دولة العسكر.. إلى متى؟

كان حلما جميلا أن يكون لهذا الشعب كيان ينعم فيه بالرخاء، ويتخذه وطنا جامعا يفخر كل فرد من أفراده بالانتماء إليه.. ويجد كل واحد من أبنائه ذاته فيه أينما حل وارتحل..

كان حلما، أن تتفتق عبقرية أبناء الصحراء على اختلاف انتمائاتهم العرقية في بوتقة الوطن.. وأن يعيشوا في وطن ينعمون فيه بالحرية والمساوة والعدالة الاجتماعية.. تسود فيه قيم المواطنة، وتتحدد فيه قيمة المواطن على أساس قوة انتمائه للوطن وقدرته على التفاني في خدمته وبنائه..

حلم راود الأجداد، وسعى من أجل أجل تحقيقه جيل الرواد.. الذين سهروا الليالي، وركبوا المخاطر.. وضحوا بالغالي والنفيس من أجل إرساء دعائم هذا البناء.. حتى تمكنوا من بلورة كيان الدولة، ووضع أسس لمؤسساتها، واستشراف معالم الطريق نحو البناء والتطوير..

لكن سرعان ما جرت الرياح بما لم تشتهيه سفن أبناء هذا البلد المسكين.. حين تحول ذلك الحلم الجميل إلى كابوس مخيف.. كان ذلك عندما استولى العسكر على السلطة، وتحديدا يوم جَبُـن حماة الديار عن مواجهة “العدو” وحماية الحدود، وارتعدت فرائصهم في معمعان حرب الصحراء.. فأداروا ظهورهم نحو القصر الرئاسي لتنفيذ أول انقلاب عسكري، والإطاحة ب”أب الأمة”..

فكانت تلك بداية عهد العسكر، عهد الفساد والخيبة والانقلابات ومسلسلات الفشل والاخفاق..

ولأنهم من طينة واحدة، فقد كان تسييرهم للبلاد متشابها حتى مع اختلاف خلفياتهم الثقافية والاجتماعية، وتفاوت فترات حكمهم.. وظل قاسمهم المشترك هو الفشل والاخفاق، والتخطيط الممنهج للسير بهذه البلاد نحو مزيد من التخلف، حتى يتأتى لهم البقاء في الحكم والتحكم في البلاد والعباد..

ولئن كانت لكل مرحلة من مراحل تاريخهم الأسود في تولي مقاليد الحكم في هذه البلاد، إلا أنهم ظلوا جميعا يكرسون، وإن بنسب متفاوتة، نهجا فريدا في الحكم يتسم بمواصفات جامعة ظلت تختزل -إلى درجة بعيدة- إنجازاتهم “الخالدة” :

أولا:

ظل تداول السلطة بين رؤسائنا المحترمين يأتي فقط عن طريق الخيانة.. فكلهم بدون استثناء وصلوا إلى الكرسي عبر خيانتهم لأصدقاء ورفقاء جعلوهم محل ثقة، واستأمنوهم على أرواحهم ومصالحهم.. فلم يجد ذلك المستأمن من طريق إلى “المجد” أقرب من خيانته لولي نعمته.. لم لا، و “ولي النعمة” هو أيضا وصل لسدة الحكم بنفس الطريقة، وبها فقط يستطيع المحافظة على كرسيه الهزاز..

وكأنهم بذلك يزرعون “قيما” غريبة على مجتمعنا، حيث جعلوا من الخيانة “بطولة” وعملا “تاريخيا” جديرا بالتقدير، و يخرج الشعب كله فرحا به، وتطبيلا وتزميرا لصاحب تلك “البطولة الخالدة”..

ولا تتوقف “بطولات” قادتنا الأشاوس عند هذا الحد، “فالبطل” الجديد لا يفتأ عادة أن يغدر بأعز أصدقاءه وزملائه الذين ساعدوه في تنفيذ “خيانته”، والوصول إلى الحكم، فيعمد إلى أن “يتغدى بهم قبل أن يتعشوا به”.. و ينسى أن الله سيقيض له “خائنا” من نفس طينته وإن بعد حين..

ثانيا:

ظلت كل الأحكام العسكرية المتعاقبة تكرس “قيم” النفاق والتملق والنخاسة السياسية.. بل جعلتها معايير أساسية للحصول على المناصب والامتيازات بغير وجه حق.. وبذلك تمكنوا من خلق طبقة سياسية من “المنافقين السياسيين” الذين هم على استعداد دائم للتلون والخداع، والقيام بأي دور يطلب منهم، أو يرون فيه منفعة شخصية.. حتى وإن كان ذلك الدور متعارضا بشكل صارخ مع المصلحة الوطنية..

ثالثا:

إذكاء القبلية والعنصرية، من خلال إحياء دور مشايخ القبائل والاعتماد عليهم في تثبيت دعائم الحكم، عبر كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.. واللجوء إلى إذكاء العنصرية البغيضة، والتصفيات العرقية التي ظلت ديدن العديدين منهم طيلة فترات حكمهم.. وهو ما دفعت البلاد بسببه دماء المئات من أبنائها في مناسبات أليمة ستبقى وصمة عار في جبين مؤسستنا العسكرية.

رابعا:

التحالف مع رجال الدين والاحتماء بهم واستغلال مكانتهم الاجتماعية والروحية من أجل ترسخ دعائم “حكم الفرد” وفرض الولاءات السياسية.. وإضفاء الشرعيية على أنظمتهم المستبدة، وترويج خطاب شرعي تبريري ليكون غطاء للممارساتهم الدكتاتورية، وانتهاكاتهم لحقوق الانسان، وتضييقهم على الحريات..

خامسا:
بعد أن عرفت البلاد خلال العقدين الأولين من تاريخها أجمل معاني التضحية في خدمة الوطن، والتفاني في تحقيق أفضل معايير التسيير الاداري المثالي.. رأينا أنه بمجرد استلام العسكر لمقاليد الحكم بدأت كل أجهزة الدولة ومؤسساتها تعاني من الفساد الممنهج، وباتت الرشوة تنهش جسم الدولة، وغدا نهب المال العام يدمر مؤهلاتها دون رادع أخلاقي أو وازع من ضمير..

هي بالفعل حصيلة ثقيلة لعقود من الفشل والفساد.. وأسوأ ما فيها أنها مازالت متوصالة.. ولذلك ليس غريبا أن تسير الأمور دائما من سيء إلى أسوأ… تحياتي

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى