ظن مدير المخابرات الليبي السابق عبدالله السنوسي أنه بلغ مأمنه عندما حطت به الرحال في مطار نواكشوط؛حيث النظام الوحيد الذي فارق ” القائد الملهم الدنيا” وهو عنه راض، فقد كان قائد ثورة الفاتح من سبتمبر يرى في ” رئيس الفقراء ” أيام شبابه الأولى وخطواته الأولى على طريق تحويل ليبيا من وطن يمتلك مقومات دولة إلى حالة جماهيرية شعبية عربية ليبية اشتراكية عظمى، وكان يرى في التجربة الموريتانية كلها دليلا على أن المؤتمرات الشعبية هي الحل وأن معنى الديمقراطية هو الدوام على الكراسي.
حط السنوسي رحاله آمنا مطمئنا فهو قادم إلى حيث أستودع القذافي خزائنه الثمينة، إلى حيث كان يريد لأسرته أن تقيم معززة مكرمة آمنة من الجوع والخوف، لكنه وجد أمامه ناسا غير الناس الذين عرف مع أن وجوههم هي هي وسحناتهم هي هي لكن الزمن تغير، وحكام نواكشوط صناع ” حركات تغييرية مجيدة”؛ الوجهة لم تعد باب العزيزية بل أصبحت قصر الإليزيه وساركوزي الخائف يومها من تسريبات عن تمويل ” الثائر المسلم” لحملته الرئاسية الأولى .. أوصدت الأبواب على ” الصندوق الأسود” وفق ما طلب ساركوزي المهدد بالمارد الاشتراكي، وبدأ السنوسي يكتشف شيئا فشيئا كيف تتبدل الأحوال.
وعلى مدى أشهر فتح الصندوق الأسود لعدد من الباحثين عن بيانات تهمهم في الطائرة التي فتك بها الليبيون بعد أشهر من ثورتهم العاتية؛ وصل أمريكيون وفرنسيون وليبيون وإيرانيون أخذ كل غايته وبقي السنوسي في محبسه وفي كل مرة كانت تأتيه التطمينات أنه لن يسلم لقادة ليبيا الجدد، ليس من الواضح إن كان السنوسي قد صدق ذلك لكن الواضح أن عائلته وبعض ” أنصاره القدماء في موريتانيا كانوا يؤمنون أن للنظام الموريتاني نسبا ما مع السمؤل!
بحسب ما تسرب من أنباء حتى الآن فقد كانت فترة فتح الصندوق الأسود أمام الباحثين عن حقيقة ما تورط فيه القذافي من جرائم – وهي كثيرة بالمناسبة – فترة مثالية لتقديم عروض متعددة ومتأنية وبوسطاء مختلفين ومحترفين، وعندما قاربت العروض العشرين وكان من بينها من حمل تزكية الدائرة القريبة جدا من سيد القصر الرمادي وصل لانواكشوط وفد ليبي رفيع وكان لافتا وجود وزير المالية ضمن الوفد وكانت تلك الإشارة الأولى إلى أن عملية التسليم ليست عملية قضائية بحتة تتم بين وزيري العدل ولاحتى عملية دبلوماسية يشرف عليها وزراء الخارجية لكنها قبل ذلك ومعه وبعده ” صفقة مالية” أشرف عليها وفد تلقى عروضا ” مضمونة ” وعرف من أن يؤتى القصر، وكيف تقبل الشفاعات.
يستحق السنوسي محاكمة عادلة أمام محكمة ليبية جراء ما اقترف من جرائم بحق شعبه على مدى عقود، كما يستحق الشعب الموريتاني معرفة دقيقة لحقيقة ما حصل في الساعات التي سبقت رحلة صندوق القذافي الأسود إلى طرابلس، فقد شوهت صورة موريتانيا كثيرا بعلاقات حكامها المشبوهة بالقذافي وأزلامه يوم كانوا داعمين له في مواجهة الثورة الشعبية العظيمة، واليوم وهم يختارون التعاطي مع الحكومة الليبية المنتخبة من تحت الطاولة في صفقة مثيرة تنبعث من مختلف جنباتها روائح الفساد والسمسرة والجشع.