عدالة لم توزع

يقول الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا فى عينيته الرائعة :

يا معشر البلغاء هل من لوذعى يهدى حجاه لمقصد لم يبدع

انى هممت بان أقول قصيدة بكرا فأعيانى وجود المطلع

ويقول أبو العلاء المعرى شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ما معناه : ((انى لأجدنى فى بعض الأحيان أهون على اقتلاع إحدى أضراسى من أن أنظم بيتا من الشعر ))

فقبل يوم أو يومين أردت كتابة مقال أستعرض من خلاله بعض أوجه (( المرحلة العزيزية )) فلم أوفق إلى العنوان المناسب الذى أرتضيه حيث إن الكتاب يعرف من عنوانه كما يقال

ووجدت العنوان :

فبينما كنت أقرأأحد المقالات وقفت على عبارة سابقة لرئيسنا لفتت انتباهي واستوقفتني فنحتت منها عنوانا لهذا المقال ، ويتعلق الأمرب (( توزيع العدالة ))

ففى أول حديث مقتضب لعزيز أمام القصر الرئاسي بعد الانقلاب استرعت انتباهى وأثارت فضولى تلك العبارة التى وردت على لسان الرئيس بالعامية ومعناها بالفصحى : (( هذه العدالة الموجودة الآن ستوزع عليكم جميعا إنشاء الله )) !

فأي عدالة موجودة يعنى وهل العدالة شيء يمكن توزيعه ؟

فقلت فى نفسى إن هذا الرئيس ليفتقر إلى البلاغة ، وان مستواه الثقافي لمحدود ..

لكن هذا الشعور تحول إلى قناعة بعد حديث اللحى والماكينات وسرقة الأفكار ، وشعور المعارضة ـ وحدها ـ بالجفاف ، بل واستجلابها إياه حيث لا يوجد جفاف أصلا !؟

كل ذلك ورد فى خطاب انواذيبو رغم أننى لم أتابعه كاملا فهو طويل ..

وقديما قيل : (( كلام الملوك ملك الكلام ))

وتعززت هذه القناعة أكثر من خلال خطاب لبراكنه إذ تحدث رئيسنا بشيء من الحسرة والتحامل عن آلاف من حملة الشهادات العاطلين عن العمل فى تخصصات مختلفة مثل الآداب والشريعة والقانون والاقتصاد والعلوم الإنسانية عموما ، فى حين ذكر وجود عاطل واحد عن العمل فى مجال التكوين المهني ! ؟

وترسخت هذه القناعة أكثر فأكثر عندما تحدث رئيسنا عن الشعر والشعراء فى (( المقابلة الفرنسية )) الشهيرة أمام القصر الرئاسي فخلص إلى أن مصيبة بلاد شنقيط الكبرى هي كونها بلاد المليون شاعر مجسدا بذلك قول أبى الطيب المتنبئ : … ومعاداة الشعراء بئس المقتنى

فيا للمصيبة!

وقبل أن أدخل فى صميم الموضوع فليسامحني الرئيس حيث قال فى خطاب لبراكنه انه أمر وزير داخليته بالسماح للمعارضة بالتظاهر ، وإذا لم تتظارهر فينبغى حضها وتحريضها على ذلك .. من اجل معرفة مشاكل البلد .. ! ؟

فانا هنا ـ نزولا عند رغبة الرئيس تطوعا ـ أستعرض بعض المشاكل فى هذا المقال المحدود الذى قد ينشر فى بعض المواقع الالكترونية ، وقد يطلع عليه بعض متصفحى مواقع التواصل الاجتماعي خاصة من فئة الشباب ..

فمجهودي المتواضع هذا يصب ـ إذن ـ فى هذا الاتجاه ويخدم هذه الغاية ..

وليسمح لى القارئ الكريم بأن أعود قليلا إلى الوراء لأبدأ من البداية محاولا استعراض بعض الوقائع (( المؤطرة )) لما أريد تبيانه وأقصد تأصيله

الانقلاب :

فبعد مد وجزر بين (( الكتيبة العسكرية والبرلمانية )) من جهة وبين الرئيس السابق سيدى بن الشيخ عبد الله ونظامه قرر هذا الأخير إقالة بعض الضباط الكبار ومن بينهم ولد عبد العزيز فكانت هذه القشة التى قصمت ظهر البعير فقرر الأخير قيادة انقلاب لتنحية أول رئيس مدني منتحب بنزاهة منذ عهد الرئيس المؤسس لموريتانيا المختار ولد داداده رحمه الله

فكان لعزيز ما أراد بيسر وسهولة ودون إراقة دماء كما حصل ـ بحمد الله ـ فى جل الانقلابات العسكرية العديدة التى حدثت فى بلادنا طيلة أكثر من ثلاثة عقود من الزمن ..

