ونجح مرشح الإخوان..

لم يكن فوز الدكتور محمد مرسى، مرشح حزب العدالة والحرية، المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ليمر علي الموريتانيين، وهم الشناقطة، المرابطون علي البوابة الغربية للعالم العربي، الممتد من حضرموت إلي النباغية؛ لم يكن هذا الفوز ليمر دون وقفة تأمل واستجلاء لدلالاته، ورمزيته، ومعانيه، وانعكاساته، وذلك بالنظر لأهمية ما يمثله هذا النجاح، وهذا الفوز بالنسبة لكافة ألوان الطيف الذي تتشكل منه جلّ تيارات وأحزاب الصحوة الإسلامية، المتواجدة في معظم الدول الإسلامية، من بداية القرن الماضي وحتى يومنا هذا..

فالرجل ينتمي إلي اعرق جماعة إسلامية حديثة، حملت منذ نشأتها علي يد الشهيد حسن البنا، الذي قام بتأسيسها سنة 1927، حملت فكرا تجديديا، يطرح ببساطة واجب استرجاع هذه الأمة لقوتها، وهيبتها، ومكانتها، عن طريق الإعداد الجيد، استجابة لقوله تعالي:” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”…
وفي أوج الهجمة الاستعمارية الغربية الشرسة آنذاك، والتي كانت تهدف، من بين مطامع أخري كثيرة، إلي استلاب الشعوب العربية والإسلامية، وسلخها من هويتها، وقطعها عن ماضيها؛ رفعت جماعة الإخوان المسلمين شعارا قويا في رمزيته، عميقا في دلالته، شاملا لأولويات تأكيد الانتماء الديني، ومعبرا أصدق تعبير عن الهوية الحضارية للأمة العربية والإسلامية، ومحددا بإيجاز وعمق أهم ما يحفظ الثوابت ويصونها، ويرسخها في الأذهان، ويجددها في الوجدان، ألا وهو الشعار الخالد : ” الله غايتنا، ومحمد قائدنا، والقرآن دستورنا، والاستشهاد في سبيل الله أسمي أمانينا”..

ورغم كل ما أشيع ولا يزال يقال عنها، فقد مضت هذه الجماعة في مسيرة مظفرة،- من الجهد البشري طبعا، الذي تعتريه بالتأكيد، الشوائب، ويعرف النواقص والخطأ أحيانا، حاله حال أي جهد بشري في هذه الدنيا-؛ ولكنه، جهد خالص و مخلص، وعطاء لا ينحسر، و بذل سخي، وتضحية بكل غال ونفيس، وكفاح متواصل في اعتي الفترات و أحلكها، وصمود أسطوري في وجه الطغيان والغطرسة والتجبر، علي مدي أربعة 84 وثمانين سنة، أي ما يناهز قرنا من الزمان؛ لتنتهي اليوم بالفوز، بعد الكثير من التضحيات الجسام، التي نذكر منها لا علي سبيل الحصر، وإنما من باب التذكير، الإعدامات الأليمة التي طالت الجيل الأول من الشهداء، من أمثال الشهيد سيد قطب، صاحب الرائعة التفسيرية، الأدبية التأملية الإيمانية: “في ظلال القرآن”، و مصنف التآليف الفكرية المذكية لجذوة الإيمان، ك:”معالم في الطريق”، و”هذا الدين” ، و “معركة الإسلام والرأسمالية”…؛ والشهيد الشيخ محمد فرغلي، والشهيد عبد القادر عودة صاحب البحث القيم، المجدد في الشريعة و القانون: “التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقوانين الوضعية”؛ وغيرهما كثر…

إذا،الدكتور محمد مرسي ،الرئيس المصري المنتخب، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي أجريت يومي 16و 17 من يونيو2012، والذي أعلن بشكل رسمي عن فوزه يوم 24من نفس الشهر، هو شخص لم يأت من فراغ، وإنما هو نتاج فاضل، من إنتاج هذه الجماعة التي وصفنا ..
وهو، حين ينتخب رئيسا لمصر، في أول انتخابات رئاسية حرة ونزيهة، تأتي بعد ثورة 24 يناير المجيدة، فان ذلك يعبر بصدق عن لحظة تاريخية، لحظة فارقة ومفصلية من تاريخ أرض الكنانة، رمز العروبة والإسلام ..مصر الحضارة والأصالة، مصر العلماء، و القراء، والأولياء، والزهاد، والعابدين.. والتي أبان شعبها العظيم زيف القول بخنوعه واستسلامه، وعجزه عن أن ينتفض.

إنها لحظة اختار فيها الشعب المصري واحدا من أبنائه، عاش همومه، ويعرف آلامه وآماله، دخل السجن وقاسي الظلم، وعاش بين البسطاء و المهمّشين والمسحوقين؛ فيأتي ليبايع كل الشعب المصري علي صون الثورة وعدم التفريط في دم شهدائها، والحفاظ علي مكتسباتها، ومواصلة الجهد من أجل تحقيق أهدافها..

هو إذا حدث غير عادي، في دولة من أعظم دول العالم العربي والإسلامي، حديثة عهد بثورة شعبية عارمة، توحد فيها الشعب المصري العظيم، في هبة شعبية حضارية رائقة، رائعة، ليزيح عن كاهله، والى غير رجعة، نظاما من أشد الأنظمة سوءا وفسادا، وغطرسة ، وانحرافا..

وهو حدث يأتي في خضم الربيع العربي المبارك، والمتواصل مع الثورة السورية المجيدة، بعد الثورات المباركة، والتحولات الإيجابية التي عرفها الشعب التونسي، والليبي، واليمني، والمغربي.. وتنتظرها شعوب عربية وإسلامية أخري…

هي إذا لحظة تاريخية بكل الأبعاد و المقاييس..أثبتت أن ما يسميه البعض بالإسلام السياسي، أصبح تيارا سياسيا أليفا، ومألوفا، وعاديا، كسائر التيارات السياسية الأخرى، يمتاز عنها فقط ، بأصالة وحداثة مرتكزات مشروعه السياسي؛ و هي لحظة أثبتت كذلك أن محاولات الأنظمة الاستبدادية، التي عملت ردحا طويلا من الزمن علي تشويه صورة المنتمين لهذا التيار، وسعت كثيرا إلي أن تنفر الشعوب العربية والإسلامية منه، قد فشلت فشلا ذريعا في تحقيق ذلك..

ومهما كانت التحديات التي تنتظر السيد محمد مرسي كثيرة وكبيرة، إلا أن الرئيس المنتخب طمأن الجميع في أول خطاب يلقيه، حين أكدا تحوله إلي رئيس لكل المصريين وليس للإخوان وحدهم؛ كما أعاد إلي مسامعنا عبارات أصيلة (لقد وليت أمركم ولست بأفضلكم – إن عصيت الله فيكم فلا طاعة لي عليكم – واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله…)، عبارات شنف بها آذاننا، إذ ذكرتنا بمفردات أول خطبة لأول خليفة للرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ؛ وتقاسمنا الإحساس مع المواطن المصري البسيط ، ونحن نصغي إلي الرئيس مرسي، بعد عهد طويل من الاستلاب والتبعية الحضارية، حتى في الألفاظ، تقاسمنا الإحساس أن الرجل من الشعب، ويتكلم لغة الشعب، و يهمّه ما يهم الشعب..

ولعلي أجد مناسبة أخري للحديث أكثر عن تميز هذه الجماعة في خطابها السياسي، وسلوكها، وبرامجها، وأهدافها، وغاياتها…وسأكتفي هنا بذكر بعض من الدلالات التي يكتسيها هذا الفوز لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، فأذكر:

-1/ يدل هذا الفوز علي تقبل الشعوب الإسلامية وتأييدها واحتضانها للمشروع المجتمعي الإسلامي الحديث، و الذي يصر البعض علي تسميته بالإسلام السياسي،

-2/ علي اعتبار أن مدرسة الإخوان المسلمين في مصر، هي المرجع وهي القدوة الأولي لمعظم الحركات الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية، فان نجاح مرشح حزب الحرية والعدالة للرئاسة في مصر سيعطي دفعا معنويا قويا لهذه الأحزاب والحركات،

-3/ سيسهم وصول الإخوان المسلمين في مصر لسدة الرئاسة، عندما تبدأ أطرهم في الظهور علي الساحة، والتحرك، سيسهم في تكسير الكثير من الصور النمطية والتصورات الخاطئة عن الإسلاميين، حيث روّج أعداؤهم كثيرا لصور نمطية رهيبة، فأسهموا في ترسيخ فكرة الرجل الملتحي، مقطب الوجه، الذي يسجن المرأة في البيت، ويجلد الناس بالسياط في الشارع، ويمنع اللهو والفرح، ويمنع الاستماع إلي الموسيقي، ويريق الخمر، ويغلق الحانات والفنادق، ويمنع اختلاط الجنسين !، الخ …

-4/ ستمكن هذه التجربة من تعزيز و توطيد مرور الخطاب السياسي الإسلامي، بكل أدبياته ومنظومته الفكرية، إلي التطبيق علي أرض الواقع، وعلي أرضية من أصعب ما يكون؛ حيث لا يخفي علي أحد ما يمتاز به المشهد السياسي المصري اليوم من تعقيدات في غاية الصعوبة والتداخل والتشابك.. فتكون بذلك أول مرة يوضع فيها أتباع حسن البنا، علي المحك، في أرض البنا، وبفكر البنا، وكما استوعبوه، ليرى العالم ماذا سيقدمون من حلول، وكيف سينجحون، أو يفشلون..كان الله لهم مؤيدا ونصيرا..آمين

-5/ سيشكل نجاح الإخوان المسلمين في مصر أكبر وقود معنوي للثوار في سوريا، وكذا دعما طبيعيا، ولو بشكل أكثر تعقيدا، لحركة حماس في غزة؛ كما سيعطي هذا النجاح نفسا جديدا للثورة الليبية التي لا تزال تعاني قدرا كبيرا من التحديات، كما سيسهم في تعزيز النهضة في تونس في مواجهة التحدي المزدوج، الشرس، علي جبهتين، جبهة التيار السلفي التونسي المتصاعد والمربك، وجبهة العلمانيين المتغربين المتربصين بالنهضة الدوائر، وسنري إلي أي حد يمكن لنجاح الإخوان هذا، أن يسهم في إيصال شعلة الثورة، وشرارة الربيع العربي إلي بلدان عربية أخري.. هي في أمس الحاجة إلي إصلاح أوضاعها..

-6/ وأخيرا، وليس آخرا، وبما أن مصر هي أول دول الطوق، وهي الدول العربية المحاذية للكيان الصهيوني، والمعنية في المقام الأول بقضية العرب والمسلمين الأولي، وهي القضية الفلسطينية؛ فان صلف دويلة إسرائيل وهمجيتها، وإصرارها، كما لاحظنا، منذ الإعلان عن فوز الإسلاميين في مصر، علي تصعيد الوضع الأمني في عزة، زيادة في التنكيل بالشعب الفلسطيني المحتل، وخلقا لمصدر توتر وانشغال و إزعاج للقيادة المصرية الجديدة؛ كل ذلك سيشكل، بدون أدني شك، أكبر تحد لمحمد مرسي.. زيادة علي التحديات الداخلية الكثيرة والمتمثلة في بسط الأمن و الاستقرار، وتحريك عجلة الاقتصاد، واستجلاب استثمارات أجنبية، وإعادة الحياة إلي قطاع السياحة، والإقلاع بالصناعة والزراعة، وخلق فرص عمل لآلاف العاطلين من الشباب المصري..

كان الله في عونه وسدد خطاه وأيده .. انه ولي ذلك والقادر عليه.. آمين.

محمد يسلم ولد يرب ولد ابيهات.

نواكشوط 26/06/2012

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى