كرنفال النيل من الإسلاميين.. هوامش تكميلية

في آخر مطولة من مطولاته – التي كتبها عن الإسلاميين – واصل الأستاذ محمد الكوري ولد العربي هجومه “الذكي” على حزب تواصل ممثلا في قياداته وشبابه ، ودبَّج من الكلام المباح والاتهام الصراح في حقهم “معلقة” بين السماء والأرض ، تتبرأ بعض أفكارها من بعض .

الحولية الأخيرة التي بدا الأستاذ فيها حريصا – منذ عنوانها إلى آخر حرف فيها – على أن تفرغ حمولتها في “حمى” التواصليين فقط دون غيرهم من “الإسلامويين” ممن جمعتهم وإياه “بيعة” و “جبهة” كانت غارةً جديدةً شنها الفارس المُعْلم وهو يدرك أن غنيمته الباردة الوحيدة لن تكون إلا أحاديث “الصوابيين” و “الجبهويين”عنها بين تمثل وسماع ؛ مما يعزز استواءه على عرش الكتابة بين رفاقه .

وقد يتساءل القارئ لمطولة محمد الكوري عن الصفة التي يَصدُر عنها في دفاعه وهجومه ؛ وهو تساؤل له في الحقيقة ما يدعو إليه ؛ فقد يخال القارئ حينا أن الرجل يقدم نفسه – بلسان الحال من المقال – ناطقا رسميا باسم التيار القومي العالمي ؛ الذي يدافع عن تجاربه دفاع مستميتٍ مضطرٍّ دون امتلاك القدر الكافي من صراحة الذات ومغالبة التعصب وإنصاف الحقيقة للاعتراف بأخطاء هذا التيار (ونحن لا ننكر إيجابياته) بل إنه على نقيض ذلك يصلب الحقيقة والمنطق والتاريخ فداء له ، وهي عقدة لدى القوميين عصية على الحل وعقيدة عصية على المراجعة.

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

وحينا آخر يخال القارئ الرجلَ نفسه ناطقا باسم التيار البعثي في القطر الموريتاني وهي وإن كانت صفة يراها محمد الكوري – بالتأكيد – مدعاة فخر وعزة إلا أنه لا تطاوعه نفسه أن ينهي مطولته – بعد أن أفاض الكأس وأبلغ السيل الزبى ودوّنَ ما دوّن من تحامل واتهام بالكَيل والعدَ والحَثْو- أن ينهيها قبل أن يتنصل من صدوره في كتابته عن أية صفة رسمية وكأن الرجل قد أحس بأنه أتى من القول والدعوى ما يدعو إلى ذلك .

وهكذا يتدرج محمد الكوري من ناطق باسم التيار القومي العالمي إلى ناطق باسمه الشخصي مرورا بالتيار البعثي القطري مع أن القضية واحدة والرأي واحد.

دعوة للكفّ .. ولا كفّ

يؤكد الأستاذ محمد الكوري أنه ليس من “شيمته النُّكر على أحد” إلا ما كان إليه مضطرا اضطرار دفاع وذودٍ عن حريم رفاقه ، وهو أمر لا يُعاب ولا يُقَرع عليه أحد ، لكن ما لا يَفهم فاهمٌ وجهَ حجته ولا يدرك مُدرك حقيقة وجاهته أن تكون الكتابات الأخيرة للأستاذ بريئة القصد سليمة الصدر كما يقول ؛ فلو لم تكن هذه الكتابات هي مساهمته في “كرنفال النيل من الإسلاميين” لما كان هناك مسوغ لنشرها الواسع على وسائل الإعلام ولكان الأستاذ قد وجهها مباشرة – دون واسطة إعلامية – إلى قادة حزب “تواصل” خصوصا أن السبب المباشر للمقال الأخير – حسب قوله – ليس إلا شكوى أحد قادة الحزب ضمن لقاء خاص مع قادة بعثيين من انخراط الأستاذ في فعاليات “الكرنفال” ، والقيادي التواصلي لم يُدْلِ بشكواه في تصريح إعلامي ؛ مما يدعو من لا رغبة له في مزيد من السجال – كمحمد الكوري – أن يوجه رسالته هذه التي يدافع فيها عن “غاراته” على الإسلاميين ويعدد فيها “أخطاءهم” في حق التيار القومي إلى القيادي في مكتبه ، أما وقد اختار الأستاذ طريق الإعلام فلا يحاولِ التبرؤ من لازم الفعل والقول، فليس الأمر إلا مشاركة في “الكرنفال” وبناء عليه فلا وجاهة للدعوة – التي دعا بها – إلى وقف المساجلات الإعلامية والكف عنها في حين أنه منخرط فيها إلى الغاية القصوى على رأس مِقْنَبٍمن تلاميذه المتدربين المرتبكة كتاباتهم ، ومن المعلوم بداهة أن الإسلاميين لن يظلوا غرضا منتصبا للرماية من رام ومن غير رام، والكف بالكف.

قياس مع الفارق..

ومما أثاره الأستاذ محمد الكوري المقارنة بين تجربة الحكم في السودان وتجارب الحكم القومية العربية في العراق ومصر ، وهنا وجه الأستاذ رسالته حصريا إلى شباب “تواصل” وأنشأ يُنقب عن ما يرى له مماثلا في التجربة السودانية من سوآت الأنظمة القومية وغضَّ الطرف عما رجحت به كفتها مما لا مثيل له من خطاياها إلا في أيام العرب الخوالي عندما كانت القبائل تشن حروبها وتتفانى لأسباب تافهة مقارنة مع ما تزهق من الأرواح وتهتك من الأعراض وتستبح من الحريم.

وعلى الرغم من أن موقف الإسلاميين من تجربة الحكم الإسلامية في السودان ورؤيتهم لها قد كتب عنها الأستاذ أحمد ولد الوديعة في مقاله السابق بما يكفي بيانا وتبيينا إلا أننا نرى أن في مقارنة الأستاذ محمد الكوري بين التجربتين تطفيفا في الكيل وقياسا مع الفارق ؛ فهل اجتاحت جيوش عمر البشير بلدا عربيا لضمه بالقوة وأهلكت في سبيل ذلك الحرث والنسل كما فعل النظام العراقي في عهد الشهيد صدام حسين حينما اجتاح الكويت عام 1990 م لبضعة آبار من النفط وأعطى “الذريعة القاتلة” لاجتياح العراق ومحاصرة الشعب أكثر من عقد من الزمن ؟ ، وهل نكّل النظام السوداني بشعب دولة عربية شقيقة كما فعل النظام القومي الناصري في سوريا عندما فرض على شعبها الوحدة بالحديد والنار ؟.

إنه ليس بمقدور أحد أن ينكر إيجابيات المشروع القومي العربي وتجربته في الحكم التي يتربع على عرشها مناهضة الإمبريالية الغربية وزرع الثقة في نفس المواطن العربي برهة من الزمن ، لكنه بالمقابل مشروع عنيف في – صميمه – غير مدني ، عاطفي غير عقلاني استعلائي ، توسعي ، علماني ، وهي المواصفات التي جعلت الساحة العربية على امتداداها تُقيله من مجال الفعل والتأثير الأصيل مبكرا .

إن هذه العُنفية الشديدة والتوسعية الالتهامية هي التي نرى أنها تجعل مقارنة تجربة حكم الإسلاميين في السودان مع التجارب القومية العربية – ما فات منها وما هو قائم اليوم – مقارنة غير عادلة ولا منصفة.

التعريب..نقطة على جدول أعمال فارغ

طفقت الساحة الطلابية تغلي وتتفاعل بعد تصريحات متناقضة ومرتجلة صرح بها وزراء من الحكومة عن إرادة لها – لا مؤشر على جديتها – لتعريب الإدارة وسوق العمل ، تصريحاتٍ أثارت أوائلها حفيظة بعض وأثارت أواخرها حفيظة آخرين ، فانقدح الزناد مشعلا نار فتنة وصدامات بين طلاب زنوج وآخرين عرب وقامت دعوى الجاهلية بالعرق واللون وأطل الشيطان برأسه.

بادر الإسلاميون في “تواصل” إلى إطلاق حملة تدعو للتعايش بين أبناء الوطن أبناء الدين الواحد تحت شعار : “هو سماكم المسلمين” درءا للفتنة وحفاظا على وحدة الشمل والعيش المشترك ، وعلى الرغم من أن “تواصل” قد بين موقفه قبل ذلك من تعريب الإدارة واللغة العربية – وما هو عليها بظنين – في بيانات صريحة فصيحة إلا أن كلمة واحدة في هذه البيانات كانت غير مرضية عند الإخوة البعثيين – كما ذكر الأستاذ محمد الكوري – هي عبارة “لكن” وعلى الرغم من أن “لكن” حرف استدراك والاستدراك علامة التعقل والتأني وهما أدعى للإنصاف والعدل والصواب إلا أن الظاهر أن الإخوة البعثيين كانوا يريدون تعريبا بأي ثمن و من أي نوع ، وبدلا من أن يدافعوا في مقالاتهم وتصريحاتهم عن رأيهم وموقفهم استعاضوا عن ذلك بالهجوم على “تواصل” مسطرين فيه من الأقاويل الأباطيل ما جادت به قرائحهم من خيالات وما تهفو إليه نفوسهم من تمنيات.

إنه لم يعد خافيا على أحد أن اندفاع الإخوة البعثيين ودفاعهم عن “التعريب” ماهو في حقيقته إلا سعي حثيث للعودة إلى الساحة بعد سبات عميق وانقصاءٍعنها دام برهة من الزمن غير قصيرة ، وبات واضحا أن “التعريب” ماهو إلا نقطة على جدول أعمال فارغ لم يعد لدى أصحابه شأن يغنيهم بعد أن تهاوت كل دعاوى القومية التي لم تقم على نجاعتها بيّنات ، ولهذا ولضمان عودة قوية للساحة كان لا بد من الدخول القوي من الباب الكبير ؛ باب التحامل على الإسلاميين .

عصارة القول ..أن باب الحضور السياسي مفتوح لمن أراد دخوله ، لكن عليه أن يعلم أنه مخطئ حتما لو اعتقد أن الطريق إليه سيكون سالكا على ظهور الإسلاميين .

وأن التعايش بين مكونات هذا الشعب مكسب تجب المحافظة عليه وليس يكفي أن نحققه في أسمائنا ( الكوري ، العربي) بل علينا أن نؤمن به قناعة وفكرا ونحققه واقعا وممارسة ، وعلينا أيضا أن نعلم أن اللغة العربية تستمد قوتها ومكانتها من القرآن وأنها لغة أثبت التاريخ أنها تغزو القلوب والعقول بسحرها وجمالها ومكانتها وأن سر قوتها الحقيقة أنها كانت على مدى التاريخ لغة محبوبة لا لغة مفروضة .

والحقيقة أن الأستاذ محمد الكوري تستحق كتاباته كل إطراء وتقدير لما بها من رصانة وتماسك إذ أنه من الملاحظ أن أغلب الإخوة القوميين – وإن كانوا من أشد “المدافعين الجدد” عن اللغة العربية – من أقل الكتاب بها طولَ باع وتمكنَ سليقة وجودةَ كتابة خصوصا شبابَهم المتحمس وبعضا من قادتهم الذين يتقنون لغة المستعمر الفرنسي التي يقاتلونها أكثر من لغة الضاد التي “يقاتلون دونها” .

المصدر : السراج

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى