ما كادت شمس الأصيل تلملم خيوطها الذهبية عن بيت الله الحرام ، وتأذن للنسمات الندية بأن تتردد في رحابه الطاهرة ، والطائفون من حوله يعطرون الأجواء بالتهليل ويترعون الأرجاء بصالح الدعاء حتى رن الهاتف فإذا الوالدة الكريمة تتصل موصية بالدعاء للأخت ميمونة بنت محمد الأمين فسألتها ما الخبر ؟ فذكرت أنها تعرضت لقرار طرد من طرف مجلس التأديب في كلية الطب فعادت بي الذاكرة سريعا تستعرض سجل تاريخها عل أن تصادف فيه ما يخدش الحياء والمروءة أو يشي بهنات لا تحمد ، فلم تجد أمامها إلا صفحة مشرقة من براءة الطفولة وإنسانية الشعور وصدق الطبع واستقامة السلوك.
لقد ترعرعت الأخت الكريمة في بيئة عبقت أجواؤها بطيوب الورع والتقوى وتألق سناها بنور الوحي فنهلت من كتاب الله تعالى ما أفعم عقلها حكمة وأترع نفسها صلاحا وهداية فاستضاء فكرها بنور القرءان واستنارت بصيرتها بهدي النبوة وحازت قصب السبق في كل مراحل الدراسة حتى وصل بها المطاف إلى الجامعة فاختارت تخصصها عن بصيرة وطموح فكان:الطب في بلد ما يزال يشكو الجراح، ويفتقد الآسي والطبيب؛ لا يهتم ساسته والقائمون على أمره برعاية أبناء الوطن،ولا يرفعون رأسا بتشجيع الموهوبين بل يعمدون إلى التضييق على أصحاب الكفاءات العلمية وقتل الإبداع في النفوس المعطاءة الباذلة خدمة لبلدها وأمتها.
ويبدو أن الجهد الكبير والتعب المتواصل الذي تحملته الطالبة الكريمة مع رفاقها في سبيل أداء رسالتهم المهنية السامية على أكمل وجه لم يجد فيه مجلس التأديب إلا جرما يستحق العقوبة والطرد على منهج (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
وأنا إذ أستعرض هذه الصفحة المؤلمة من تاريخ تعاطي هذا البلد مع المتميزين فيه علما وخلقا لا بد لي من توجيه هذه الرسائل:
الأولي:إلى الأخت ورفاقها النبلاء أن يثبتوا ويصبروا ويعلموا أن الأيام دول وأن فرج الله قريب فقد أخرج الترمذي في السنن من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا) ولا يقبلوا بأي حال أن يعتذروا عن سلوك كريم كان اللائق أن يكرموا عليه بدل أن يجلب عليهم العميد بخيله ورجله مستخدما في ذالك وسائل تأباها نفوس الشرفاء من ضغط قبلي واجتماعي لن يجدي نفعا في هذه القضية.
أما الرسالة الثانية:فموجهة إلى المجتمع المدني بكل أطيافه وألوانه. إن قضية طلاب كلية الطب اليوم ما هي إلا فصل من فصول المهازل التي يترنح تحت وطأتها هذا البلد المسكين فلا يجوز السكوت عليها بأي حال ، وأذكرهم بأن لذع أمهات في أفلاذ أكبادهن بإفساد مستقبلهم في تخصص علمي نادر– وهم طلبة متميزون – لا يقل جرما عن إحراق الكتب العلمية التي تمثل الموروث الفقهي لهذه الأمة ، وأن نصرة المظلوم فريضة شرعية سنها النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليه عمرو بن سالم الخزاعي فوقف عليه وهو بالمسجد بين ظهراني الناس فأنشده قوله:
يا رب إني ناشد محمدا000 حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (نصرت يا عمرو بن سالم) ثم عرض له عنان من السماء فقال (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ).
وأوجه الرسالة الثالثة إلى العميد ومجلس تأديبه :أذكرهم بأن السلطة والجاه والمنصب كل ذالك آئل إلى الزوال وعند الله تجتمع الخصوم (وأن إلى ربك المنتهى )!
وأن الاستقواء بغير الله مظهر من مظاهر الضعف وصفه القرءان بقوله (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
وقديما توعد أهل بغداد أحد الأمراء الظلمة بدعاء السحر فخرج منها إيقانا منه أن سهام الليل صائبة المرام . ومصداق ذالك حديث معاذ كما في الصحيح (واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب).
وأن تاريخ شنقيط سيسجل في سفر من ذهب أن ثلة من الأماجد عوقبت على خدمة مجتمعها من طرف مجلس تأديب لا يقيم وزنا لكفاءات علمية متميزة ترعرت تحت سماء هذا الوطن العزيز وعاشت على أرضه (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).