التنظيم العقاري في موريتانيا: أخطاء متراكمة ومشاكل تنتظر الحل
العقار، المفهوم والأهمية
استند مفهوم العقار في التشريعات الموريتانية على التعريف الذي يقدمه الفقه المالكي والذي ينص على أن العقار هو كل شيء لا يمكن نقله أبدا، أو لا يمكن نقله إلا بتغيير هيأته. وهذا يعني أن كلمة عقار كما تطلق على الأرض، تطلق كذلك الأشجار، والبناءات وما يتصل بها مما لا يمكن نقله إلا بتغيير هيأته.
وتحتل العقارات مكانة هامة في البنيان الاقتصادي وذلك لاعتبارين أساسيين؛ فمن جهة يعتبر العقار هو المسكن والمأوى الذي يحتاجه الانسان في حياته كحاجته للغذاء والكساء، ومن جهة أخرى تعتبر العقارات مركزا رئيسيا للاستثمارات؛ ومن ثم فهي تتصدر أوجه النشاط التجاري في أغلب بلدان العالم من حيث قيمتها المادية المقدرة.كما تلعب دورا هاما في المبدلات التجارية وتشغيل اليد العاملة وتشجيع الاستهلاك داخل الدورة الاقتصادية.
ولهذه الاعتبارات كان تنظيم هذا القطاع من الأولويات التي يتطلب الاهتمام بها من حيث سن التشريعات والقوانين التي تضمن حقوق الملاك والمتعاملين فيها بصورة واضحة، وكذلك وجود رقابة حقيقية من السلطات التنفيذية لضمان تطبيق القانون واحترام سريانه على الجميع، الشيء الذي يبعث الثقة والطمأنينة في نفوس المستثمرين وطنيين كانوا أم أجانب.
تطور التنظيم العقاري في موريتانيا والأخطاء التي واكبته
مع قيام الدولة الموريتانية الحديثة برزت أهمية العقارات ونمت تجارتها وتضاعفت أثمانها بشكل غير مسبوق، خاصة على مستوى العاصمة نواكشوط وبعض المدن الرئيسية الأخرى بعد موجة النزوح الجماعي من الريف إلى المدينة، وقد واكب موجة النزوح هذه استيطان السكان بشكل فوضي وعشوائي في محيط العاصمة وتناثرت منازل الصفيح على قطع أرضية غير مشرعة سميت با”الكزرة”، وشكلت أحزمة حول العاصمة احتلت مساحات شاسعة من الأراضي التي تفتقر إلى الخدمات، وظلت الدولة تغض الطرف عن هذه الوضعية لسنوات، وعندما أشيع أن الحكومة بصدد تخطيط الأحياء العشوائية بدأ التسابق من طرف المواطنين للحصول على أوصال تشريع القطع الأرضية ، لكن هذه العملية أصابها الكثير من التلاعب والغش وتمت بشكل خاطئ للأسباب التالية:
أولا: عدم تشجيع التسجيل في السجل العقاري الذي يضمن استقرار الملكية استقرارا لا مراء فيه ويجعلها قابلة للتبادل وضمان الاستثمار لدى البنوك ومؤسسات التمويل.
ثانيا : عدم تطبيق اللامركزية في تشريع الأراضي مما يجعل المواطنين ـ وخاصة في الداخل ـ يترتب عليهم التنقل في الوقت الحالي الى نواكشوط من اجل الحصول على قطعة ارضية للسكن لا يمنحها إلا وزير المالية او مجلس الوزراء طبقا للمرسوم 2010/80 حتى ولو كانوا في (فصالة) على سبيل المثال. وهذا راجع إلى اقصاء السلطات المحلية من الصلاحيات التي كانوا يتمتعون بها قبل المرسوم المذكور اعلاه.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن التنظيم العقاري في موريتانيا مر بعدة مراحل ، ففي البداية كان النظام المعتمد في حيازة الأرض منذ 1960 هو النظام الاسلامي، وأكد ذلك الأمر القانوني 127/83؛ وكان هناك تشجيع من السلطات على تعمير الأراضي واقتنائها، ثم صدر المرسوم رقم 2000/89 ليقنن العملية، وبموجبه منح الحاكم والوالي ووزير المالية ومجلس الوزراء حق منح القطع الأرضية، وذلك وقف الضوابط التالية: في المناطق الريفية يحق للحاكم منح مساحة تبلغ 10 هكتار، والوالي 30 هكتار، وزير المالية 100 هكتار، وما فوق ذلك من اختصاص مجلس الوزراء، وفي المناطق الحضرية يمنح الوالي في حدود 1000 متر مربع، ووزير المالية في حدود 2000 متر مربع، وما فوق ذلك من اختصاص مجلس الوزراء، ومنذ مارس سنة 2010 جاء العمل بمقتضيات المرسوم 2010 / 80 الشيء الذي قضى على صلاحيات الحكام والولاة سواء كان في المناطق الريفية أو الحضرية . وتم حصر جميع صلاحيات المنح بين وزير المالية ومجلس الوزراء ، حيث أصبح وزير المالية من حقه منح 1000 متر مربع في المناطق الحضرية و100 هكتار في المناطق الريفية وما فوق ذلك من اختصاص مجلس الوزراء في كلتا الحالتين. وهكذا تحولت العملية تدريجيا إلى التنظيم المركزي مع ما يرافق هذا النظام من روتين إداري ، وصعوبة حقيقية في الحصول على القطع الأرضية. ومع ذلك استمرت القوانين المنظمة للعقارات تعتبر أن احياء الأرض من طرف الخواص سواء بالبناء أو الغرس أو غيرهما من موجبات الملكية ، كما نصت عليه المادتين الأولى والثانية من الأمر القانوني 127/83.
ثالثا: شجعت هذه الوضعية السابقة التي جعلت من الصعب الحصول على الأرض بغية الاستثمار أو السكن ، على تشجيع بعض الأيادي الطويلة على الدخول في المضاربات التي تتعارض في الحقيقة مع سياسة الدولة التي تهدف إلى تشجيع امتلاك القطع الأرضية بأسعار ميسرة، فكما سعى البعض كذلك إلى عقد صفقات تتعلق بامتلاك الأرض مقابل إقامة مشاريع كان من اللازم تجد لها الدولة مصادر للتمويل خارج بيع الأرض التي هي في الحقيقة كان من اللازم أن تمنح للأفراد، إما للسكن أو لإقامة مشاريع أخرى كصفقة بناء المطار الجديد الذي كلف الدولة التنازل عن المطار القديم وأراضي الحزام الأخضر لفائدة شركة خصوصية. خاصة وأن في الحزام الأخضر قطع أرضية كثيرة تعود ملكيتها لمواطنين آخرين منذ زمن طويل. في الوقت الذي كان فيه الحزام الأخضر منطقة زراعية خارج الحدود الحضرية لمنطقة نواكشوط التي كانت تعتبر أرضا ريفية عند تأسيس العاصمة، وقد خصص المخطط العمراني سنة 1990 منطقة زراعية لكل مقاطعة من مقاطعات العاصمة.
تصرفات إدارية خاطئة وإهمال واضح للقوانين
لا شك أن التحديات التي يفرضها تنظيم القطاع العقاري يمكن أن تكون جسيمة ومعقدة، بيد أن المشرع الموريتاني لم يترك للإدارة أي عذر تتحجج به إزاء بعض الانحرافات الخطيرة في هذا المجال، فقوانين التنظيم العقاري التي اطلعنا عليها كانت من الوضوح والشمولية إلى درجة أنها لو وجدت طريقها للتطبيق لما ظهرت أي خلافات أو نزاعات تتعلق بامتلاك الأرض أو بيعها، سواء بين الدولة والخواص أو بين الخواص أنفسهم. وهنا نجد أن من بين الأمور التي ترتبت على عدم نفاذ القوانين هو التداخل في اختصاص الوزارات ذات العلاقة بالاشراف على القطاع العقاري، وخاصة بين وزارة الاسكان والعمران ووزارة التجهيز والنقل. وقد كان من أبرز نتائج هذه السلبيات حدوث عمليات تنازل الدولة عشوائيا عن بعض القطع الأرضية، وظهور عدة ملاك للقطعة الأرضية الواحدة لكل منهم ترخيص عقاري صادر من جهة رسمية مختصة ، ونتج عن ذلك نشوب نزاعات حادة بين المواطنين مما جعل الدولة توقف عمليات استغلال الأرض دون أن تجد لها حلا مناسبا طبقا للقانون ؛ وهذا واقع منذ زمن فيما يسمى الآن بمنطقة (chevochement) الواقعة بين لكصر وتيارت من جهة وتفرغ زينة من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن قانون العقارات الموريتاني نص في مادته الأولى على أن ” الأرض ملك للأمة، ويحق لكل موريتاني، بدون أي تمييز، أن يصبح مالكا لجزء منها طبقا للقانون.” وأن الدستور الموريتاني نص كذلك على قدسية الملكية الفردية ، فإن الدولة في بعض الأحيان لم تحترم هذه النصوص المنظّمة ولم تعط للوثيقة العقارية مركزها القانوني، إذ من المعروف أن السند العقاري لا يمنح إلا بقرار نهائي ، أو بعبارة أخرى هو تسجيل للقرار النهائي الذي بموجبه تتخلى الدولة عن الأرض ويحفظ للخواص حقوقهم كاملة، وينطبق هذا الأمر ذاته على الاقطاع الريفي وهذا ما نص عليه آخر مرسوم قانون يتعلق بالنظام العقاري وهو المرسوم رقم 2010/80 ، فقد أكد في المادة 97 على أن “الاقطاع الريفي النهائي هو الإجراء الذي تمنح بموجبه سلطة مختصة شخصا خصوصيا حق الملكية الكامل على أرض مملوكة في الأصل للدولة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال انتزاع الاقطاع الريفي النهائي من صاحبه إلا بسبب المنفعة العمومية ولقاء تعويض عادل أو بسبب الاندراس”، وجاءت المادة التالية لها لتحدد إجراءات منحه ، فأوضحت أن “الاقطاع النهائي يمنح بمقرر أو مرسوم من السلطة التي منحت الاقطاع المؤقت .. ويسجل في السجل المركزي للحفظ العقاري، والسجل لعقاري للمقاطعة، كما يدرج في المخطط العقاري وذلك طبقا للإجراءات المعمول بها”.
ضف إلى ذلك أيضا أن الدولة لم تعالج الأخطاء المتراكمة سابقا والتي ظهرت في ظل غياب القوانين والقرارات القضائية الادارية التي تعالجها، خاصة ما يتعلق بتعدد منح القطع الأرضية ، فقد استقر القضاء الموريتاني على أنه إذا تعدد منح القطع الأرضية اعتبر المنح الأول السليم الظاهر في رخصة الحيازة أو أية وثيقة معتبرة أخرى، إذ المعلوم أن الإدارة متى منحت منحا صحيحا لم يعهد لها أن تمنح ثانية إلا بعد إصدار قرار بإلغاء المنح الأول أو الحيازة الأولى” وهذا ما أوضحه الحكم القضائي في القضية رقم 07/2005 الصادر عن المحكمة العليا.
مثال حي من الممارسات الخاطئة
من خلال عملية المسح والاستطلاع المباشر التي قمنا بها للوقوف على أبرز النزاعات العقارية التي نجمت عن الممارسات الخاطئة في قطاع التنظيم العقاري صادفنا موضوع النزاع العقاري القائم حاليا بين شركة النجاح المملوكة لرجل الاعمال احمد سالك ولد ابوه وبين بعض الخواص الآخرين وأبرزهم شركة أصول، حيث يعتبر هذا النزاع مثالا حيا يكشف بوضوح الأخطاء المرتكبة في هذا القطاع والتي أشرنا لها آنفا، ولعل أبرزها هو المنح المزدوج للقطع الأرضية والذي كان سببا حقيقيا في استفحال هذه القضية، فبعد اتمام صفقة بيع المطار لشركة النجاح فوجئت شركة أصول وعدد آخر من الخواص بينهم ختو منت البخاري حرم الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله ، بقيام شركة النجاح بوضع اليد على قطع أرضية يمتلكونها في منطقة الحزام الأخضر الذي منح لشركة النجاح بموجب صفقة المطار قبل افراغ حقوق الخصوصيين المكتسبة ، كما ينص على ذلك القانون في حالة ما إذا كانت الدولة ترغب في منح أو استغلال أرض سبق أن تم ترخيصها بوثائق رسمية تثبت ملكيتها لخصوصيين. وقد رفع بعض الملاك قضية ضد الشركة المذكورة أمام العدالة .
ويكشف هذا النزاع العقاري عن سوء تنظيم هذا القطاع وإهمال الإدارة المكلفة وتنازلها عن الدور الذي يجب أن تقوم به كحكم بين الأفراد لا كطرف ، فوزارة التجهيز والنقل، على سبيل المثال، التي أبرمت الصفقة مع شركة النجاح باسم الدولة ربما تكون انحرفت عن صلاحياتها واستولت وتصرفت وكأنها مكلفة بالتنظيم العقاري. وهذا يبدو واضحا من خلال المخطط الذي يحمل رأسية وزارة التجهيز والنقل وشركة النجاح في نفس الوقت.
وهذا الخطأ جعلهم يلغون على الهامش المخطط الذي أصدرته مصالح وزارة الاسكان والعمران والذي هو المرجعية الشرعية في مجال النظام والتخطيط العقاري في البلاد. فالدولة يجب أن تكون دولة القانون وتلتزم الحياد في كل معاملاتها حتى ولو كانت خصما، فالمادة 15 من الأمر القانوني 127/83 تنص على أن الدولة يجب ألا تكون طرفا في أي نزاع يتعلق بالاعتراف لخصوصيين بحق ملكية أرض ما دامت قد مُنحت بموجب رخصة عقارية نهائية بخصوص الأرض محل النزاع، لأن هذه الرخصة هي التي تحدد موقف الدولة من هذه القضية.
أخيرا يمكن القول إن هناك عدة سلبيات وأخطاء رافقت تعامل الجهات الرسمية مع تنظيم القطاع العقاري في موريتانيا كان ضحيتها في الغالب هم الأفراد الراغبين في الحصول على الأراضي إما للسكن أو للاستثمار، وتسببت هذه الأخطاء في إحجام العديد من المواطنين عن التعامل في العقارات خشية أن يتحولوا إلى ضحايا جدد لتصرفات إدارية خاطئة كان ينبغي تقويمها أولا لتضمن حقوق الجميع بما فيهم الدولة نفسها.
بقلم: الحسن ولد حرمة