في المحظور .. إلى المعارضة

“قد أُغضِب المعارضة .. لكنني بالتأكيد لن أرضي النظام”

لقد أظهرت أزمة “رصاصات صديقة”، التي أصابت الجنرال محمد ولد عبد العزيز رئيس الدولة وغيبته 40 يوما عن عرشه، أن مويتانيا تحتاج فعلا إلى تجديد الطبقة السياسية خاصة المعارضة بوصفها أمل التغيير المنشود. وطبعا ليس هذا التغيير على طريقة عزيز، بجلب مرتزقة جديدة لا تحمل أي مشروع ولا تؤمن بالوطن إلا بقدر ما تنهب من ريعه بطرق غير شرعية ولا أخلاقية، بل بعدة طرق وآليات من بينها:

ـ تقاعد الذين قادوا أحزابا غير مؤسسية حوالي عقدين من الزمن، والذين تصدروا المنابر السياسية واتخذوا القرارات المصيرية في الغالب بطرق تنقصها الشفافية والتشاور الكافي سنوات طويلة. أو تغيير نمط قيادتهم بشكل جذري وصارم ومقنع للجميع.

ـ ثم بحل الأحزاب الشخصية والجهوية والعرقية التي فشلت أن تتجاوز حقيقتها وحجمها، ودمجها في إطار أحزاب وطنية أشمل وأكثر جدية وجدوائية. إن وجود أحزاب مركزية في المعارضة يمكن الجزم أنها ستففك بمجرد غياب رؤسائها، وأحزاب أخرى جهوية الانتماء، وأخرى يقتصر انتشارها على عنصر معين، دليل على أزمة مؤسسة تعيشها هذه المعارضة.

ـ كما أن الأحزاب الايديولوجية في منسقية المعارضة، رغم تنظيمها المحكم وأدائها الهام، عليها أن تختار بين أن تكون أحزابا جماهيرية للجميع فتعمل بمقتضى ذلك، أو تبقى منغلقة على جماعات محددة ومحدودة (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار).

ـ اليوم بات من الضروري تطبيق العمل السياسي الحق بشكل مؤسسي في ما نملك من مؤسسات “حزبية”، ويتمثل ذلك بالتناوب السلمي على قيادة الأحزاب (لا بالإنسحابات أو التأبيد). فمن الصعب إقناع شعب محدود الوعي بالمطالبة بتغيير رئيس دولة كل خمس سنوات والإحتفاظ برئيس حزب 20 سنة! كما يتمثل بترسيخ التشاور والتعبير الحر واتخاذ القرارات وفق آليات معينة شفافة بكل ثقة.

لا يمكن أن يظل طلاب التغيير والطامحين إلى الحرية الحقة والبناء الجاد يعارضون سلطات عسكرية انقلابية فاسدة بآليات قديمة مترهلة وبأحزاب ميكانيكية. صحيح أن الكثير من جماهير الأحزاب المعارضة متعلق برؤسائها أكثر من تعلقهم بالبرامج والأهداف، وهذه أسوأ أزمة انفصام تعيشها المعارضة ويتحمل رؤساؤها القسط الكبير منها.
مسلسل الأخطاء

تدفع المعارضة الموريتانية اليوم ثمن أخطائها الجسام والمتكررة ـ وهي تستحق ـ فعلى نفسها جنت براقش. والكيانات السياسية تدفع ضريبة الأخطاء عادة عن طريقتين:

الأولى: وهي الأقرب إلى الشفافية والمؤسسية تتم بعزل أو استقالة أو استبدال القيادات المسؤولة عن هذه الاخطاء والإنتكاسات بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة إن كانت القيادات كاملة الصلاحيات ومطلقة السلطة كما هو حال أغلب رؤساء المنسقية. وإذا لم تتم هذه الاستقالة أو الإقالة فلا أقل من الإعتذار بشكل جدي وواضح، والبدء الفوري بعلاج الأخطاء والتعويض عنها.

أما الثانية: فتتم بتخلي الجماهير شيئا فشيئا عن هذه الكيانات لتنشئ كيانات جديدة موازية ولو مجهرية، أو تتحول (يأسا أو طمعا) إلى الطرف الآخر، وكلها نتائج جلية ومتكررة في الساحة السياسية الموريتانية.

إن الأخطاء الجسيمة هذه أصبحت بحجم رؤوس كبار (رؤساء الأحزاب). فقد بدأت بمساندة أسوإ انقلاب عرفته موريتانيا (رئيس التكتل ورئيس حاتم)، ثم باتفاق داكار المشؤوم (خطأ الجميع)، والاعتراف بانتخابات محسومة سلفا، والتقارب مع عزيز بعد انتخابه (تواصل). ثم التنظير لسياسة المساومة (اتحاد قوى التقدم)، وهو تنظير قديم بالمناسبة، بدأ في أحلك فترات الظلم السياسي (آخر مؤتمر لهم في عهد ولد الطايع نادى ب”عاشت سياسة المساومة الوطنية”). ثم جاء خطأ القفز على واقع الشعب المتخاذل ووعيه المحدود بالتنظير لثورة لم تنضج بعد، متجاهلين أن الثورات لا تصنعها الأحزاب السياسية التقليدية، بل هي ثورات على ما كان موجودا حتى الأحزاب المعارضة. كما أن ترحيب المعارضة بمفسدين وفاسدين وتقديمهم على منصات النضال كفاتحين يعتبر خدعة للشعب على أقل تقدير. لقد كان عملا سياسيا مهادنا في أيام تتوق فيها جماهير المعارضة إلى أعمال ثورية نوعية.

وبعد ذلك جاء الاستغلال السيء لحادث سماوي (ما نزل بلاء من السماء..)، حتى أن هذا الحادث ـ على خطورته ـ لم يتم استغلاله من الزاوية المناسبة (عدم أخلاقيته أو عدم شرعيته)، لتكون النتيجة هي العدول عن المطالبة بالرحيل إلى المطالبة بإعلان الشغور، وكأن المشكلة لم تعد سياسية ولا شرعية بل أصبحت صحة الرئيس فقط هي سبب كل هذه الجهود مما يمهد الأرضية لنسف كل ما تم في حال عودة الرئيس معافى! لقد وقع قادة المعارضة ضحية مغالطات الاستخبارات (ربما الخارجية) بل وإيقاع الشعب فيها. كما أنهم أطلقوا العنان للأماني والشائعات، ليحولوا مسائل ثانوية إلى أمور جوهرية وهذا أكبر خطإ اقترفوه!

حول “العودة”

منطقيا لا أحد يلوم المعارضة بسبب أن رصاصة صديقة لم تجهز على الرئيس إذ لا علاقة للمعارضة بهذا الموضوع. لكن وجه العتب يكمن في تركيزالمعارضة على الحادث كانتصار سياسي، وتخليها عن المطالبة بالرحيل لتتحول إلى نظرية “الشغور”. لقد كانت تلك خديعة كبرى وشرَك وقعت فيه المعارضة ببساطة. كما أنها اقترفت خطأ آخر، لا يقل خطورة، وهو تراجعها عن تجميد أنشطتها حتى عودة الرئيس. فقد كان هذا الإجراء موقفا أخلاقيا حميدا وضاع ـ ارتجالا ـ مثلما ضاعت مواقف سياسية أخرى. بل إن هذه المعارضة عاشت لحظات ما بعد عزيز فعلا وجعلت أنصارها يعيشون نفس الشعور، ربما كان ذلك شعورا جميلا مؤقتا عند الكثرين، لكنه جسد مدى اختزال معركة الإصلاح في الصراع مع الأشخاص لا مع الأنظمة، وإلا فما المفرح في ذهاب عزيز ومجيء غزواني أو أو ولد ازناكي أو ولد الهادي أو أي جنرال آخر؟!
سيعود الجنرال عزيز بعد يومين، وسيعود منكسر النفس، ضعيف البنية، البدنية مهزوزة الثقة في أركان نظامه، وربما هم كذلك لم يعودوا يكنون للرجل نفس الإحترام ولا يرونه بنفس القوة والتحدي. إن ظهور عزيز 10 دقايق بجانب سادات الأليزيه لا يعني قوة بدنية كافية لإدارة بلد هش مقدم على قلاقل سياسية وربما حرب مدمرة. لكن أكرر أنه لا ينبغي جعل حالة عزيز الصحية جوهر عمل المعارضة ضده. كان ذلك خطأ يجب التوقف عنه…!

إن الذين عارضوا عزيز على أسس سياسية واضحة ـ وهو في شده وعده على قول مسعود ـ الإنطلاق من جديد على أسس سليمة وشفافة وقوية. لأن المبررات وفي أولها طبيعة الرجل الإنقلابية، وفساد نظامه ماليا وسياسيا (نهب المال العام وإماتة المؤسسات الدستورية جميعا) ما زالت قائمة بل ازدادت بفضيحة “رصاصات صديقة” وضعف الرجل.

بيد أنه لا ينبغي مطالبة من قام بانقلابين ونصف وغامر بحياته وبأمن بلده من أجل السلطة بالاستقالة، بل يجب إرغامه عليها! إن من لم يستقل بسبب الفشل الأمني ولا التنموي، ولا حتى بسبب الحوادث “الصديقة الخاصة”، ومن هدد بإراقة الدم بسبب عزله وهو مجرد ضابط لا يمكن أن يستقيل بهذه البساطة من رئاسة دولة. إنه جنون السلطة !

إن ظهور الجنرال ـ رغم شحوبه وتعبه البادي ـ بصورة أحسن مما كان يتوقعه أنصاره، كان ضربة قوية جدا ومؤثرة للمعارضة سياسيا وإعلاميا. لكن المعارضة ردت بالحجم المطلوب وفي الوقت المطلوب من خلال مسيرتها الناجحة والنادرة. إنها مسيرة أثبتت تشبث الشعب بخيار التغيير وبخط المعارضة رغم الأخطاء المتكررة. فهل يتغير أن أداء المعارضة المنحسر في ردات الفعل والذي سبب لها ولأنصارها الكثير من الإحراج إن لم أقل الانتكاسات؟

ردة الفعل

يبدو أن منظر ردات الفعل هو الآخر (عزيز) ما يزال يحتفظ بنفس الذاكرة المبرمجة على ردات الفعل المغامرة وغير الموفقة. فقد كان ظهوره من قصر الأليزيه لا من المستشفى، وكانت أول مقابلة يطل من خلاله على جمهور متعطش لأخباره (معارضة وموالاة) عبر فرانس 24 لا عبر التلفزيون الوطني، وكان كلامه عن الشعب وللشعب متأخرا جدا ومقتضبا جدا وبعد إلحاح من الصحفي المستضيف. وكان الملف المهم عند فرنسا هو الأهم عنده (ملف أزواد). كان المشهد كله “استعماريا” بامتياز رغم أجواء الإستقلال المطلة الآن، لم يكن وطنيا اطلاقا، كانت رسالة سيئة مفادها أن الرجل رجل فرنسا أكثر منه رجل موريتانيا.

كان أقرب إلى الموظف الرسمي هناك منه إلى الرئيس والقائد هنا. لقد استأنف عزيز مسلسل الأخطاء سريعا ، وهذا من حسن حظ المعارضة فكلما أخطأت كفرت عنها أخطاء الجنرال بأسرع مما يتوقع.

ختاما

على الذين عارضوا عزيز بسبب إصابته ب”رصاصة صديقة” أن ينتهوا عن معارضته بعد تماثله للشفاء (هذا الوصف لا يصدق إلا على المرتابين من الموالاة وهم كثر لقد تخلوا عن الرجل بسرعة البرق). أما الذين عارضوه في “شده وعده” فما عليهم إلا الاستفادة من وضعية الرجل المحرجة. وتصحيح أخطائهم والإنطلاقة بصورة أقوى فالنظام أضعف الآن بكثير مما كان عليه قبل 13 أكتوبر.

لقد منحت مسيرة جماهير انواكشوط الفرصة للمعارضة للعودة من جديد بقوة أكبر وبنفس أطول. وبالتأكيد ستمنحهم تصرفات الجنرال غير المدروسة المزيد من الفرص، خاصة إن أقدم على حرب كثمن لحماية فرنسا لعرشه في غيابه.

إن انتقاد المعارضة اليوم يأتي لسببين: أولهما محاولة تصحيح الأخطاء وتدارك ما فات. والثاني إظهار أن أنصار المعارضة وكوادرها ليسوا مثل مأموري الجنرال، إذ بإمكانهم نقد أحزابهم ورؤسائهم في حالة الخطإ. وهذا جوهر الفرق بين من يعارض عن وعي ومن يؤيد عن خوف أو طمع. ولا وجه للمقارنة اطلاقا بين أحزاب سياسية يقودها كبار رجالات السياسة والنضال والفكر في البلد، ممن وقفوا ضد الظلم والفساد سنين طوال ـ مهما أخطأوا ـ مع ضابط متمرد محدود الكفاءة والتعليم والخبرة قام بانقلاب على رئيس مدني احتجاجا على عزله. كما أنه لا وجه للمقارنة بين كوادر معارضة ينفقون أموالهم ووقتهم من أجل تغيير وطن إلى الأحسن وبين من يتسلق كل قادم، ويتلون مع كل لون، لتحقيق مصالح شخصية آنية.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى