أكجوجت .. “أنتم لستم مدينة؛ تسكنون سفح الجبل وتربون الدجاج “
- لم تجد النجاة بنت مولود ما تقوله اعتزازا بمدينتها حين هاجمها ذلك المسافر الجزائري قائلا: “أنتم لستم مدينة؛ تسكنون سفح الجبل وتربون الدجاج.”
- كان يقول الحقيقة، لأن مدينة أكجوجت عاصمة الولاية المعدنية إينشيري لا تقاس بأدنى القرى التي يعرفها في بلاده من حيث وفرة المرافق المدنية.
- نعم إنها ليست مدينة، ولا تتوفر على أي من معايير المدنية العصرية.
فما يربك السائقين العابرين أول مرة هو المطبات الرديئة التي وضعت على الطريق تحاكي شيئا في بعض الأماكن التي بها مدارس، من أجل تنبيه السائقين للحد من السرعة لحماية الأطفال، لكن المطبات في مدينة أكجوجت صممت بطريقة مستعجلة، تفتقر إلى إشارات للتنبيه وإلى الطلاء الأبيض.
مطبات سوداء مظلمة، تفوح منها رائحة الفساد، ضرها أقرب من نفعها.
لو أن الرئيس الموريتاني مر من هنا يوما لأمرهم بإزالتها، كما فعلها ذات يوم مع أخرى كانت تربك حركة السير في مدينة نواكشوط.
- مدينة تنام على أطنان الذهب والنحاس وفي أطرافها أحياء من صفيح.
-
- لا نقول إن جميع السكان يعيشون هكذا، فمنهم من لديه منازل مريحة وحدائق جميلة، يعيش أهلها حياة أفضل وأنقى من حياة المدن الكبيرة. فمدينة أكجوجت مدينة غنية بالتجارب العميقة، وفيها أسرار وعجائب.
مزرعة الشواببن
- عندما رافقتني دلال في زيارة خاطفة لمزرعة جدها الشوابين ولد لمام الصف، لم أكن أتوقع أنني سوف أرى ما رأيت، فنحن في مدينة أكجوجت عاصمة ولاية إينشري، مدينة معدنية تعاقبت عليها شركات ميكيما وسوميما وسامين وموراك وأم سى أم. شركات تنهب الثروة، وتبث السموم في المجال، طيلة عقود من الزمن.
- مزرعة عجيبة، روضة غناء، كان الشوابين لا يسمح لأي من أفراد أسرته بزيارتها وقت الزوال، وفق تقليد أصحاب المزارع هنا، إلا أن حفيدته دلال هي وحدها التي يسمح لها بذلك لأنها ابنته المدللة.
- اصطحبت دلال معنا في الزيارة الفتى محمود، وهو ابن جارة قديمة للأسرة، أرضعته جدتها الديمانية بنت لفظل، وربته مع أبنائها مثل أخيهم.
هنا ثمار التين، وثمار الرمان، وشجر الموز، والنخل الباسقات، والظلال الوارفة.
مر قرب المزرعة رجل يتلو القرءان بصوت شجي، فنادت عليه دلال، وأعطته بعض ثمار التين ليحملها للأبناء، فتوقف قليلا وقال : “هذه الثمار نقرأ عنها في الكتب ولا نجد فرصة لرئيتها”.
- “حفرت لكم بئراً جنوبيُها سمن وشماليُها تمر”..
عاد آفلواط ولد مولود إلى أهله، وهم حي من أهل الصحراء يسيمون في البلاد بحثا عن الكلأ، وقال لهم : ” اجهرتْ الكم حاسي رَكبتُ زبدة أُسَهوتُ اتْمَرْ” بمعنى : “حفرت لكم بئراً جنوبيُها سمن وشماليُها تمر”.
كان أبناء باركلل حينها في مرحلة التأسيس، كانوا يعملون على إعمار هذه البلاد السائبة التي لا ماء فيها ولا سلطان.
كان آفلواط قد التقى – وفق الرواية القديمة – شيخا كبيرا من سرغلل، وسأله عن الماء، فقال الشيخ الحكيم : “إذا حفرت عند نهاية ظل الجبل وقت العصر بئرا، فإنك ستجد ماء لا يغور”.
وكان آفلواظ يعني بالتمر أرض آدرار التي فيها واحات النخيل، وبالزبدة أرض إينشيري التي فيها المرعى والكلأ.
وفي رواية أن أول من حفر البئر هو عمه مسكة ولد باركلل، وترتكز هذه الرواية على فارق السن الكبير بين مسكة وابن أخيه آفلواط، فمولود وشقيقه الفاظل هما أصغر أبناء باركلل من أمهم بنت النبي المجلسية، تزوجها بعد وفاة أم هانئء زوجته الأولى وهي أم أبنائه الكبار، توفيت بعده أثناء سفره إلى الحج. توفيت ببلدة توات جنوب الجزائر عن أصغر ابنائها بكر وهو رضيع.
الآبار المعروفة الآن في أكجوجت بآبار العرقوب أقدمها بئر اسمه انويب، وهي التي تختلف الروايتان بشأنها، مع أن من بطون أهل باركلل من حفر بئرا خاصة به في أكجوجت.
ويعزز الرواية الأولى أن لمجيدري ولد حبلل سكن أكجوجت وبني فيه بيتا واتخذ حديقة، وكان حينئذ قد صاهر آفلواط على ابنته سلمى ودفن فيه، كما أن سيد عبد الله ولد الفاظل صاهر عمه مولود على ابنته اعزيزة.
ما كان أبعد أصهار المجيدري من منع الزكاة وبخل فيه تلعين
وسيد عبد الله بعد القرب صاهرهم وما الكفاءة إلا الحال والدين
ووارثٌ فقهَ مولود مصاهره وما تصادف منكور ومركون
ورويت للمجيدري مساجلات علمية قوية مع سيد عبد الله ولد الفاظل، حدث بعضها بحضرة آفلواط.
رواية حفر آفلواط لأكجوجت منصوصة أيضا بخط محمد ولد ابياه وابنه محمد سعيد.
- ليس لدينا أستاذ للرياضيات
قال تلاميذ ثانوية أكجوجت – في تصريح لوكالة صحفي للأنباء – إنهم يعانون من نقص كبير في الأساتذة. المترشحون للباكالوريا العلمية شعبة الرياضيات – مثلا – ليس لديهم أستاذ للرياضيات، وبلغ الغضب من هذا الوضع بالتلاميذ أن رشقوا الوالي والعمدة بالحجارة عندما كانا في زيارة للثانوية.
أسر حولت أبناءها إلى بنشاب الجديد حيث التعليم أفضل، ويعتقد بعض السكان أن إفشال التعليم في أكجوجت جزء من مخطط إعمار مدينة بنشاب الجديد. لكن المتابعين المختصين في مجال التعليم ينفون ذلك، يقولون إن فشل التعليم في أكجوجت أمر قديم سبق بنشاب بكثير، وإنه جزء من فشل التعليم على المستوى الوطني، لا غير.
بناية الثانوية بناية خربة، فصولها متهالكة، ومقاعد قاعة الانتظار في الإدارة مشققة يخرج منها الإسفنج.
- الصراع بين إينشيري وآدرار
سكان أكجوجت منقسمون اجتماعيا وثقافيا وسياسيا إلى ثلاث مجموعات متمايزة : أهل آدرار، وأهل إينشيري، ومجموعة أخرى من الوافدين اندمجوا مع سكان المدينة وصاروا الآن هم أهل أكجوجت. منهم من اندمج مع إحدى المجموعتين، ومنهم من حافظ على خصوصيته الاجتماعية الأصلية.
جميع الأحكام التي تعاقبت على السلطة في موريتانيا، تعاملت مع هذا الانقسام وفق مصلحتها هي، لا وفق مصلحة السكان.
كان حكم المختار ولد داداه يميل إلى أهل آدرار، خاصة أيام حرب الصحراء بينما انقلبت الصورة في عهد ولد هيدالة، ثم انقلبت ثانية فترة ولد الطايع، ثم انقلبت مرة أخرى مع ولد محمد فال ومع الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز.
- الويبدة
إينشيري ولاية صغيرة، أهلها متشبثون بالاستقلال عن الجارتين القويتين اترارزة وآدرار، وكانت القضايا الأساسية إلى عهد قريب لا تحل إلا في أطار أو بتلميت، رغم وجود مركز إداري في أكجوجت منذ عهد الاستعمار.
طرحت مسألة الويبدة قضية الحدود بين إينشيري وآدرار بشكل حاد بعيد الاستقلال، وأججت الصراع بين الطرفين. قضية ألقت بظلالها على الوضع السياسي طيلة الفترة التي سبقت حرب الصحراء. فترة كانت الغلبة فيها لأهل آدرار، وتواصلت تلك الغلبة أيام الحرب، واتخذت اشكالا من التنكيل جعلت العديد من أبناء إينشيري يهجرون المدينة، ويلتحقون بصفوف المقاتلين في جبهة البوليزاريو.
- لجواد
زار محمد خونة ولد هيدالة مدينة أكجوجت بعد انتهاء الحرب وجلاء القوات المغربية التي كانت مرابطة في المدينة، وأمر والي الولاية باستدعاء السكان ونقلهم إلى الكم 32 على طريق بنشاب، وتأسيس مشروع زراعي خاص بأهل إينشيري أيام الجفاف. لكن الوالي أوضح للجميع أن المشروع مخصص لثلاث مجموعات قبلية فقط هي : أهل بالركلل، وأولاد اللب، وأولاد بسباع.
أقامت السلطات مشروع لجواد على أساس قبلي بحت، ونُقل الناس إلى المزارع في شاحنات تابعة للجيش، وشَرعت قوة عسكرية في بناء سد في القرية.
قوبل هذا الفصل القبلي باستياء شديد من قبل المحرومين من المشروع : أهل آدرار، وجزء كبير من أهل إينشيري كأهل اتفغ الخطاط، وأهل محمد سالم، ربما بحجة أنهم ليسوا من السكان الأصليين للخط الساحلي الذي أقيم فيه المشروع، لا ندري.
لكن المسألة خلفت جرحا عميقا بين السكان، فما هاج الضغائن من حبيب كإيثار الحبيب على الحبيب.
خاصة أن المستفيدين الذين خصهم الرئيس ليسوا من أهل الزراعة المروية أصلا، ولا يعرفون إلا زراعة مطرية موسمية في دمان ولمدنة ولخليج، كان أهل آدرار يشاركونهم فيها.
عرف مشروع لجواد ازدهارا منقطع النظير خلال فترة وجيزة، فترة عصيبة في مدينة أكجوجت حيث كانت جل الخدمات العمومية معطلة بسبب ضعف النشاط المعدني لشركة سامين العربية.
اكتسحت المنتجات الزراعية القادمة من لجواد سوق أكجوجت منافسة منتجات الحدائق، وأدباي، ولمبيطيح، وكذلك الخضروات المستوردة من آدرار.
وكان الناجحون في مسابقة الإعدادية من لجواد متفوقون في الدراسة على باقي تلاميذ الولاية.
سيطر أهل إينشيري فترة ولد هيدالة على المدينة وعلى الشركة، فكان الوالي أحمد ولد الطلبة منهم، واكتتبت شركة سامين التي تعمل باللغة العربية العمال منهم، إلا أنها لم تكتتب أطرا أكفاء من الولاية، ولم تتمكن طيلة الفترة التي قضتها في أكجوجت من إنتاج كيلوغرام واحد من المعدن.
- الثـأر
وما إن وصل ولد الطايع للسلطة حتى قام بإجراءين عرف الناس من خلالهما أن الأمور تغيرت : أولهما تعيين محمد السالك ولد هيين، وهو من أهل آدرار القاطنين في أكجوجت، مديرا عاما للشركة الوطنية للصناعة والمعادن اسنيم، وثانيهما هو قطع الماء عن مزارع مشروع لجواد، فجفت الحدائق الغناء وواحات النخيل الجميلة أمام أعين أصحابها.
وقد شب حريق هائل في المحطة المركزية للكهرباء في أكجوجت وتعطلت بالكامل، وذلك ماحطم آمال المزارعين في عودة ضخ الماء إلى مزارعهم.
ثم توالت الضربات بعد ذلك على أهل إينشيري، وعادت الغلبة لأهل آدرار ودامت عقدين من الزمن، فكان ولد الطايع يتخذ من منزل موريس بنزا مقر إقامته في أكجوجت، ورشحه لمنصب النائب، ثم عين أخاه أحمدو ولد ميشل وزيرا في حكومته.
- الثروة
وفي تلك الأثناء عاد النشاط المعني إلى مدينة أكجوجت مع شركة موراك 1991-98، وبعدها أم سى أم 2004-2018، واستفاد أهل آدرار من عقود طويلة الأمد مع الشركة بفضل النفوذ الذي حظى به زيدان ولد احميده وزير المعادن وحليفه النائب موريس بنزا لدى ولد الطايع. عقود استفاد منها أبناء المان، وحماني ولد اهميمد، وأبناء بتار، ودداه ولد البح، جميعهم من أهل آدرار القاطنين في أكجوجت.
وحرمت المقاولات والوظائف الكبيرة لدى الشركة على أهل إينشيري، وعمهم الاستياء من الوضع، وهاجر أغلبهم إلى نواكشوط بحثا عن وسائل العيش.
كانت شركة موراك نهاية عهدها قد قررت اكتتاب اربع مهندسين، فترشح للمسابقة مئات من الموريتانيين من شتى الولايات. وبعد فرز الملفات والمقابلات الشفهية بقي منهم أربع فائزين كلهم من أهل إينشيري. ثلاثة منهم من أهل باركلل هم الشيخ ولد بدة، وأحمد بزيد ولد الحضرامي ولد بولرياح، ومحمد المامي ولد حبيب الله، ورابعهم مهندس من قبيلة أهل الحاج. وقيل حينها أن ذلك لم يرق للقائمين على الشأن السياسي آنذاك وجمدت المسألة. وقيل لهم إن أسعار الذهب تراجعت، وتراجعت الشركة عن قرار الاكتتاب.
فاستخدم أهل إينشري تلك المسألة في الدعاية ضد الشركة التي كان جل أطرها ينتمون إلى المحيط الاجتماعي لرؤساء الحكومة ذلك العهد. لكننا وجدنا أن الأمر كان طبيعيا ؛ فموراك لم تحصل على التمويل اللازم لمتابعة المشروع، فانسحبت ببساطة.
الإطار الوحيد من سكان أكجوجت الذي حصل على وظيفة سامية في شركة موراك هو حامد ولد الديك حين كان مديرا للأشخاص.
ولما أطاح الثنائي اعلى ولد محمد فال ومحمد ولد عبد العزيز بولد الطايع، بدأ أهل آدرار يدفعون ضريبة الولاء لولد الطايع، وعادت الأمور – وإن ببطء – لصالح أهل إينشيري، لكنهم تنفسوا الصعداء لفرط ما عانوه من إقصاء وتهميش في مدينتهم. ثم بدأت الضربات الموجعة تتوالى على أهل آدرار من قبل النظام الجديد.
اتهم نظام الفترة الانتقالية أطر اسماسيد بالتآمر ضد الدستور، وسجنوا ثم أطلق سراحهم دون محاكمة، وزج بزيدان ولد احميده في السجن بتهمة الخيانة العظمى مع وودسايد، تهمة مماثلة لتهمة باب ولد سيد عبد الله بشأن الأحواض الناضبة مع السنغال أيام ولد الطايع، ثم أطلق سراحه دون محاكمة. كما زج برجال أعمال اسماسيد أيضا في السجن وأطلق سراحهم بتسوية مع الشيخ محمد الحسن ولد الددو دون محاكمة.
لم يتدخل نظام ولد عبد العزيز بداية أمره في الصراع المحلي في أكجوجت بين أهل آدرار وأهل إينشيري كما أنه لحد الساعة لم يغير شيئا يذكر في مسألة تقاسم الثروة المعدنية والمائية، والمنافع المستفادة من الشركات، إلا أن عالي ولد الدولة نائب بنشاب وحده حصل على عقد لعشر شاحنات ضمن أربعين شاحنة تستأجرها الشركة لحمل المعادن إلى نواكشوط.
أما بخصوص الثروة المائية فإن ولد الطايع كان قد عطل الأحكام القضائية المتعاقبة التي صدرت لصالح امام ولد صلاحي ضد سيد احمد ولد اكريستوف (مياه الشافي المعدنية)، كما عطلها قبله محمد خونة ولد هيدالة في نهاية حكمه، إلا أن ولد هيدالة عرض صلحا على ولد صلاحي ولم يقبل به.
هكذا أصبح أهل آدرار أوفر حظا من أهل إينشيري في تقاسم الثروة المعدنية والمياه.
- القسمة
لكن النظام تدخل لاحقا من أجل إعادة توزيع المناصب السياسية بشكل يجعلها حكرا على أهل إينشيري، وذلك ما تحقق في الانتخابات الأخيرة التي بلغ الصراع فيها ذروته بين أهل إينشيري وآدرار.
مشروع أشرف على بدايته محمد ولد امربيه ولد عابدين حين كان أمينا اتحاديا للحزب الحاكم، ونفذه بعده الثنائي أحمد باب ولد اعليه رئيس الغرفة التجارية، وأحمد باب ولد الشيقر رئيس لجنة الصفقات العمومية.
هكذا انتزع ولد عبد العزيز من أهل آدرار جميع المناصب السياسية لصالح أهل إينشيري، لكنه ترك لهم الاقتصاد، فسكتوا وسكت أهل إينشيري، لكنهم جميعا غير راضين، أهل إينشيري يطالبون بحصتهم من الاقتصاد، وأهل آدرار يطالبون بحصتهم من السياسة.
- بنشاب
ولد عبد العزيز مولع بتشييد المدن الجديدة : انبيكت لحواش، تن مسه، الشامي وأخيرا بنشاب الجديد.
لا نقول إن مدينة بنشاب الجديدة تشبه مشروع لجواد في كونها تأسست على معيار قبلي بحت، لكنها تشبهها من حيث الارتباط السياسي بالنظام الحاكم. المسؤولون الحكوميون مدركون لتلك الحقيقة، فالخدمات العمومية أنجزت في وقت وجيز إرضاء لولد عبد العزيز، ولا ندري هل يخشى سكان أكجوجت من أهل آدرار أن يكون بنشاب الجديد حكرا على قبيلة أولاد بسباع، كما كان مشروع لجواد في السابق حكرا على قبائل : أهل باركلل، وأولاد اللب، وأولاد بسباع.
لكن بنشاب اليوم هو المكان الوحيد في ولاية إينشيري الذي يحظى بالظروف الموضوعية المثلى لمستقبل واعد. مدينة تطفو على مصدر دائم للماء المعدني العذب، في أرض خصبة لها إطلالة على المحيط عبر ميناء تانيت، ولا تعاني من خطر التلوث جراء الاستغلال المعدني المفرط الذي يهدد سكان مدينة أكجوجت.
مستقبل واعد سيتحدد أكثر مع اكتمال الطريق الذي يربطه بنواكشوط، وآخر بطريق نواذيبو والبحر.
- مشروع الإغلاق
يجري الحديث الآن في مدينة أكجوجت عن مشروع إغلاق الشركة سنة 2023، يجري التحضير له خلال السنوات الأربع القادمة، كما يجري الحديث أيضا عن مشروع التمديد، وتجديد العقد إلى سنة 2029.
ومهما يكن من أمر، فإن إغلاق الشركة هو إغلاق لمدينة أكجوجت، لأن الأمر يعني الوقف الفوري لضخ مياه بنشاب، إلا تولت الحكومة حينها التكلفة العالية لضخ الماء مسافة 100 كم. ويعني انقطاع الكهرباء، وهجرة السكان جراء البطالة.
ومشروع التمديد كذلك هو مشروع إغلاق للمدينة، جراء التلوث الناتج عن مضاعفة النشاط المعدني.
مدينة تهددها أيضا من الشرق أطماع الشركات الكبرى في حديد جبال لكليتات حيث غرقت شركة بومي 2012. راحت ضحية الصراع بين أهل إينشري وأهل آدرار، فآل أمرها إلى المحاكم الفرنسية في باريس.
تقول شركة أم سى أم إن مزاياها على المدينة لا تحصى، وتدعي أنها تخطط للرحيل دون أن تترك آثارا ضارة بالمجال البيئي للسكان، وأنها عاكفة على مشارع تنموية مستدامة من أجلهم بعد الرحيل.
تقول الشركة إنها أنفقت في الولاية ما يناهز 50 مليون دولار في الفترة ما بين 2010 و2015، أربعون مليونا منها في “المنشآت الطرقية”، وإن لديها ألف عامل نصفهم من أهل أكجوجت، إضافة إلى 540 وظيفة غير مباشرة.
وتقول أيضا إنها أهلت مستشفى المدينة بكلفة 627 مليون أوقية قديمة سنة 2010، وساهمت في تسييره لمدة 18 شهرا بمبلغ 133 مليون أوقية.
لكنها لا تدعي إنفاقا كبيرا في مجالات التعليم، والتكوين، والزراعة، والبيئة، إذ لا يتجاوز الإنفاق عليها مجتمعة 700 مليون أوقية قديمة طيلة خمس سنوات، وفق المصادر الرسمية للشركة.
أما الطريق والعمال، فتلك ضرورة العمل. وأما ترميم المستشفى، فهو بناية كانت قائمة من عهد سوميما. وطلاؤها، وتركيب الأبواب والنوافذ، لا يبرر حجم هذا الإنفاق. كما أن الـ 133 مليون أوقية الأخرى، إذا قسمت على الفترة المذكورة تكون 738 ألف أوقية قديمة للشهر، فهذه لا تسمن لا تغني من جوع مستشفى رئيس، في مدينة معدنية يتقاضى واحد من عمالها ضعف هذا المبلغ كل شهر.
- يبيعون بالخسارة
أم سى أم هي أول شركة معدنية بعد موراك تجني أرباحا من الاستغلال المنجمي في مدينة أكجوجت. جميع الشركات التي استغلت النحاس غرقت جميعها في أوحال المصاعب الفنية والخسارة المالية الفادحة.
فلما أخفقت شركة ميكيما الفرنسية التي أنشأت سنة 1953 في استغلال النحاس تنازلت عن المشروع لصالح سوكيما التي أدخلت رؤوس أموال أمريكية وكانادية، لكنها فشلت هي الأخرى، وانسحبت بالخسارة سنة 1965.
ثم تأسست شركة سوميما 1967 وبدأت الاستغلال ،1970 وكانت هي الخاسر الأكبر. كانت شركة عملاقة أقامت بنية تحتية متينة في ظرف وجيز : شبكات الماء، والكهرباء، والصرف الصحي، شركة كانت تنفق على أهل المدينة بدون حساب.
كان هدفها الأصلي هو تجربة لآلية الاستغلال المعروفة باسم توركو، فتحقق لها ما أرادت، لكن العملية كلفتها أموالا طائلة جراء تذبذب سعر النحاس والمصاعب الفنية. فإنها لم تقرب من الانتاج المتوقع 25000 طن إلا سنة 1973 حيث بلغ الانتاج 23000 طن. سنة تراجعت فيها الخسارة بسبب ارتفاع سعر النحاس حيث وصلت مليونا ونصف المليون من الدولارات، بعد أن كانت الخسارة 15 مليون دولار سنة 1972.
وعندما عادت أسعار النحاس إلى الهبوط مجددا 1974 زادت الخسارة، فقرر ملاك الشركة التنازل عن المشروع لصالح الحكومة الموريتانية 1975، فتابعت الشركة الوطنية للصناعة والمعادن اسنيم استغلال المنجم بخسارة بلغت 60 مليون فرنك فرنسي سنة 1977. كانت الحكومة تتحمل الخسارة من أجل البقاء على مواطن الشغل إلى غاية 31 مايو1978 قبيل الانقلاب على نظام ولد داداه وانتهاء حرب الصحراء.
تلى ذلك التجربة الفاشلة لسامين، وجاءت بعدها موراك التي كانت تشغل فرنا صغيرا و200 عامل فقط، إلا أنها كانت تنتج 150 كلم من الذهب الخالص كل شهر.
- أعوان الاستغلال
تقول مصادر وكالة صحفي للأنباء إن الشركة الحالية أم سى أم أظهرت في بداية أمرها استعدادا كبيرا لتمويل مشاريع هامة لصالح المدينة والسكان، لكن الموظفين الموريتانيين المتنفذين لدى الشركة – وتذكرهم المصادر بالاسم – يقفون دائما حجر عثرة أمام ذلك.
حصنوا الشركة من ولوج الأطر الأكفاء الذين لديهم تجربة في مجال المعادن حتى لو تفوقوا في امتحانات الاكتتاب، ويستبدلونهم بآخرين أدنى خبرة ومستوى، ليست لهم تجربة في المجال كي يقعوا تحت قبضتهم، مرغمين على الانصياع لأوامرهم، فتراجعت بسبب ذلك استفادة المدينة وأهلها.
حامد ولد الديك على سبيل المثال كان من أكبر المتضررين من سياسية الإقصاء تلك، حيث كان يتمتع بكفاءة عالية في إدارة الأشخاص وتجربة قوية مع موراك، كان يرغب بالعمل في أكجوجت مع أم سى أم في أي وظيفة تليق به، لكن أعوان الاستغلال حرموه من ذلك.
وعندما بعثت الشركة 2012 مديرا جديدا لإصلاحها، وقرر بناء حي جديد للعمال عوضا عن ترميم المنازل القديمة بحجة بسيطة هي أن تكلفة الترميم تعادل أو تزيد على تكلفة بناء حي جديد، لكن الأعوان الموريتانيون وقفوا حجر عثرة أمام ذلك، واختلقوا الأعذار مدركين أن استفادتهم المباشرة أكبر وأسرع إذا قسموا المقاولات الصغيرة على الوجهاء المحليين لإسكاتهم، بدل مشروع متكامل يخضع لمعايير المناقصات في مجال الأشغال العامة. فأقنعوا بذلك الطرف الأجنبي، ومرت المسألة.
لم يراعي مشروع الترميم هذا الجانب الاجتماعي للأمر، تجاهل محنة السكان الذين طردوا من المنازل التي سكنوها من عهد سوميما، ورميت أمتعتهم في الشارع. وبعدها طُلب من النساء تنظيف تلك المنازل، وطلب من الرجال طلاءها، بمقابل.
وعندما قطعت الشركة خطوات كبيرة في إنشاء خيرية مماثلة لخيرية اسنيم وعبأت الموارد المالية اللازمة لذلك، كان الأعوان الموريتانيون هم أنفسهم من عرقل المشروع. وهم أيضا من عرقل مشروع إعادة تشغيل شبكة الصرف الصحي التي بقيت جاهزة من عهد سوميما، وأقاموا عوضا عنها خزانات تقليدية تشكل الآن مستنقعا للبعوض والجراثيم، تطفو على السطح أيام السيول.
أمثلة كثيرة.. وقصص يرويها السكان بأسف وامتعاض.
كان في العهد القديم أعوان الاستعمار أشد على الناس من المستعمرين أنفسهم، وأعوان أم سى أم اليوم هم أعوان الاستغلال، وهم – لفرط تزلفهم – أشد على الناس من أم سى أم نفسها.
- السكان
السكان الأصليون لمدينة أكجوجت من أهل إينشيري ينتمون في الغالب إلى قبائل أهل باركلل، وأولاد اللب، وأولاد بسباع، وأهل اتفغ الخطاط، وأهل سيد محمد، وأهل محمد سالم، جميعهم كانوا يعيشون في مجال يمتد شمالا إلى أرض تيرس، وجل اعتمادهم على الثروة الحيوانية والتجارة.
أما السكان الوافدون من آدرار، فأغلبهم ينتمون إلى قبائل أولاد آكشار، وأولاد عمني، وأولاد غيلان، وإديشل، واسماسيد، كان جل اعتمادهم على زراعة النخيل والثروة الحيوانية والتجارية.
وتنتمي مجموعة أهل الحاج من الناحية الاجتماعية والسياسية إلى أهل آدرار وإلى أهل إينشيري في آن واحد.
أدى التعايش في مدينة أكجوجت الى استفادة كل مجموعة من قيم وثقافة المجموعات الأخرى ؛ ونتج عن ذلك ثقافة جديدة.
القادمون من أدرار يحملون قيممعهم قيما مدنية عمرانية غنية بالخبرات في مجالات البناء، والزراعة المروية، والتغذية. وهم أكثر ارتباطا بقيم المدينة كحق الجار، وحق المسجد، والتوثيق، وتقدير العمل، وتسيير الأسواق، بينما حمل الآخرون معهم قيم أهل الصحراء وطبائعهم. فيم وطبائع يصعب على أهلها التأقلم مع حياة المدينة.
فعادات وتقاليد المجتمع البدوي تختلف اختلافا بينا مع قيم المجتمع المدني.
مراسيم الزواج، والاحتفالات بالأعياد الدينية، مختلفة تماما بين المجتمعين المتمايزين. وسرعان ما أفرز التعايش في المدينة وضعا جديدا نتجت عنه ثقافة جديدة، هي مزيج بين الثقافتين. وسرعان ما بدأ تدبير الشأن العام يطرح تحديات سياسية جديدة.
- السياسة
كانت الإدارة الفرنسية تدبر الشأن العام من خلال رؤساء القبال وتمدهم بالسلطة اللازمة لتنفيذ أوامرها. وضع تعاملت معه الإدارة الوطنية الحديثة وحولته لصالحها. فحافظت لرؤساء القبائل على قدر كبير من التقدير والاحترام، وتعاملت معهم كممثلين للشعب باعتبارهم وجهاء، لكنها جردتم من جميع مظاهر السلطة كحمل السلاح في الأماكن العامة، التي أصبحت حكرا في الدولة الحديثة على السلطات الإدارية والعسكرية الناشئة.
أحمد ولد كركوب وحده هو الذي كان يسمح له بحمل بندقية.
ولما أظهر أبناء الأسر التي كانت تتصدر المشهد السياسي أيام الاستعمار طموحهم السياسي كأبناء أحمد مسكة وأبناء عابدين، من أهل إينشيري وأبناء كركوب من أهل آدرار، وانخرطوا في الحركات والأحزاب السياسية، منحتهم السلطة الوطنية امتيازات تتناسب مع كفاءاتهم، فعينت منهم وزراء وحكام وقادة على المستويين الوطني والمحلي، فتعززت بذلك مكانتهم في المجتمع.
كان أبناء الزعماء التقليديين هم أول من استفاد قسرا من التعليم العصري. وأدى ذلك إلى بقاء البنية السياسية للمجتمع على حالها.
ولما دخلت الحركات السياسية على الخط في نهاية الستينات وبداية السبعينات زادت الأمور تعقيدا، فأخترق “الكادحين” والناصريون بعدهم قبائل الزوايا، واخترق البعثيون قبائل العرب حملة السلاح، إذ كانوا يخططون للوصول للسلطة بالقوة. فطغت المحاولات الانقلابية على المشهد السياسي برمته وتراجع الصراع الجهوي بين أهل إينشيري وأهل آدرار إلى إدني حد له في الأربعين سنة الماضية.
فترة اعتنق الشباب فيها أفكارا تمجد الحرية والمساوات، وتنبذ الجهوية والقبلية، وتصف بنية المجتمع التقليدي بالرجعية وتثور عليها.
- الخارطة
تختار كل مجموعة قبلية مكانا خاصا من ولاية إينشيري، تجعله قبلة لها في المواسم الانتخابية من بداية العهد “الديمقراطي” إلى اليوم.
يتخذ أولاد بسباع من بنشاب والعصماء مكانهم المفضل لإقامة مكاتب التصويت ونقل الناخبين، بينما يتشبث أهل باركلل بدمان وبرجمات كمكاتب محسوبة عليهم إضافة إلى بعض المكاتب في أكجوجت. اجعيرينية وتنمجوك محسوبتان على أولاد آكشار وأهل اتفغ الخطاط، أما أهل الحاج فكانوا يحرصون على التصويت في مكتب الويبدة لكنهم في الانتخابات الأخيرة حولوا وجهتهم إلى مقاطعة تيارت في العاصمة نواكشوط، وقد أنشأ في الآونة الأخيرة مكتب في لحريشة محسوب على قبيلتي لادم وأولاد اللب.
أما الناخبون المحسوبون على أهل آدرار فيتمركزون في مكاتب المدينة. يقولون إنهم هم الناخبون الحقيقيون، يخرج الواحد منهم من منزله ويدلي بصوته في المكتب المجاور، في حين يكون أهل إينشيري منشغلون بنقل الناخبين وضيافتهم.
الصراع في مدينة أكجوجت بين أهل إينشيري وأهل آدرار صراع عقيم، راحت حقوق الناس ضحية له، وما استفاد منه إلا أعوان الأنظمة وشركات المعادن.
مدينة مستقبلها غامض، تواجه خطر التلوث جراء الاستغلال، وخطر الهجرة جراء الإغلاق.
لكنها في الحاضر مدينة عتيقة، فيها كنوز ومعادن، غنية بالقيم، تفوح منها رائحة التاريخ عطرا، فيها شيء من تضاريس بغداد أو مكة المكرمة.
سيد احمد ولد مولود لوكالة صحفي للأنباء – تاريخ النشر 17 نونبر 2018-
- تحقيق وصور مرخصة بالكامل لكافة الصحف والوكالات.