موريتانيا والعرب واليونان

مما يعاني منه أصحاب الفكر فوق المتوسط أن كتاباتهم تقع خارج الاهتمام العام الذي يسلكه اغلب الناس. فهم في شبه عزلة عن الإجماع رغم ان الإجماع قد لا يكون مصدر الصواب. لقول الله عز وجل: ولكن أكثرهم لا يعلمون، ولقوله وان تتبع اكثر من في الارض يضلوك، وقوله وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين… والآيات في هذا المعني كثيرة. أقول هذا وانا أطالب في موريتانيا بتغيير البنية الخطابية الثقافية التحتية أي عادات الناس وثوابتهم الانتربولوجية ومواقفهم التراثية التي لا تتماشى والعصر والمدنية والتقدم، والتي نراها مستمرة واكثر الناس عنها غافلون.

ذلك ان التنمية الحقيقية ليست في شق الطرق وتشييد السدود وبناء المرافق العمومية فرغم ما لهذه الأشياء من أهمية في تحسين حياتهم الا ان هناك ايضا جانب آخر بحاجة الى الاهتمام وبذل الجهد وهو التوعية الثقافية وتهذيب العقليات وصقلها عن ما ران بها من مخلفات الجاهلية الاولى والثقافات القديمة، مما لا ينبني على العلم و لا على سلطان مبين. وكما قال سقراط لقائد الجيش اليوناني تراسيماخوس بان الشجاعة هي ضبط النفس في حين ذهب القائد الى انها هي الدخول في معمعان المعر كة مما كان له عاقبة وخيمة على جيشه فإننا نقول بالمثل بأن التنمية والتقدم ليست في المظاهر المادية، ولكنها بالأساس في العقليات والسلوكيات الاجتماعية والا ستكون بنية مادية متطورة ولكن بمجتمع افراده مثل الشاب الذي تحدث عنه افلاطون في محاورة اوطفرن وهو شاب جميل جدا الا انه خال من الحكمة جدا وقد قدم اباه للمحاكمة من اجل تهمة شكلية جدا وهامشية جدا.
تكمن التنمية الحقيقية في تنوير العقول وشحنها بالآراء النيرة و الأخلاق الحميدة والسلوكيات الحضارية الراقية، ونحن في موريتانيا نخسر الكثير مما يفوق التصور بفعل قيمنا وسلوكياتنا التي لا تتماشى والحضارة و الجانب الثقافي هو الاصعب في التغيير بينما الجانب المادي يتغير بسرعة و يقال في هذا الصدد ان الظواهر المادية تتغير بمتوالية هندسية بينما تتغير المظاهر الثقافية بحسب متتالية حسابية ويرجع السبب في ذلك ان التغير المادي كما يحدث بسرعة يفسد بسرعة بينما التغير في المظاهر الثقافية فانه اذا حصل فانه سيبقى ردحا من الزمن وتكون له نتائج عظيمة جدا. ولهذا يمكن القول ايضا بان المظاهر المادية تزول وتختفي حسب متوالية هندسية بينما تثبت المظاهر الثقافية حسب متتالية حسابية..

واذا كان الامر كذلك فما هي المظاهر الثقافية التي بحاجة الى الاهتمام في موريتانيا وتمنع التقدم فيه؟ لا شك انها مظاهر كثيرة جدا ترجع الي البداوة التي كنا نعيش فيها. هذه الظواهر منها ما كان ايجابيا ولكنه صار سلبيا ومنها ما كان سلبيا صار ايجابيا . الا انه يمكن القول في هذا الصدد ان موريتانيا ازاء هذه العوائد السلبية في حالة نوم ، بينما كان بالأحرى بها ان تهتم بثقافتها وقيمها فتاخذ منها وترد وتحسن وتقبح. الا ان ما يحدث هو تجاهل الواقع مما يؤدي لا محالة الى ان تكون المخلفات السلبية اعظم، والمعاناة اعظم ايضا فالمرض اذا تجاهله صاحبه ظانا انه سينتصر عليه في الاخير انما يخادع نفسه فيستمر المرض في التطور خفية حتى اذا ضعف صاحبه هرول الى الطبيب ولكن الوقت قد فات. عن هذا المعنى قال الله عز وجل يخادعون الله ورسوله وما يخادعون الا أنفسهم وما يشعرون. انما ينقص في النهضة الحضارية الموريتانية هو انها لم تطرح على طاولة النقد والتمحيص ثقافتها وعاداتها الاجتماعية جهلا او تجاهلا، نسيانا او تناسيا. وفي ظن البعض انها مسائل لا تستحق البحث ويجب تركها لتغيب بعفوية الا ان الأمر ليس كذلك فجهود التنمية تتلاشى كلما كانت ثقافتنا مريضة وقيمنا سلبية.
من بين الثوابت السلوكية التي يعاني منها مجتمعنا هو النأي عن العمل اليدوي وقد تطور هذا الموقف الى حد ازدرائه وازدراء أهله ( أقصد الصناع التقليديين) وساتناول جذور هذه الظاهرة في ثلاث ثقافات.

1 الثقافة اليونانية ان تحقير العمل اليدوي وازدراءه يبدو انه ظاهرة قديمة في المجتمعات القديمة وقد تطور هذا الازدراء ليسلك سبيله الى المعرفة العالمة حيث تواطئت المواقف العامية مع المعرفة العالمة في رفض العمل وازدرائه. ففي الفلسفة اليونانية نظر الى المعرفة الى انها من انتاج العقل والعقل فقط ولذلك اعتبرت التجربة والاحتكاك بالطبيعة عملا لا يليق الا بالطبقات المتدنية من المجتمع فقد خلق بعض الناس للعمل وللطبيعة بينما وجد البعض ليهتم بالامور النظرية وخاصة تنظيم شؤون المدينة وهذا الواقع يجب المحافظة عليه لأنه واقع فرضته الطبيعة ويقول أرسطو في هذا الصدد لو كانت الوشائج تحرك نفسها لما احتيج إلى عبيد. لذلك ظل المنهج الفلسفي منهجا نظريا لأنه لا يقيم وزنا للمعرفة الحسية ولاستقاء الحقيقة من الواقع والتجربة لقد اعتبر أفلاطون من جهته ان العالم عالمين عالم محسوس وهو ظن وخيال والمعرفة الصادرة عنه هي ظن وتخمين وعالم مثالي هو حقيقة والمعرفة المرتبطة به هي المعرفة الاستدلالية العقلية. ومعلوم ان المعرفة خلال عقدين من القرون لم تتطور نظرا لهذه المواقف التي لا تعطي اهتماما للتجربة والواقع المحسوس وانما تطورت المعرفة بعد استخدام الأدوات المحسوسة والاعتماد على العمل اليدوي والاحتكاك بالطبيعة مع قاليي ونيوتن وغيرهما فلم يكن قاليلي في أغلب الاوقات إلا صانعا تقليديا يجتهد في صقل المرايا من أجل الملاحظة الفلكية وتقريب الصور وتوضيحها كما انه عمل تجريبيا لتوفير مكان خال من المقاومة لدحض النظرة الارسطية التي تقول بان الطبيعة تخشى الفراغ.

2 الثقافة العربية في الحياة العربية القديمة ساد هذه التصور وهوالنظر الى العمل كظاهرة محتقرة واستخدم العرب غيرهم من العبيد لتحقيق حاجاتهم من الصناعة التقليدية, ويذكر في هذا الصدد ان الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على دار فشاهد فاسا فقال ما معناه بان هذه ما دخلت في دار الا عرف اهلها المذلة والهوان وقد شكك كثير من الناس في صحة هذا الحديث لأن الوقائع تكذبه فقد كان الأنصار اهل زراعة وعملوا في واحات النخيل واشتغل المهاجرون بالعمل لذلك كان الخلاف بين الزبير واحد الأنصار في كيفية استغلال المياه ليسقيا حقليهما وفي ذلك نزل قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون الآية. كما نشاهد ان الانباط الذين يميل اقتناعنا بأنهم نزحوا إلى موريتانيا حتى أطلق على هذه البلاد بلاد أنبية وعرفت قبائل بهذا الإسم أقول بأن هؤلاء الأنباط أثروا على العقلية الموريتانية فقد امتهنوا التجارة في مقابل احتقار شديد للعمل حتى أن من قوانينهم أن من عمل منهم يقتل . وذلك في تصورهم ليلا يؤسسوا ثروة يمكن للعدو عندما يهزمهم أن يستفيد منها، فاختاروا حياة التقشف وفي بعض الحروب مع الرومان ارسلوا إليهم بأنه ليس من المعقول أن يحارب الرومان شعبا لا يملك شيئا.

3 الثقافة اليونانية في موريتانيا نلاحظ ان العمل اليدوي متمثلا في الصناعة التقليدية لقي معارضة شديدة من المجتمع فاحتقر أهله. و قد عد الموريتانيون بأن الاشتغال بالعمل المهني لا يناسب إلا الطبقات الدنيا من المجتمع وقد أدى احتقار العمل اليدوي متمثلا في الصناعة التقليدية إلى احتقار الاعمال المهنية الأخرى كالزراعة والبناء والخدمة في المنازل وما الى ذلك ان ما نشاهد من البطالة في موريتانيا ليس يرجع الى عدم الاعمال فالاعمال كثيرة لكن القيم التقليدية والثوابت الانتربولوجية تحول دونها. في هذا السياق رحبت موريتانيا في تمثلها للحضارة الراهنة بالظواهر الشكلية فاخذنا من الحضارة بالأشكال وتركنا المضامين لم ناخذ من الحضارة بعدها العملي بل أخذنا البعد الاستهلاكي فالأسواق حافلة بالسلع الاستهلاكية لكن السلع العملية قليلة جدا أي الأدوات والأجهزة الميكانيكية التي تساعد على صنع شيئ ما كذلك على مستوى التعليم أخذنا الاشكال لا المضامين فازدهار العلوم النظرية كالتاريخ والجغرافيا والأدب و الفلسفة وعلم الاجتماع على حساب العلوم العملية هو دليل على ما نقول. ومن استوعب العلوم العلمية فإنه لا يجد بنية تحتية ليعمل فيها وهو أيضا ليس مستعدا ليتخلص من الزي المدني ويدخل في معمعان العمل اليدوي. ان الحضارة عندنا هي العمل في المكاتب وتصفح الانترنت لكن هذا كان يجب ان يكون نتيجة لأعمال وصناعة لا أن يكون بداية ومقدمة.

لا بد من الاعتراف بفشلنا ازاء استيعاب اللحظة الحضارية التي نعيشها ان اجسامنا تعيش في القرن الواحد والعشرون وقلوبنا تعيش في القرن السادس عشر ولهذا تبدو الحاجة ماسة في هذا الوقت اكثر من أي وقت مضى لأن نتساءل كيف نحن وإلى أين؟

الشيخ احمد ولد محمد محمود مفكر موريتانيا

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى