قيادة الفراغ

عشرون يوما مرت على الرصاصة اللغز، أو الإصابة اللغز التى تعرض لها الرئيس محمد ولد عبدالعزيز في مكان ما من نواكشوط أو ضواحيه، ولايزال الغموض ومشتقاته المهيمن على المشهد رغم كل محاولات التفسير والشرح والطمأنه التي بذلتها السلطة والجهات المتعاطية معها،

ورغم الضخ الهائل من الأخبار والشائعات والتسريبات الوارد ة من مصادر مطلعة أو مفبركة ،موثوق بها أو مشكوك فيها، هنا وهناك وهنالك.. ضرب الغموض أطنابه فتولد فراغ قاتل يعيشه البلد ويهوي بسببه سريعا نحو مسارات مجهولة، وهل يمكن أن يلد الغموض غير الفراغ.
الغموض كان الملاذ ” الآمن” الذى لجأت إليه قيادة البلد الغامضة بعد أن حكم الرأي العام على رواياتها وتخريجاتها لحيثيات إصابة الرئيس بعدم الجدية فاستحالت مادة للتنكيت ” والفسبكة”، وهو أمر لست متأكدا من أنه يمثل إزعاجا لمنتجي رواية الرصاصة الصديقة بل ربما يكون هو نفس إرادتهم فليس هناك ما يدل على جهد بذل لتسويق الرواية مما جعل أحد الظرفاء يشببها بقصة ” لفرص لمتيجل في التراث الشعبي”؛ تلك القصة التي تقدم نموذجا لمن يريد أن يقدم عذرا شكليا عن فعل لايجد حرجا كبيرا في تبنيه.

تقول رواية ” لفرص لمتيجل ” إن أحدهم طلب من صديق له إعارة فرس للقيام بمهمة ما فرد عليه إن الفرس ” امتيجل” فرد الصديق مستغربا إنه فرس ذكر كيف يمكن أن يكون ” امتيجلا” رد صاحب الفرس إنه عذري إن شئت قبلته وإن شئت تركته.. لقد كانت الرواية الرسمية بحق رواية ” امتيجلة” ومن شاء أن يقبل فليقبل ومن لم يشأ فله واسع النظر، وأمامه عشرات الروايات المعقولة وغير المعقولة ..الأخلاقية وغير الأخلاقية…

صحة الرئيس اخذت هي الأخرى حظها الكامل من الغموض والتناقض؛ فالروايات المنسوبة للقيادات العسكرية مختلفة عن تلك الواردة مما يسمى مجازا الحكومة وللحزب المحكوم به سابقا مواعيده المتجددة لعودة الرئيس الوشيكة، أما ” نجل الرئيس” الذى ظهر فجأة في حالة شبيهة بحالة سيف الإسلام القذافي بعد اختفاء العقيد من باب العزيزية فله رواياته ومواعيده الخاصة ونقده القوي لأداء الحكومة والمعارضة والصحافة، وتوجيهاته السامية واتصالاته المباشرة مع الشخصيات السياسية والإعلامية والدبلوماسية.

من يحكم موريتانيا اليوم إذا؛ هل هي الحكومة التي لم يكن لها من الأمر شيئا في أيام الرخاء، هل هم العسكر الذين قضت نتائج الحوار بين الموالاة والمعاهدة بإبعادهم عن العملية السياسية، أم أنها العائلة الموجودة وحدها في جوار الرئيس الذى يقول نشطاء الحزب الحاكم إنه يعطي التوجيهات الخاصة يوميا لبعض الوزراء فيما يخص ملفات جزئية عالقة على مكاتبهم منذ بعض الوقت.. هل تحول نجل الرئيس إلى مدير ديوان وتشريفات ووزير أول ..؟؟؟

لا أحد يملك الإجابة القاطعة على سؤال من يحكم موريتانيا اليوم لكن الواضح أن من يحكم فعلا خارج مباني الحكومة وخارج مستشفى بيرسي ربما يكون غير بعيد من الإثنين ففي جوار مقر الحكومة وسرير الرئيس المريض هناك قرائن على وجود البقية الباقية من حكم البلاد السائبة.

مهما اختلفت رواياتنا لماحدث، ومعطياتنا عن الوضع الصحي للرئيس، فالحقيقة الجلية هي أن البلد في حالة فراغ فقد غيبت الرصاصات الغامضة الرئيس الذى كان يعلن أن مسؤوليته رقابة كل شيئ تاركا وراءه كل تلك الأشياء بدون رقابة ولاقيادة ولاصفقات… من يدعون أنهم يقودون البلد – أو يدعى ذلك لهم- هم في حقيقة الأمر ” قيادة الفراغ” لذلك يلاحقهم الفشل الذريع في كسب معركتي الرصاصات الصديقة والعودة السريعة للرئيس، وبالتالى فالأولى بهم ترك أهل البلد وفراغهم دون محاولة للتغطية عليه فربما يكون ذلك أرحم بهم وبالرئيس المسجي على سرير المرض في بيرسي أو ليل أو شقة فندقية أو حتى في مباني السفارة حسب الروايات شبه الرسمية المتناقضة.

إن موريتانيا الرازحة تحت حكم العسكر منذ أربع وثلاثين عاما تعاني اليوم وضعا من أصعب ما عانته فهي ” تائهة الخطام” بين رئيس مجهول الإصابة مجهول المكان، مجهول الحال، وجنرالات يقودون الفراغ دون أي غطاء من دستور أو قانون وحكومة مفعول بها يكفيها أن وزراءها في المكاتب يتلقون علاواتهم وامتيازاتهم وسفرياتهم، وشعب مغيب مستخف به محروم حتى من الخبر الصحيح متروك لسيول متلاطمة من الأخبار و الأكاذيب والشائعات والتجارب الشائعيتية.

وإن تعجب فعجب انتظارية القوى السياسية الحالمة والحاملة لمشروع الدولة الديمقراطية منذ عقود؛ فهي تبدو على طريقها لتكرار نفس التجارب المريرة التى وقعت فيها خلال السنوات السبع الماضية عندما ناضلت من أجل التغيير وتركت العسكر ينجزونه على طريقتهم فكانت النتيجة إجهاض الحلم وإدخال البلد في دوامة من التجارب الفاشلة والأكثر فشلا والحصيلة ما نعيشه الآن في البلاد التائهة المحكومة بقيادة الفراغ.

إن القوى السياسية والمدنية المؤمنة بالتغيير مدعوة لتحمل مسؤليتها كاملة في وضع حد لقيادة الفراغ وإدارة الفراغ ومنطق الفراع وملأ الساحة نضالا سلميا قويا يجبر العسكر وحكومتهم على قول الحقيقة، وترك الحكم لأهله لابد من مصارحة العسكر اليوم وليس غدا بالحقيقة الجوهرية ” سجلكم القديم في السياسة والاقتصاد والأخلاق والوحدة الوطنية، وسجلكم الجديد في حادثة الرئيس يثبت أنكم غير مؤهلين للحكم سواء عاد الرئيس أم لم يعد تحسنت صحته أم تدهورت فتلك تفاصيل صغيرة في مواجهة حقيقة كبيرة عنوانها ” عدم أهليتكم للحكم ووجوب إخراجكم منه رحمة بالوطن وبكم “

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى