السروال و الراحلة

غريب أمر التاريخ كيف يعيد نفسه ، كيف يدور و يدور… تتكرر التجارب و الآلام و حتى الحماقات نفسها و كأن الوطن و البشر بلا ذاكرة……

ترجع أرض السيبة لطبعها القديم ، لعصر اكتشاف “القرطاس”* في نهايات القرن التاسع عشر حيث حصلت قلة مزودة بالسلاح القادم من الشمال على قدرة فذة على السلب و النهب لم تعرفها البلاد من قبل رغم مرور كل انواع البشر على هذه الأرض.

دائما هنالك غزاة يسلكون نفس الطريق و يحملون نفس المنطق .. منطق القوة المجردة من كل أخلاق، سوى ما تعارفوا عليه في مختلف العصور من إظهار الاحترام لرجال الدين الخاضعين وممارسة الطقوس و الشعائر أمام العامة و تجنب العنف المجاني و تحريم اللصوصية الصغيرة كقطع الطرق وسرقة جمل هنا أو شاة هناك..

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

ادارة الغنائم احتفظت بشكلها القديم ، الهنتات دائما لا يثق في أي غريب …. سيان في ذلك القديم منهم او الحديث المحلي أو الأجنبي …. في امريكا اليوم و الأمس تدار الجريمة من خلال عائلات المافيا و في أرض السيبة عبر ابناء العمومة و الخؤولة كما كانت دوما ….قريب للإشراف على غنائم البحر مع الصينين …. و اثنان لمراقبة فيئ الذهب … و الغدة السرطانية تكاد تنفرد باحتكارات المواد الغذائية ويبدوا انها ستكافأ بالمقاولات أخيرا…..و ابن عم آخر ينقل من تسيير شاحنات الغاز لتحديد هوية كل موريتاني و آخرون لإدارة العقارات و الشاحنات و أما أبناء الخال فموزعون على المحروقات والتأمين و الابتزاز…ٌُ

حتى القوانين و الضرائب تلاءمت مع تنظيم الغنائم ، سجن صاحب أكبر شركة لتوزيع الوقود أثناء التحضير لفتح شركة محروقات الهنتاتة وحاولوا بشتى الوسائل اقناعه بالهروب عن أمواله و عندما اصر على العودة مارسوا عليه شتى أنواع الضغوط لتحويله الى شريك صغير في ماله و لم ينجيه من الافتراس سوى تدخل دول اجنبية.ُ

منذ اسابيع خلت دفعت ديون المحروقات من تاريخ افتتاح شركة الهنتاتة و أهمل ما قبل ذلك ، ومن فترة غير القانون ليدفع كل من يتسبب في حادث مكلف ماديا لتخفيف الضغط على مؤسستهم الجديدة للتأمين… وبيعت اهم أراض الدولة لتمكنيهم منها وعقدت صفقة دكاكين التضامن بدون مناقصة مع فرعهم للمواد الغذائية وأزيحت شركة سونيمكس نهائيا في عملية نهب من الطراز الأول خشية ان تشكيل أي منافسة وسخرت لخدمتهم الجمارك وحاصلات العملة الصعبة و الآن تدمر البنوك و المؤسسات المالية بالضرائب الباهظة تحضيرا لفتح بنكهم الخاص…ُُُُ

بيع فوسفات بوفال في ظلام دامس ، و تبعه معدن لكوارتز و سن حثالة الموالاة قانونا يمنع الجميع من معرفة تفاصيل صفقات النفط ويحرّم على البرلمان المصادقة عليها و تحولت جل الصفقات الى سر من اسرار الدولة.

في كل مكان وزمان بعد ان يتفاقم نهب الهنتاته يبدأ الاحساس بالخوف من ردات الفعل و يشرع الغزاة في عقد التحالفات و الاتفاقيات لتأمين الغنيمة و تشريع النهب.ّ
لتمرير هذا النوع من الاتفاقيات يجب البحث عن وجه له تاريخ في مقاومة الهنتاتة…. لا أحد سيأخذ بمحمل الجد استسلام من لم يحمل السلاح من “الطلبة” الخاملين و الخانعين دوما.

مقابل التخلي عن الكرامة و القبول بالخضوع يعوض الهنتاتة المستسلمين ببعض الفتات و الكثير من المجاملات العلنية المتناسبة مع عظيم الاحتقار المبطن ….ُِ

هذا هو ما علمنا إياه التاريخ في كل العصور… دائما ما يتمرد أصحاب الكرامة و النخوة في القبيلة المستسلمة و يطالبون بعزل الشيخ الخانع … الذي يلجأ دوما لتكرار حجج من نوع عبثية مقاومة الغزاة ، آخذا في تذكير الجميع بأيامه في محاربة الخصوم ، محاولا بكل جهد تثمين ما تحصل عليه من تنازلات هزيلة وغالبا ما يميل لاسترضاء المتمردين بمركوب أو “بيصة” من قماش النيلة أو “خماسية” من هدايا الهنتاتة.

كانت نتائج الحوار كما علمنا التاريخ بدون زيادة ولا نقصان…. خرج علينا المستسلمون بسلسلة قوانين تضمن تعيين رئيس الوزراء من الأغلبية ! و كأن مشكلة موريتانيا تتلخص في تربع المعارضين على رأس الحكومات ؟! … وآخر يحول اللجنة المستقلة للانتخابات الى إدارة دائمة تابعة فعليا لوزارة الداخلية لضمان تزوير ابدي يتيح للمتغلبين الخلود على عرش السلطة… و قانون يضمن سيطرة حزب الهنتاتة على إدارة السمعيات البصرية … وآخر لتحريم محاولات التخلص من الغزاة تحت عنوان تجريم الانقلابات …. وطبعا رواتب للخانعين و الكثير من الثناء على وطينتهم و أمانتهم ورجاحة عقولهم…

هذا هو الفصل الأول في كل مسرحيات النهب المنظم في كل مكان زمان …. الفصل الثاني من المسرحية أشد إثارة وحبسا للأنفاس ….. دائما ما يسدل الستار و قد تغير المشهد تماما …. هذا ما حدث في هذه الأرض و ما سيحدث.ُ

في أرض تيرس الأبية سنة 1903 استدعى محمد ولد الخليل زعيم أولاد موسى أبناء عمومته من كل أفخاذ الرقيبات و في الجمع المهيب و امام الجميع كسر رحله و خلع سرواله قائلا :
السروال و الراحلة من ادوات الرجال ….. و أنا لست رجلا.
صعق الحضور وخيم الصمت…. فهم الجميع معنى الرسالة و أحسوا برفيف اجنحة عزرائيل يلامس آذانهم .ُ

لم تنفع الغزاة أسلحتهم المتفوقة… و لم تبق في حوزتهم ذرة واحدة من المال الحرام الذي جمعوه ….. تفرقوا اشتاتا يجرجرون اذيال الهزيمة والعار.

بعد زمن قصير لبس محمد ولد الخليل سرواله و امتطى راحلته…..طهرت الأرض تماما وعاد المقاتلون لمضارب خيامهم تستقبلهم زغاريد الحسناوات …. ليضموا ابنائهم لصدورهم و يعلموهم حكمة هذه الأرض الخالدة ” الموت فرظ و الرﭬﺔ ماهي فرظ”. ُ

يقول أحد المؤرخين : التاريخ هو المستقبل الذي مضى….

*مكن اكتشاف الرصاص المغلف بالنحاس و اختراع السبطانة الحلزونية من زيادة مسافة الرماية أضعاف السلاح القديم الذي يملئ يدويا بالبارود ، اطلق الموريتانيون “القرطاس” على التقنية الجديدة و مكن العصابات القادمة من الشمال من نشر الفوضى في البلد بسب احتكاكهم بأسواق العالم .

المصدر : تقدمي

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى