حصاد الأرز عشر سنين ومازال اليأس مخيما على شمامة والضفة
تتنوع وتتشعب أحاديث المزارعين هذه الأيام، وتتعدد اهتماماتهم وتتزاحم أولوياتهم، مع بلوغ موسم حصاد الأرز ذروته بعد ستة أشهر متواصلة من العمل والجد والمكابدة والخوف والرجاء، معاناة تبدأ مع رمي أول بذرة في تربة الحقول، وخروجها وعندما تنشق الأرض عنها لتتضاعف ويتطور نموها من خلال رعايتها وحمايتها من جميع الآفات الكثيرة المتربصة بها في بئة معادية لبذرة الأرز من أعشاب ضارة، وجراد وطيور وحيونات وقوارض وحشرات تعد بالملايين، وتربة أنهكها الاستغلال الطويل دون أن يتم تقليبها وتسميدها وتخصيبها صناعيا حتى تكون مهيأة للعطاء فالأرض تخصب كما رحم معظم المخلوقات وتحبل وتلد وترضع وتستمر في الرعاية حتى بلوغ الفطام كما يقول بعض الأخصائيين في المجال..
مغالبة الطبيعة ليست بالأمر السهل بسبب المعاناة وقساوة الظروف، لذا يقول بعض المنهمكين في المجال، على المزارع أن يمتلك صبر أيوب، وثراء قارون، وعمر نوح ، دعائم ثلاث فقط لا أكثر ولا أقل لكنها مرتكزات أساسية وضرورية للنجاح في مجال زراعة الأرز في “شمامة” اترارزة، هكذا يقولون عندما تسأل أحدهم عن الحصاد وفوائده المرجوة ومنافعه المفترضة…
وتتضح صورة المعاناة أكثر عندما تتجول بين المزارعين هذه الأيام التي يشتد فيها وطيس معركة الحصاد ويتزاحم الجميع على الحاصدات التي يندر الحصول عليها بسبب كثرة الطلب عليها حيث تلامس تباريح الفرح والسرور على وجوه البعض ممن وفق بعد جهد جهيد في توفير آلات الحصد فبل أيام بينما ترى وجوه أخر تبدو عليها تباريح يأس وحزن بسبب عدم قدرتها على توفير حاصدات قبل نزول الأمطار الوشيك، فالسماء الملبدة بالغيوم هذه الأيام قد تمطر في أية لحظة وهذا ما لا يتمناه المزارعون لأنه يعني الخسارة والإفلاس بالنسبة لهم خاصة ضعيفي ومتوسطي الامكانيات، يأس وأمل يراود الجميع وخوف ورجاء ينتابهم دونما أمل قطعي في توفير مستلزمات حصاد آمن وموثوق قبل نزول المطر..
ولا تقف معاناة ألاء المساكين عند هذا الحد حيث يبدأ نوع آخر من المشاكل يطرح نفسه مثل الحصول على أوعية لمئات الأطنان المكدسة تحت سماء ملبدة بالغيوم قد تمطر في أية لحظة في ذروة موسم الأمطار الذي يظل المنطقة هذه الفترة من السنة، وسداد أجر العمال، والأسمدة والبذور وغيرها من الأمور التي ظلت لفترة ستة أشهر تنتظر الحصاد..
على أرض لا تبتلع ماءها بسرعة قد تطفوا عشرات الآلاف من أطنان الأرز المكدسة بين جداول الحقول أو تجرف بعيدا مع التساقطات المطرية الأولى على تراب سهل شمامة الكنود والخصيب في الآن نفسه، فتتبدد آمال وتضيع مكتسبات ويحل الأسى محل الأمل فيعض رجال أناملهم حسرة ويقلب آخرون أكفهم على ما أنفقوا فيها وهي خاوية على عروشها..
بينما وفق آخرون في جودة الإنتاج نوعيا وهي مسألة مهمة حيث أن قيمة الأرز لا تتحدد من خلال الكم فحسب وإنما من حيث قيمته التي يتم تحديدها عبر مقياس دقيق ينتصب بكل شموخ وصمت أمام المصانع المخصصة للوزن وتحديد النوعية ليقول لهذا المزارع حصادك هذا تصل نسبة جوده الى 50% أو 70% أو أقل من ذالك أو أكثر على مستوى القيمة، ويقابل كل من هذه النسب سعر محدد يرتفع وينخفض تبعا له..
ولكن حذاري من أن يتصور أيا كان أن المسالة مجرد ضربة حظ على الرغم من أنه لا يمكن انكار تدخل الحظ في كل شيء في هذه الحياة ، وإنما الدور الأكبر والأكثر حضورا يتلخص في مدى توفير مستلزمات النجاح مع تقليب أول طوبة في الحقل مرورا بجودة البذور والأسمدة والمبيدات فالمياه ثم الحماية من مختلف الآفات المختلفة فمن خلال جميع تلك المستلزمات تتحدد قيمة المحصول كما ونوعا وانتهاء بتوفير الحاصدات الآلية أو اليدوية في الوقت المناسب، فمن استطاعوا توفير جميع تلك المستلزمات ترى وجوههم اليوم ضاحكة مستبشرة ومن لم يستطع بسبب التكاسل أو الامكانيات تراه يندب حظه العاثر وأداءه الضعيف المتواضع..
وعلى الرغم من النتائج المبشرة لحصاد هذا الموسم، والإقبال الكبير على الزراعة بسب التشجيع والتسهيلات المختلفة المقدمة من طرف الدولة وهيئاتها المتخصصة فان معاناة المزارعين ما زالت كثيرة ومتشعبة بسبب صعوبة الزراعة نفسها إضافة إلى أنها حسب ما يصفها البعض مجازفة بل مغامرة لا يمكن التكهن بنتائجها بسبب كثرة الآفات المتربصة بها حيث تبدأ تلك الآفات أول ما تبدأ من التربة نفسها، فنوعية البذور، فالأسمدة التي لا غنى للتربة عنها لمواجهة الآفات المستوطنة للتربة والتي أصبح بعضها يمتلك مناعة ضد بعض الأسمدة محدودة الفعالية، إضافة إلى نسبة المياه، والأعشاب الضارة التي تحتاج هي الأخرى إلى المعالجة ببعض المبيدات العشبية غالية الثمن نسبيا..
ومع أن الدولة توفر منذ فترة جميع مستلزمات الزراعة الناجحة بما في ذالك القروض الميسرة للبعض، وتضمن شراء المحاصيل من الأرز من جميع المزارعين بثمن يضمن بل ويغري المنتجين بالاستمرار في الإنتاج ومضاعفته تشجيعا لهم، إلا أن سوء تسيير هذه المواد على المستوى المحلي كما يقول بعض المزارعين، دفع ببعض تلك المواد إلى ساحة عالم المضاربات التجارية والزج بها داخل سوق سوداء لا ترحم ضعيفا ولا تعطف على مسكين، لأن هم سدنتها هو تحقيق الربح والربح وحده..
هذه الوضعية المربكة للسوق المحلية للأسمدة والبذور والمبيدات النباتية والحشرية القت بظلالها على واقع الزراعة وجعلتها تكتظ بالكثير من المواد المزورة ومنتهية الصلاحية وفي أحسن الأحوال ضعيفة الفعالية، والتي عادة ما يلجأ إليها البعض نظرا لسعرها المنخفض جدا بالمقارنة مع الأخرى العالية الجودة، الأمر الذي أثر وسيستمر في التأثير على نتائج الحصاد شكلا ومضمونا الى أجل غير معلوم.
من المعلوم أن التعاطي مع زراعة الأرز ينحصر لحد الساعة في التعاونيات القروية، والخصوصيين، وما يعرف بحملة الشهادات، ولكن التعاونيات تستأثر بنصيب الأسد في المجال الزراعي من حيث عدد المنتسبين إليها من الأفراد أما من حيث المساحات المزروعة فيأتي القطاع الخصوصي بعيدا في المقدمة وذالك بسبب الامكانيات والقدرات، ويأتي ما يعرف محليا بحملة الشهادات ثالثا، وتمثل هذه الفئة في معظم منتسبيها نموذجا على الفشل على الرغم من أنها تستأثر بالكثير من التسهيلات والدعم من طرف الدولة حيث قدمت لها الأراضي المستصلحة، والأموال الضرورية إضافة إلى توفير المياه بصورة مجانية مع قروض ميسرة يتم تسديدها عند الحصاد بل أكثر من ذالك فقد تم منح ثلاث بقرات حلوب لكل فرد منها مع بداية الموسم الأول، وراتبا جزافيا يصل مئة الف أوقية لمدة ستة أسهر وهي فترة الموسم الزراعي، وعلى الرغم من كل هذا الدعم السخي والقروض الميسرة والمساعدة المجانية فقد ظل معظم هذه الفئة من المزارعين يتخبط دون أن يحقق نتائج أكثر من احتجاز عشرة أو خمسة عشر هكتار دون ترك المجال لمواطن آخر يستغلها ..
ولعل الأدهى والأمر في الأمر أن تلك العقلية المتخلفة والفاسدة التي يتشبث بها معظم أفراد هذه الفئة والمتمثلة في نهج المراوغة والتحايل ليس على القرض فقط وإنما على أنفسهم أيضا، حيث يلجأ البعض منهم إلى عدم تسديد مستحقات القرض الزراعي هذه السنة بحجة أن هناك آخرين سبق وأن تم إعفاء ديونهم المتراكمة منذ سنوات ولم يصادر القرض أراضيهم، ولم يقم بالحجز عليها أو اتخاذ اجراءات رادعة..
أمور غريبة يتشبث معظم أفراد نخبة مثقفة أتيحت لها فرصة نادرة وتعمل ليلا ونهارا على تبديدها بل الاستفادة منها وتستمر في ذالك النهج منذ سنوات دون أن تنتبه إلى سفاهة نهجها ومسعاها الذي سيؤدي بها في نهاية المطاف إلى إفلاس محقق ليس على المستوى المادي وإنما على المستوى الخلقي أيضا فقد بددوا القروض والأبقار ومازالوا مستمرين في تلك السفاهة، بل أكثر من ذالك بدأ نهجهم المريض يتطاير حتى وصل إلى الخصوصيين والمصنعين تحديدا منهم الأمر الذي جعل الجميع يتحفظ بل يعترض ويرفض التعامل معم وينأى بنفسه عن شراء محصولهم من الأزر بسبب ضعف قيمته وخشية التدليس الذي يمارس البعض منهم الأمر الذي دفع بالعديد منهم إلى اللجوء إلى تأجير أراضيه للخصوصيين وبآخرين إلى الهروب والتخفي عن أعين الدائنين من الخصوصيين وترك أرضه للقوارض والأعشاب الضارة بدلا من استغلالها أو ترك آخرين يستغلونها ويستفيدون منها..
ولعل التسامح المفرط الذي واجهت به الهيئات المعنية خصوصا القرض الزراعي هو ما أغرى أولئك الأفراد بالاستمرار في المراوغة والتحايل وسياقتهم في نهاية المطاف إلى هذه الوضعية الحالية المربكة للجميع مسئولين ومواطنين ومعنيين..
إنها وضعية مأساوية يدركها ويعرفها الجميع ولا يمتلك حيالها أي عمل ولم يوفق أي طرف في الاهتداء إلى سبيل للإنقاذ، فالسياسة المتبعة والمكلفة التي انتهجتها الدولة تشجيعا للزراعة سبيلا إلى الاكتاف الذاتي في مجال الزراعة، والتخفيف من وطأة البطالة المنتشرة بين صفوف الشباب وحملة الشهادات منهم يمكن الجزم اليوم بأنها تتعثر إن لم نقل إنها على شفى الفشل ما لم تتم مراجعتها اليوم بناء على معطيات الواقع والدروس المستخلصة مع مراعاة أن التسامح والتدليل وحدهما ليسا كافيين عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العليا للبد، وإنما لا بد في هذا المجال أن تسود الصرامة والدقة والمتابعة حتى يتحقق المطلوب..
إن واقع حال الزراعة على مستوى اترارزة يتطلب مراجعة شاملة لهذا القطاع بدء بفئة ما يعرف محليا بأصحاب الشهادات، وانتهاء بالتعاونيات الوهمية، التي تسحب مئات الأطنان من الأسمدة والمبيدات وغيرها لتذهب عائداتها في نهاية المطاف إلى جيوب آخرين أبعد ما يكونون عن الزراعة ومن ثم يئول أمرها إلى السوق السوداء، ويبقى المزارع الحقيقي يتسكع أمام خزائن أفرغت في انتظار رد غير مقنع من الجهات الجهوية الوصية على الزراعة..
تقرير/ محمد يحي العتيق