أكاديمي يستند إلى الحجج الدامغة والبراهين الواضحة والتتبع المنهجي القويم للرد على المغالطات ومكامن الزيغ و الخطأ.

وفعلا وبعد إنتظار طويل وصبر مرير—على التحامل الفيسبوكي المقيت, والمقذع على “شخص” بيرام والذي صحبه في كثير من الأحيان نفَس من السخرية والتعالي على بني جلدته من “العبيد”, خرج المفكر الإسلامي الشنقيطي بمقاله الفاروق,حيث أزاح قناع فقه الاسترقاق البالي الذي طالما شوه وجه الشريعة الإسلامية السمحة. لقد نجح المفكر إلى حد كبير في تبيان البون الشاسع بين ماتدعو إليه تعاليم الشريعة السمحة في قضايا الرق, من تضييق لمنافذه , وتعديد لمنافذ التحرر منه كالمكاتبة والعتق , والمساواة في الملبس والمأكل وغيرذلك, وبين ما جاء في “بعض” كتب الفقه وفروعها من “إلتفاف” على هذه المبادئ الشرعية و”تمييع” لها, الأمر الذي لم يؤدي فقط الى النيل من سماحة الإسلام ورسالته الخالدة (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا), سورة الاسراء, الآية 70, بل أيضا إلى إمتهان الإنسان وإحتقاره وتسخيره لرغبات “أسياده” البغيضة بإسم الدين والتدين.

لكنني لم أكد ألتقط أنفاس الفرحة العارمة التي شعرت بها إثر بروز شخصية علمية موريتانية ذات رؤية تجديدية وحس نقدي يزاوج ببراعة بين العقل و النقل ويمد الجسور يينهما لتكون المحصلة النهائية “التجديد” لا التقليد الأعمى, حتى إنبرى له شاب محظري كريم, لم يثبت في صدره من مقال الشنقيطي الرصين, وتنقيبه المضني في التراث الفقهي, سوى كلمة “التفكير الهادي” فجلس القرفصاء وأغمض عينيه يمارس اليوغا على جماجم الأرقاء.

كان أول ماتبادر إلى ذهني عندما قرأت مقال الأستاذ الفاضل يحظيه ببات حادثتان قمت بربطهما في عجالة لعلي أخلص إلى فهم موقفه الغريب الذي قد يخيل إلى من لا يعرف الرجل أنه “تأصيل للعنصرية”. لقد ذكرني موقف الأستاذ بكلمات من مقال للدكتور خالد حروب تحدث فيه عن الفرق بين المثقف الناقد والمثقف الإعتذاري, وبعد ان ربطت كلمات هذا الأخير بطرح سابق للدكتورة آمنة نصير, أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر, التي اخبرتني في مقابلة شخصية معها, “المشكلة في موريتانيا هي أن عندكم علماء فروعيين, يفضلون النقل على العقل, يحفظون فقط” (مع اختلافي معها في الرأي), إنتهيت إلى أنه فعلا قد حق لأستاذنا المحظري أن يتفاجأ من إستشهادات الشنقيطي بجهابذة العقل والمنطق من أمثال ابن حزم والشيخ رشيد رضا.

والغريب في الأمر, أن الأستاذ الكريم لم يكتف فقط بإتخاذ موقف المحامي المناكف عن الفقه الإسلامي برمته, غثه وسمينه,صالحه وطالحه, بل طفق يستدل بآراء وتفسيرات تعود للقرن الرابع الهجري ناسيا أو متناسيا أن الدكتور الشنقيطي كان قد أكد على أن السياق “الزمكاني” وواقع القهر الأجتماعي انذاك قد لعبا دورا مهما في فهم الفقهاء والمفسرين للآيات الكريمات. ويبدو موقف الزميل ببات في دفاعه اللامتبصر عن الفهوم الأولى برمتها وتفضيله لمدرسة “الحفظ” أو الأثر جليا في إقتباساته من كتاب محمد حسين الذهبي “التفسير والمفسرون” مثلا. فهو يقدم لمرافعته عن تفسير الطبري بشهادة شيخ الإسلام ابن تيمية قائلا:

“وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فآنه يذكر مقالات السلف بالروايات الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين” مجموع الفتاوى الكبرى (13/385).”

و لعله لا يخفى على الأخ “المحامي” أنه رغم إجلالنا لتفسير الطبري وغيره من علماء السلف رحمهم الله, إلا أن هذه الشهادة لاتخلو من مغالطة غير موفقة, فالكل يعرف ماقاسته بعض كتب التفسير من مدسوس الإسرائيليات, وشوائب الأهواء المذهبية, وبدع التاويل والدور الذي لعبته في الإبتعاد بنا عن روح القران ورسالته السمحة. (ولعل النهج الاعتزالي للزمخشري في “الكشاف” خير دليل (أحيلك أيضا الى كتاب “الإسرائيليات في تفسير الطبري,” للدكتورة آمال محمد ربيع).

مرة أخرى, أود التنبيه إلى أنه لا يمكن لعاقل ان يضرب بالجهود الجبارة لهؤلاء العلماء عرض الحائط, فلا يمكن إنكار قيمة هذا الإرث الحضاري الجليل أو التخلص منه البتة, فالقيام بذلك كما يرى المفكر الإسلامي الكبير محمد عابد الجابري هو “انتحار ثقافي”, لكن مراجعة هذه الفهوم والنظر إليها إنطلاقا من سياقاتها “الزمكانية” هو ما يصبو اليه “المثقف الناقد” كما أشار إلى ذلك الدكتور خالد حروب في مقاله “المثقف الناقد”.
إن مدرسة التفسير بالرأي, أو المدرسة العقلية “الحديثة” التي يتخوف صاحبنا من الأخذ بآرائها جاءت لتحرر الفهم من شوائب “المأثور” لا لتنأى به عنه. فالمزاوجة بين العقل والنقل كما ذكرت آنفا, هي ما يطبع الفكر التنويري لهذه المدرسة التي ولدت غريبة ومحاربة, فلا يخفى على احد ماقاساه روادها من مقاطعة وتنكيل ومضايقات, ليصبحوا بعد ذلك خير من حمل لواء الإسلام الحداثي, فهاهو رائد “مدرسة الأمناء”, ومنهج التفسير الموضوعي والأدبي للقران الكريم, الشيخ أمين الخولي رحمه الله يسطر تجربته مع التجديد فيقول “تعد الفكرة, حينا ما, كافرة تحرم وتحارب, ثم تصبح—مع الزمن—مذهبا, بل عقيدة وإصلاحا, تخطو به الحياة خطوة إلى الأمام” (انظر في حياة أمين الخولي, محمد عبده, جمال الدين الأفغاني).

في الحقيقة كنت أود أن أختم هذا الرد المقتضب بمقولة الشيخ الخولي الآنفة الذكر فهي خير مثال من أجل توضيح الرؤية والموقف الركودي للأخ العزيز يحظيه ببات في رده على الدكتور الشنقيطي, إلا أنني أجد أنه من الضروري ربط هذه الخاتمة بالسياق الموريتاني. فنحن أمام “قضية عادلة” لم تمت أو تتوقف بإرتكاب الحقوقي بيرام لهذه الهفوة اللاحضارية. فالعبودية ومخلفاتها “الثقافية” وصمة عار على جبين كل موريتاني مارسها أو رضي بها, ولذا فإن روح التآخي والمصالحة الوطنية تتطلب منا الوقوف في وجه كل مايرسخها في مجتمعنا المسلم, لا المناكفة والدفاع عن “فقه التهميش و الإذلال”
والله المعين