ومما لا شك فيه ـ والحق يقال ـ أن فترة السيد سيدي بن الشيخ عبد الله القصيرة نسبيا ، مع التقدير لشخصه وعدم التشكيك فى حسن نيته ونزاهته قد عرفت تدهورا وتسيبا لا سابق لهما

وتمكن عزيز :

حكم الرئيس عزيز البلاد ووعد الشعب الموريتاني بالإصلاح الشامل وبمحاربة الفساد وبانتخابات حرة ونزيهة ، وصدقه الشعب كعادته مع رؤسائه السابقين الذين طالما خيبوا آماله ووعدوه فلم يوفوا بوعودهم وأعدوه فأذاقوه الأمرين وساموه صنوف الظلم والقهر على مر السنين

فكم هو مسكين هذا الشعب الموريتاني المستكين ما أطيبه وما أحلمه !

دارت عجلة الزمن .. وحدد موعد الانتخابات الرئاسية فرفضت المعارضة .. لكن حملة عزيز بدأت فخضنا تلك البداية .. وبعد حوار شاق ومضن توج باتفاقية داكارأجلت الانتخابات واستمرت الحملة .. وحدد الموعد ..

الانتخابات الرئاسية :

أجريت الانتخابات الرئاسية وتوحدت المعارضة بجميع مكوناتها ، ومختلف أطيافها ضد عزيز ، والحق يقال ان الرجل حاز على تأييد أكثر من نصف الشعب الموريتاني وان بنسبة ضئيلة بغض النظر عما قيل عن الباء الطائرة وعن تزوير حصل ..

كنت اشعرـ ضمن حملة عزيز ـ حيث أقيم بان توحد المعارضة ضده يمثل ضغطا كبيرا لا شك فى ذلك ولكننى كنت أشعر ـ فى ذات الوقت ـ وأنا قادم من ارض الوطن إذ ذاك ـ بان عزيزا قد ضمن قوة انتخابية لا يستهان بها من خلال حملته التى استمرت عدة أشهر ، ومن خلال وعوده وتعهداته المغرية بمحاربة الفساد وغيرها من الإصلاحات ، وكنت أحدث بعض شركائي فى الحملة الذين بدا بعضهم متوجسا بأن مرشحنا سيفوز فى النهاية

حصل عزيز على أكثر من 50% من أصوات الناخبين فنجح واستمرت شعاراته بمحاربة الفساد والمضي قدما فى طريق البناء .. واتخذ بعض الإجراءات المشجعة لجهة التغيير والإصلاح من قبيل شق بعض الطرق الجديدة وترميم أخرى قديمة .. لكنه ما لبث أن خيب الآمال كسابقيه فبدأت شعبيته تتقلص وبدا مناصروه يتناقصون ..

خيبة الأمل والحقيقة المرة :

لقد تجلى تراجع الرئيس ونظامه عن مسار الإصلاح فى مظاهر كثيرة منها :

اختفاء لازمة محاربة الفساد : فقد خفتت ، بل اختفت لازمة محاربة الفساد من أدبيات النظام نظريا وانحسرت ، بل انتهت عمليا إلا فى بعض الحالات التى يثار حولها كثير من الجدل وحالات أخرى أقرب الى التمظهر منها الى الحقيقة ..

تمكن قرابة الرئيس : لقد تمكنت قرابة الرئيس وتحكمت فى كثير من مفاصل السياسة والاقتصاد مما يذكرنا بنظام معاوية الذى استمر طيلة عشرين سنة كاملة على هذه الشاكلة ..

صفقات مشبوهة : لقد عقدت صفقات مشبوهة من قبيل صفقة الصيد الكبرى مع الصين وتستمر لمدة عشرين سنة كاملة فتذكرنا باتفاقية الغاز بين مصر وإسرائيل أيام مبارك والتى تستمر نفس الفترة الزمنية ..

كما أبرمت اتفاقيات مثيرة للجدل مع شركات المعادن لتبدو أكثر غموضا وأقل مرد ودية على البلاد والعباد ..

أمل 2012 : إن العدالة التى وعد الرئيس بتوزيعها بادئ الأمر لم توزع عندما يتم تقسيم أعلاف ( أمل 2012 ) التى يطلق عليها البعض ( الم 2012 ) وذلك حد التواتر فى طول البلاد وعرضها

مصادرة وتوزيع : ولم توزع العدالة عندما تتم مصادرة أراض يملكها فقراء بطرق مشروعة لتوزع على متنفذين وأغنياء بطرق ملتوية ولغايات غير مشروعة

مسيرات واحتجاجات : ولم توزع العدالة ـ سيدى الرئيس ـ عندما يتم بدون رحمة قمع المظاهرات والاحتجاجات السلمية المتنوعة ، والمتعددة المظاهر والتى تسعى فى مجملها الى غاية واحدة هى الاصلاح والتغيير ..فى حين تتم رعاية واستقبال المظاهرات (( المؤيدة )) بحفاوة بالغة

تعيينات : ولم توزع العدالة ـ يا سيادة الرئيس ـ عندما يتم تجاهل قبائل ومجموعات وجهات وازنة بخصوص التعيينات ، ويتم وضع أشخاص غير مناسبين فى أماكن مناسبة فى حين يتم وضع أشخاص آخرين مناسبين فى أماكن غير مناسبة ناهيك عن تعيين كثير من عتاة وأكابر المفسدين فى مواقع حساسة ، واختيارهم لمهمات سياسية كبرى فى حين يتم تهميش وعزل وتجاهل آخرين كنا نظن أن سيكون لهم شان فى ظل قيادتكم التى يرى البعض ـ واهمين ـ أنها كانت الإرهاصة الأولى والبداية الحقيقية للربيع العربي وما أدراك ما الربيع العربي يا سيادة الرئيس ويا هؤلاء ؟

أزمة ماء وكهرباء : ولم توزع العدالة ـ يا رئيس الفقراء ـ عندما لم يتم التجاوب مع مدن وقرى لها شأن مطالبة ب (( تفعيل )) الكهرباء والماء الصالح للشرب ناهيك عن تلك المدن والمناطق الكثيرة التى لا تحلم بالماء والكهرباء ـ أصلا ـ أحرى أن تطمع بتوفيرهما ..

وهنا لا يفوتنى أن أعتذر عن وصف الرئيس برئيس الفقراء لعل فى ذلك افتئاتا فقد قال أحد الولاة ـ أخيرا ـ إن الفقراء هم الذين أضافوا الرئيس إلى أنفسهم وهنا يبدو العكس غير صحيح فلا يمكن أن نقول فقراء الرئيس ..

ارتفاع الأسعار : ولم توزع العدالة ـ يا صاحب الفخامة ـ عندما ارتفعت الأسعار بشكل جنوني خاصة أسعار المحروقات التى استمرت فى الارتفاع فى عهدكم الذى نرى فيه ما لا ترون ..

وأخيرا : فهذه ـ فقط ـ بعض مظاهر عدم توزيع العدالة ، وبقيت مظاهر أخرى كثيرة بعضها (( دقيق )) يجدر بكم وبحكومتكم أن تدركوه أكثرمن غيركم دون الاستعانة بالمعارضة وبالمتطوعين أمثالى.. لأن من يرى ليس كمن يسمع ومن يباشر أمرا ويتحكم فيه ويديره ليس كمن يراه وينظر إليه حائرا مشدوها فحق اليقين ليس كعين اليقين ..

أما سياستكم الخارجية ـ سيدى الرئيس ـ فقد أتناولها فى موضوع آخر باعتبار أنها قد لا تكون فى صميم فى موضوعنا المتعلق ب (( توزيع العدالة )) رغم أهميتها ..

ويهذا القدر أكتفى متعللا ومستأنسا بقول أبى حيان التوحيدي : (( إن الكلام على الكلام صعب )) !

وقول الرواقيين : (( ليس كل ما يمكن أن يقال يمكن أن يقال ))

وقول امحمد بن أحمد يوره : لو ساعد الوقت وساعد الروى لقلت غير ذا وما تغنى لوى

مولاى ولد عبد الدايم ولد انداه