التكوين المهني في موريتانيا… حكاية البداية (1)

لدي وصولي إلي محطة النقل البري لروصو، بعد سفر ليلي من دكار ينسيك مشوي “كبمير” عناءه ، كانت الساعة الحادية عشر .. غادرت مباشرة إلي مقر الوزارة حيث تجمع الملفات منذ أزيد من شهر. .”أخير وصلت” قالتها السكرتير الأربعينية وهي تأخذ مني الأوراق ، حيث أنني أرسلت الملف منذ أسبوعين لكن علي ما يبدو كانت تنقصه بعض المستندات.

بعد استراحة محارب كله البحث عن أشياء تثبتها نظريات فيزيائية ويعجز الانجاز والعمل الفني في المختبرات عن جعلها تتحدث أرقام تقاربية ، كان الدوران لأكثر من أسبوعين في شوارع نواكشوط احد التسليات التي اتخذتها لنفسي في انتظار إعلان النتائج ، أخير برزت القوائم علي الجدران وظهرت الأسماء المؤهلة للتقدم إلي الامتحان الكتابي والشفهي كان اسمي ضمنها.

بداية مشوار جديد، “انه العمل” كما كنت أحدث نفسي حينما تعود بها الذكريات إلي أيام “افانوك” و”جلت آبي” المفعمة بروائح الفول المحمص واللعب مع الأجهزة الحساسة في مختبر الطاقة بالمدرسة العليا للتقنية بدكار ، لكن شجنها لا يعدو ان يعود من جديد إلي تلك الحياة حينما تتذكر ابتسامات الشيخ الوديع “ممادو أدج” حينما يشرح نظريات علمية عن الطاقة أو حينما يكون هناك تقديم لإحدى رسائل الدكتوراه من الزملاء الذين سبقوا بالحسنى .

يزيد شجنها عندما تتذكر العودة إلي “المربط” حيث ينتظرها أجود الأطباق الأفريقية الأرز بالسمك الأحمر والذي طالما جعل الحموضة تزيد إذا اشتهت الأنامل مداعبته لوقت أكثر.

مرت أيام متتالية ثم أخيرا تم استدعاء الثلاثين المؤهلة إلي مباني المعهد العالي للتقنية المجاور للثانوية التقنية بنواكشوط كان الرجل الوديع مدير “معهد ترقية التكوين” المتكلم حينما أرسل إلي قلبي شحنات ايجابية ، أتذكره دائما وهو يقول ” من الآن ممن منكم يريد أن يبني مستقبله المهني عليه أن يكون ملتزما”

لا أخفيكم سرا لقد كانت الجماعة الثلاثينية غير منسجمة من حيث التكوين فهناك مهندسون ذوو خبرة عالية جدا منهم من جاء من تجارب عمل تضاهي قطاع التكوين بأكمله (أكثر من 15 سنة خبرة في البحر) وهناك من جاء من مختبرات علمية عالية جدا كما هي حالتي و احد الزملاء كان قد تقدمني في التحضير للدكتوراه ، ومنهم تقنيون وتقنيون سامون حديثو التخرج لا يزال يخامر عقولهم بعض الطموح الجامح الذي ينتاب عادة حديثي العهد بالمقاعد الدراسية

تم استدعاؤنا إلي تكوين تربوي سريع قيل لنا أن مدته 45 يوم ثم تغير ذالك القول إلي شهر وفي النهاية عندما بدأنا التكوين استمر لعشرة أيام عمل (أسبوعين من الزمن) كانت تلك مجرد البداية فقط
خلال التكوين تعرفنا علي بعض قدماء الأساتذة في القطاع ممن يشغلون مناصب في معهد ترقية التكوين منهم الأستاذ العميد “دجي” الذي سيسر الزمن لأعرف من خلال تجاربه في قطاع التكوين المهني تفاصيل تجعلني أفكر كثيرا فيما يراد لهذا القطاع أن يكون عليه.

ومع استمرار التكوين تعاقب علينا الأساتذة الكرام، وقدموا موادهم التي حضروها عن المناهج التربوية والمقاربات التعليمة وغيرها من الأشياء الثمينة بالنسبة لمن يبدأ المشوار المهني. خلال تلك الفترة.. بدأت تدب إلي مسامعنا بعض التفاصيل الضبابية ، فقد ذكر احدهم أننا سنكون مكونين في مركز تدريب الكفاءات الذي تموله قطر والذي سينتهي قبل العام الدراسي ، وذكر آخرون أن هناك مراكز تكوين مهني في عواصم الولايات سنكون مسئولين فيها عن التكوين والتدريب المهني ، وهناك قائل آخر يذكر أننا سنكون مشرفين ولدينا علاوات الإشراف وهناك أخبار عن الحوافز وتكوينات فنية ستقام وعلي أساسها سوف نبعث إلي الخارج من اجل التدريب ، ذكرت كند وفرنسا واتفاقية مشتركة مع اليابان…و..و..و.. وأصبح الحديث يأخذ مجري مغايرا، كل يوم هناك نسخة جديدة من الأخبار إلي أن استقر الحال في اليوم الأخير للتكوين أننا تم تحويلنا إلي مراكز التكوين بالداخل علي أساس الكفاءات وتم اختيار نواكشوط هي الخيار الأول وكان من نصيبي مدينة سيلبابي في المحيط الاجتماعي كانت الأحاديث عن “سائل العذاب” وحكايات الأساتذة والاستياء المعلمين في تلك الربوع علي أشده ، لكنني قررت خوض التجربة فلم تسمح لي فرص التجوال داخل البلاد أيام الحملات الانتخابية وغيرها أن ازور تلك الجهة من موريتانيا .

حملت حقائبي وسرت قافلا من انواكشوط سارت بنا السيارة لأكثر من 12 ساعة شبه متواصلة، أخيرا وصلنا إلي المدينة النائية جدا بعد طول انتظار وسير في طرق مختلفة الأشكال و الجغرافيا ، منها المعبد ومنها غير المعبد، وكانت حينها الطريق بين كيهيدي و القصيبة و امبود و جادجبني الي غاية سيلبابي في بداية مشوارها مع الإنشاء الذي استهلته منذ ما يزيد عن ست سنوات، لكنها لم تكتمل بعد، وفي كل مرة تأتي حكومة، يتم تأجيل تنفيذها، وتوجه ميزانيها في اتجاهات مختلفة، ويعاد جدولتها في الميزانية القادمة كحال الكثير من المشاريع التنموية في البلد.

كانت الساعة الحادية عشر صباحا حينما طرقت باب المدير، ومن وعثاء السفر تبادر إلي السيد أنني احد الغرباء الذين دائما يطرقون الباب من اجل بعض المودة التي يقدمها لهم رؤساء المصالح الجهورية ، وبعد أن قدمت له نفسي ظهرت ملامح رجل ” اهل الساحل” الموريتاني بالفطرة ، ملامح المعادن النفيسة في ارض قاحلة .

اقترح الرجل الذهاب إلي البيت للراحة ومباشرة العمل غدا لكني استأذنته أن اخذ فكرة عن المركز ثم بعد ذالك نكمل الاستراحة في المقيل وبالفعل أخذني في جولة تعريفية إلي مختلق قطاعات المركز وأقسامه الإدارية و ورشاته الفنية وكنت مفاجئا كثير من ضخامة الو رشات والقاعات وكذالك شساعة الأرض التي أقيم عليها المركز .

عندما أخذني المدير إلي بيته كانت مكارم الرجل كبيرة فلقد انفرط عقد ضيافته إلي درجة كدت اخجل فيها من نفسي واندم علي مجيئي فقد تحولت المناسبة إلي أشبه عرس فقد كانت وفود الأساتذة والعاملين بالمركز والجيران وكل من يعرف الرجل بالمدينة يتقاطرون من اجل السلام والمباركة بالمجيئ إلي هذه الربوع.

كانت الساعة السابعة والنصف حينما خرجنا إلي المركز من جديد ولأول مرة أقف أمام طلاب مهنيين.

بداية قصة ستستمر ثلاثة سنوات ويسير الزمن لا كتشف من الخبايا ما كان لا يجول في خاطري و أنا الذي أمضيت سنوات عديدة ارتاد وزارة التهذيب الوطني بمختلف تغيراتها في العشرة سنوات الماضية منذ أن كنت طالبا إلي أن أصبحت جزء من تشكيلتها غير المتجانسة أو لنقل جزءها الذي اختار أن يكون وزارة جديدة.

سأعمل علي إنتاج سبعة حلقات بمشيئة الله اكشف من خلالها أو بالأحرى أوثق من خلالها الكثير من الخبايا والأمور التي لا يراد لقطاع التعليم في موريتانيا أن يخرج منها ، أشياء يعرفها القائمون علي القطاع والممارسون له، لكنها تختفي في بعض الأحيان عمن يراد لهم أن يكونون مسيري هذا القطاع الحيوي وذالك علي النحو التالي :

1. قطاع التعليم الفني والتكوين المهني “الواقع الحقيقي والنماذج المطبقة ”

2. التحولات الجوهرية من إدارة التكوين إلي كتابة الدولة إلي وزارة التكوين وأشياء أخري غير منسجمة

3. مشروع المقاعد المدرسية وتأثيراته علي قطاع التعليم بصفة عامة وارتباطاته مع مراكز التكوين المهني

4. الإدارة الجهورية للتعليم والتكوين وارتباطاتها بالسلطات الإقليمية ومدي تداخل المصالح
5. علاقات التكوين المهني والتعليم الفني مع مختلف القطاعات الخاصة وكذالك التكوين الخاص والتكوين المستمر؛

6. التشغيل والدمج المهني لمخرجات عملية التكوين المهني

7. الجاذبات الوزارية في مرحلة وزارة الدولة وتثيرها علي مختلف قطاعات التعليم

كل هذا بهدف أن أضع بين يدي الرأي العام بعض خبايا قضية وطنية احسب أنها السبب الرئيس في إعاقة هذا البلد الخمسيني ، ثم لأذكر القائمين علي القطاع بضرورة اخذ خطوات جادة في إطار النهوض به، لاسيما ونحن نتابع اليوم أخبارا عن الأيام التشاورية الجهوية للتعليم والتي انتظرناها بفارغ الصبر علي الرغم من انها خرجت الينا بالون طيف غير منسجمة وتبدو ضبابية المعالم.

يتواصل

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى