رحلة مع “ألمودات” لكوارب. (تحقيق)

نواكشوط ـ وكالة النبأ الإخبارية ـ تعج شوارع مدينة روصو بعشرات الصبية والمراهقين ممن يطلق عليهم محليا، (آلمود) وتعني بمفهومها العام الطلبة، وبصورة أكثر دقة طلبة الكتاتيب القرئانية.. يقول أحد الراسخين في اللغة (البولارية) إن للكلمة أصول عربية حيث كانت تعني المدة أو المؤبد وهي الفترة التي يقضيها الطالب في خدمة شيخه مقابل تعليمه وإعالته ثم حرفت بعد ذالك
بسبب التداول العامي لتصبح (آلمودا) الاسم شائع على مستوى الضفة، يعرفه الجميع، ولا يلفت انتباه أحد سوى من يتعرضون من طرف هذه المجموعة التي تحمل الاسم للضغط والالحاح في التسول، أو للنشل، والسرقة من طرف أحد أفرادها، بظرافة وسرعة بالغتين تنمان عن ذكاء خارق وشطارة نادرة..إنهم صبية لا تتجاوز أعمار معظمهم، الربيع العاشر وبالكاد الثاني أو الثالث عشر، يتحركون في ساعات متأخرة من الليل، بعد أن ينتهوا من قراءة وحفظ ما تيسر من القرءان الكريم على يد شيوخ محاظرهم، ثم ينطلقون مع طلوع ساعات الفجر الأولى في رحلة السعي للحصو على قوتهم اليومي، فحياتهم مرتبطة بما يتصحلون عليه خلال سعيهم الدءوب خلال ساعات النهار، فكدهم متواصل ، وسعيهم دائب للحصول على أي كان ابتداء بالقنينة أو العلبة الفارغة وانتهاء بما يرمي الباعة وربات البيوت من فضلات طعام، وبقايا اللحوم مرورا بما تصل إليهم أياديهم الصغيرة وأرجلهم السريعة من مواد..يصارعون الزمن، ويكدحون بمثابرة للتحصيل، فمن عاد منهم وسلته خاوية، والتي كثيرا ما تكون في الأصل علبة طماطم أزيل غطاؤها وأفرغت من محتواها، يتعرض للضرب في بعض الحالات وإلا فالتعنيف والسب والشتم لذا لا تكاد تخلو يومياتهم من نشوب عراك بين أفرادهم تارة بسبب فضلات طعام التقطها أحدهم ، وحاول الاستئثار بها فتبدأ المناوشات والضرب والركل ،وفي الغالب تكون من نصيب الأسرع والأبرع في الركل والرفس وأحيانا من نصيب الأكثر سرعة في الجري..
الغريب في الأمر إن المارة في مدينة روصو لا يتدخلون لفض مثل تلك المشاجرات بل يظلون يتفرجون عليهم غير مبالين في معظم الأحيان بأولئك الصبية وما يدور في عالمهم الخاص..
كان تصوري في بادئ الأمر أن عزوف المارة عن فض شجار الصغار والاكتفاء بالتفرج عليهم خشية منهم على جيوبهم ، أو خوفا من أن يحملوا مسئولية للأضرار البدنية التي تنجر عنه دائما، ولكن تبين لي فيما بعد أن الأمر نتيجة التعود على مثل تلك الشجارات والعراك بسبب تكرارهما، لذا لم يعد هناك من يبالي بالأمر، فالجميع يعتبر أفضل أوقات المود تلك الاوقات التي يقضيها منشغلا بالشجار والعراك مشغولا عن سؤال الناس بإلحاحه المألوف والمزعج في بعض الأحيان..بسبب تلك الوجوه الشاحبة والأيادي الممتدة، والتكرار والغلو في السؤال والإلحاح، والتي لا يكاد يخلو منها شارع ولا طريق ولا محطة بنزين ولا متجر أو صيدلية، فأعدادهم كثيرة وأساليبهم متعددة تعدد وجوههم، سؤال ففشل، فخطف بسرعة البرق..
سألت أحد المارة ذات يوم عن هذه الجماعة أين تنام وفي أي مكان تحتمي من برد الشتاء القارس هذه الفترة، أو من زمهرير حر شمامه صيفا، فقال لي هؤلاء هم فئران شمامه، لا ينامون ولا يقيلون إنهم مجموعة من القوارض لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم، يظلون ويبيتون يكنسون الأرض بأيديهم وأرجلهم بحثا عن قطعة نقود ساقطة ، لا تأخذهم سنة ولا نوم يختطفون الرزق من أفواه الناس وينشلون كلما وقعت عليه عيونهم، يتسللون داخل البيوت خلسة ويختطفون كلما وقعت عليه أيديهم.. بادرته قائلا ما مشكلتك مع هؤلاء الصبية المساكين وطلبة العلم الفقراء فأجاب “ليست لي مشكلة معهم ،ولكن قلي هل أنت حديث الوصول الى المدينة”؟ .. أجبته ب”نعم”، فقال تلك الحقيقة ، فعندما تمضي شهرا أو شهرين في المدينة ستعلم حينها هل لي مشكلة مع آلمود؟ أم لا، ثم تابع سيره دون أن يودعني..
حاولت أن اجري حديثا مع أحد أفراد هذه الجماعة سيئة الصيت من أجل استبيان حقيقتها ومعرفة واقع حالها دون ما فائدة إذ يبدو وهذا مجرد ظن، إن مشاييخهم قد أمروهم بصرامة بعدم الحديث إلى أي كان ، سوى بالسؤال أو الاستجداء وإلا فالانتشال والسرقة..

إصرارا مني على معرفة حقيقة هذه الجماعة من أحد أفرادها اعتمدت أسلوب التودد والمحاباة باستخدام الكلمة الطيبة التي ربما لم يسمعها من أحد طيلة حياته ومجاملته مع تقديم بعض الهدايا المتواضعة ومع مرور الوقت شعرت بمفعول ذالك الأسلوب يأخذ مداه من خلال تردده الدائم علي، وتوقفه الدائم بعد استلام عربون الصداقة المتواضع والكلمات الطيبة كأنما يريد أن يبوح بأمر جلل أو معاناة عصيبة ولكني لحظت أن صاحبي ربما يعيش صراعا داخليا يمنعه من ذالك أو خجل مسيطر لم يستطع التغلب عليه بعد، تكرر المشهد لمرات عديدة دون أن أسأله عن أي شيء حتى أتأكد من أنه أصبح على استعداد لتكسير جدار ذالك الخوف أو الخجل، وفي إحدى المرات فاجأته بسؤال يبدو أنه لم يتوقعه، ألمود ، رد قائلا نعم ، ما هي حقيقة أمركم ولماذا انتم
هكذا ؟ فرد قائلا بعد صمت لم يطل ،أنا لا أعرف سوى البولارية أو الفصحى، فأعدت عليه السؤال بالفصحى ، فرد قائلا هل ستحفظ لي هذا السر؟ فقلت نعم ، ولكن عن شيخك فقط ، فلن أذكر إسمك ولا إسم شيخك، فأنا لا أعرفه أصلا وحتى أني لا أعرف إسمك أنت ولن أسألك عنه، إنما غايتي هي معرفة حياتكم الخاصة ومن أجل ماذا تكدحون ليلا ونهارا ، وهل هناك من يشرف حقيقة على تعليمكم ، فرد قائلا بلكنة بولارية أو ولفية الآن فهمت؟ فالألمود هو مجرد طفل يرسله أهله الى شيخ محظرة من أجل تعلم القرءان ودراسة العلوم الشرعية بدون زاد ولا متاع في معظم الحالات وعند ما يبدأ الشيخ دريسه القرءان يكون هذا الشيخ مضطرا إلى وسيلة للإنفاق عليه بسبب أعداد هذا الصنف من الطلبة المتزايد ،وخروجه عن قدرات وإمكانيات الشيخ المادية فيقوم باستخدامهم في تحصيل ما يستطيعون تحصيله بدفعهم الى التحصيل والرقابة على أدائهم عبر طريق واحد هو التسول تحت عنوان تحصيل
العلم.. ويختلف الامر من سيخ إلى آخر ومن محظرة الى أخرى ، فهناك بعض المشايخ يختلف عن البعض من حيث الرحمة بالضغار، والحرص على تعليهم والجد في ذالك، وهذا الصنف من الشيوخ عادة ما يكون طلبته مهذبون لذا تشاهدهم يتسولون ولكن بعفة وهدوء ويرضون بالقليل ويعودون في أوقات مبكرة وينامون في ساعات
الليل الاولى وهذا الصنف عادة ما يستفيد طلبته بسرعة ويتقدمون في
الدراسة ويصبحون فقهاء أو علماء أو مدرسي قرءان، وهناك صنف من المشاييخ ليس في قلوبهم أية ذرة رحمة، ولا رغبة لديهم أصلا في تعليم الآلمود أي شيء سوى قلة حباهم الله بالذكاء وبالقدرة والجد والحرص على التعلم، فهذه الفئة فقط تتمكن مع المعانات والإهانة والكد والسهر الذي يتلقون من التحصيل، أما غيرها فيبقى في الإهانة والمشقة والضرب المبرح لأي سبب وفي بعض الحالات بدونه زمنا طويلا ثم يئول بهم الأمر إلى الانحراف بعد أن يبلغوا سن المراهقة ، وهو النوع الذي تراه يسرق وينتشل ويحتال..

فالألمود الحقيقي لا يسرق ولا يكذب ولا ينتشل ولا يخادع … صحيح أنه
يتسول لأن حياته وتعلمه مرتبطان بمقدار تحصيله الى حد بعيد لأن السيخ ليس بمقدوره إعالة عشرات الصبية والمراهقين لوحده..

ثم أضاف صاحبي ، وهناك نوع آخر من أطفال الشوارع ينتحلون صفة الالمود وهم كثر في هذه المدينة، وهم من تراهم يتشاجرون ، ويسرقون ، وينتشلون، ويتسللون الى البيوت تحت إسم الالمود وعندما يقع أحدهم بيد الشرطة يتضح أنه ليس من الأمود وإنما هو مجرد مراهق جانح أو صبي منحرف لا علاقة له بالمعرفة ولا التعلم ولا شيخ لهم ولا محظرة..

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

ظننت أن صاحبي قد أصبح مهيئا للإجابة على معظم أسئلتي بدون تحفظ بسبب استرساله في الحديث عن المود وصنوفه ولكني لما طرحت عليه سؤالا عن ماهي قريته التي قدم منها وعن عائلته التي ينتمي اليها ، صمت طويلا دون أن ينبس بكلمة واحد ، ثم التفت الي قائلأ هلا أعطيتني عشرين ، قلت له انك لم تجب على سؤالي بعد ، وعندما تنتهي من الإجابة عليه فسوف أعطيك ما طلبت ، نهض بسرعة ثم اختفى بسرعة الالمود المعهودة وتركني..

فهذه هي الصورة النمطية لما يعرف بظاهرة المود في أذهان العامة وفي ثقافة المجتمع ولكن الصورة العميقة والواقع الحقيقي لهذه الجماعة ربما يكون بعيدا عن التداول ومغايرا لحقيقة هذه الجماعة ، وإن أخذ ظل تلك الصورة النمطية المتداولة لدى العامة بعفوية وبراءة، الامر الذي يستدعي الغوص عميقا في خلفية هذه الظاهرة التي لم تعد تلائم العصر ولم تعد مقبولة ومع ذالك مازال الجميع دولة وعامة يتعاملون معها ببرائة وعفوية على اساس انها مازالت كما كانت مجرد وسيلة لطلب العلم والتفقه في العلوم الشرعية مما يستدعي طرح جملة من التساؤلات والإجابة عليها..

فهل يعقل أن يتخلى أحد عن فلذة كبده ويتركه ضيعة في هذا العصر لعشرات السنين دون ما سبب وجيه؟

خاصة أن طلب العلم والتعلم بجميع مراحله وصنوفه تتوفر له كثير المدارس والمعاهد في بلادنا وفي الدول المجاورة؛؛

وهل من المعقول أن يترك هذا العدد الهائل من الاطفال والمراهقين ضيعة وعرضة لصنوف الاستغلال المعنوى والبدني دون تدخل من الجهات المختصة؟

أم أن ثقافة التعاطي مع هذه الظاهرة التي يعد افرادها بالمئات بعفوية
وسطحية في العالم المعاصر دون ما تبصر في أسباب انتشارها وتفشيها يمثل غباء وتخلفا لا مثيل لهما في عالم اليوم؟ خاصة أن هذه الفئة تنشط في مجالات مختلفة وفي أنشطة مشبوهة من أبسطها التهريب من والى الصفة وتستغل لهذا الغرض من جهات مختلفة تمثل خلفية حقيقية لإنتشارها والترويج لها باعتبارها ظاهرة عادية ، لا يفترض بصاحبها أن تكون له هوية محددة ولا جنسية معينة، ولا يسال عن ما يحمل ولا عن ما يخفي ، ولا حتى عن إسمه، ولاأسباب إقامته في هذا البلد فهو المود وكفى..

ومن النادر أن ترى نقطة حدودية توقف أحد أفراد هذه الفئة ، وتحقق في هويته على الرغم من ممارساتهم المختلف ، لسبب بسيط ،وهو تلك الثقافة التي روج لها بعناية وهي أن الالمود طالب علم والجميع يتعاطف مع طالب العلم وعادة ما يكون قاصرا عمريا ، في حين أن العلم مجرد عنوان يتم التستر وراءه لحاجة في نفس من يروج ويستجلب هذه الظاهر ، ويتسغل من أجلها قصرا في معظم الاحيان جيىء بهم من بلدان مختلفة ومن فئة واحدة ولغرض ما ، من أبسطه تسريبهم داخل المجتمع بهويات والقاب مماثلة ومطابقة لألقابهم الاصلية ثم يذوبون بصورة تدريجية لا تلفت الإنتباه..

فمتى يستمر التغاضي عن هذه الظاهر ؟ والى متى يستمر الجميع في امتهان طلبة العلم الشرعي واستغلالهم بصورة بشعة ومقيتة لغايات تتناقض مع الشرع نفسه؟

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى