نعرف مسعود…فماذا عن “المبادرة”..؟!

كان على السيد مسعود ولد بلخير أن يقدم مبادرته للأطراف السياسية المحلية، كما تقدم أوراق الامتحان في المسابقات الوطنية، للتصحيح من طرف “سكرتارية” الامتحان، التي تضع رقما سريا على ورقة كل متسابق وتقطع رأسها حتى لا يظهر اسم صاحبها- أورقمه- للمصححين، خوفا من الغش والتحايل و”سرقة التقاط”، فيعلن أن لديه ورقة “مقطوعة الرأس” مقدمة له على شكل “مبادرة” من مجموعة أشخاص طلبوا منه الإعلان عن هوياتهم لاحقا..!!

إن السياسيين عندنا هم جزء من مجتمع يهتم بالأشخاص أولا قبل الاهتمام بمواقفهم ومواقعهم، ويحدد موقفه منهم على ذلك الأساس، و بالنظر إلى ماضي العلاقة التي تربطه بهم وحاضرها، والحمد لله أننا عكسا للكلاب نسرع خلف “الرامي” ونترك “الرمية”، ومن هنا بالضبط جاءت مشكلة مبادرة مسعود ، الهادفة – حسب صاحبها وحزبه ومعاهديه – إلى تجاوز الأزمة السياسية القائمة في البلاد.

إنني أستطيع القول – دون شعور بالحرج – إن معظم الأطياف السياسية المحلية لم تكلف نفسها عناء دراسة المبادرة وتدبر مابين سطورها، ولست بحاجة لإعطاء “منسقية المعارضة” كمثال على ذلك، فقد وعدت بدراستها جماعيا، واتخاذ موقف نهائي منها، ثم قيل إن كل حزب من أحزاب المنسقية سيدرسها بمفرده، على أن يكون الموقف منها موحدا، ولحد الساعة فإن الارتباك والانتظار والتحفظ، كلها تحكم موقف “المنسقية” من المبادرة، فحتى الدعوة لحضور حفل الإعلان عنها أبرزت ذلك الارتباك والانتظار والتحفظ، حيث وجهت الدعوة للأحزاب بأسمائها وصفاتها، وليس باعتبارها منسقية موحدة، فكان أن لبت بعض أحزاب المنسقية الدعوة، وحضرت بقياداتها العليا، واكتفت أخرى بإيفاد قيادات من الدرجات الدنيا، وفضلت أخرى عدم الحضور، فبقيت مقاعدها شاغرة..!!

لقد حوكم مسعود سياسيا عند طرحه للمبادرة( كانت المبادرة بالنسبة للطيف السياسي المحلي أشبه بالدواء الذي يحمل “نوتيسا” – هو مسعود بشخصه وتاريخه السياسي – وفى هذا “النوتيس” من “موانع الاستعمال” ما يجعل استعمال هذا الدواء أقرب للانتحار منه إلى علاج ترجى منه نتيجة موثوقة)، فانشغل خصومه بعيوبه، وافتتن حلفاؤه بمحاسنه، وضاعت المبادرة بين “عين سخط” مغلقة تماما عن النظر إلا إلى مساوئها ( فهي يجب أن تكون سيئة مادام مسعود هو صاحبها)، وبين “عين رضى” مفتوحة على محاسنها لدرجة تجاوز الحاجب،( فهي لابد أن تكون أكثر من حسنة مادام صاحبها هو الزعيم مسعود)..!!

وبهذا المعنى فالمبادرة لم تطرح لا سرا ولا علنا، ولم تدرس لا من طرف الأغلبية، ولا من طرف المعارضة، فالذي طرح سرا وعلنا هو شخص مسعود ولد بلخير، وما يحيط به من مجد (لدى حلفائه)، وما يلف مواقفه من غموض (لدى غرمائه)..!!

والذي تمت دراسته هو مسعود، حيث اعتبرت مبادرته – من طرف خصومه – مناورة لكسب الوقت، ومظاهرة لنظام عزيز، واستباقا للمستقبل الانتخابي لكي يبقى صاحب المبادرة وفق تفاهمات قادمة رئيسا للبرلمان، ويستمر التمكين له ولمقربيه في الأرض و”البحر” ونظر إليها – من طرف حلفائه – على أنها “بالون الأوكسجين” الضروري لإنعاش المشهد السياسي المحلي وإخراجه من نفق الأزمة، ولابد أن تحقق هدفها لما لصاحبها من حكمة سياسية، وحنكة معهودة في التعاطي مع الشأن السياسي المحلي..!!

لقد عرف السياسيون – هذه المرة – المبادرة بمسعود، ولم يعرفوا مسعود بالمبادرة، ولذلك ضاع محتواها إذا كان لها محتوى، وضاعت ضرورتها إذا كانت لها ضرورة، وضاعت أهميتها إذا كانت لها أهمية، وانشغل الجميع بدلا منها بمسعود الذي رأوا فيه رجلا انتهازيا، قلب بالمعارضة ظهر المجن طويلا، وله ثارات مع زعمائها، وحقوقيا نكص على عقبيه، ومناضلا تحول من الخنادق على الفنادق وشخصا ابراغماتيا يرفع شعارات جامعة للحصول على مكاسب شخصية، وأحيانا مكاسب يفيض منها على خلصائه ومقربيه، كما حدث في الحكومة التي دخلها صفقة و”طبخة” أيام الرئيس الأسبق سيدي ولد الشيخ عبد الله هنا، ورأوا فيه الموريتاني الصبور الذي عرف بالتجربة أن المجتمع الموريتاني عصي على التفرقة، وتتطلب وضعيته النضال من اجل الوحدة والسلم والتعايش والنظر إلى المستقبل، والرجل الصريح الواقعي الطموح الذي بفضل بعض خطواته تجاوزت البلاد مراحل صعبة، وقويت لحمة الجسد الوطني وابتعد “الأصبع” الآثم عن “زناد” أوضاع محلية متأزمة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا هناك..!!

انه علينا البحث عن المبادرة، لا عن مسعود الذي نعرفه جيدا ونعرف ماله وما عليه في الساحة السياسية الوطنية، عبر مساره النضالي الذي يراه البعض متذبذبا إلى الأسفل، كمنحنى الدخل الفردي للمواطن الموريتاني، ويراه البعض سالكا سويا، كالصراط المستقيم..!!

كفانا قراءة لمسعود، ولنمنح بعض الوقت لقراءة مبادرته، ومحاولة فهمها وتدبرها، فإما أن تصادف هوى في أنفسنا فنعمل بها ونوافقها، ونحن بحاجة لأي شيء ينقذنا من الوضع الحالي (الغريق يتشبث حتى بأعنف الحيتان وأشدها بطشا وقوة وفتكا طلبا للنجاة إذ لا وقت لديه لانتظار الدلفين فالموج مرتفع والبحر مظلم والموت يخيم بشبحه البغيض على الأفق كله) وإما أن نكتشف أنها لا تصلحنا ولا تصلح لنا، وبالتالي نتركها جانبا، ونبحث عن صيغة أخرى من صيغ الوفاق الوطني..

يجب أن لا تحجب “سيئات” مسعود ما يمكن أن تختزنه مبادرته من محاسن، كما انه لا ينبغي بالمقابل أن تحجب “محاسن” مسعود ما يمكن أن تنطوي عليه مبادرته من خموش قبيحة..

إن أسوأ شيء أن نقتل هذه المبادرة لمجرد أنها من شخص لا يعجبنا سياسيا، أوأن نطبل لها لمجرد أنها من شخص نتمسح به طلبا للبركة والسؤدد..

لنقرأ المبادرة أولا، متجردين من “محيط” الغلو و “مخيط” التطرف السياسي، ثم لنحكم عليها بعد ذلك فليس من الإنصاف إهمالها فهي على الأقل تدخل تحت طائلة “جهد المقل”، الذي علينا تقديره والنظر إليه بعيدا عن التعصب والحزازات السياسية التي تقادم عليها العهد..

أليس مخجلا أن أحد كبار السياسيين لم يستطع الحديث عن المبادرة نصا وروحا، في حديث على إذاعة محلية “مستقلة”، وبدا غير عارف بمحتواها، ولم يستطع حتى الحديث عن فقرة واحدة منها، ولجأ بدلا من ذلك للتهجم على مسعود، مع أن الموضوع عن نص المبادرة، وليس عن شخص مسعود..؟!!

إن المواقف الانطباعية، والأفكار المسبقة، وحساب الربح والخسارة، والدوران المستمر في فلك تصفية الحسابات السياسية المحلية، يوشك أن يقتل مبادرة مسعود، كما قتل قبلها أحلاما عديدة، ومشاريع وإرادات وطنية طموحة..

لقد انشغل حزب التحالف بالدفاع عن مسعود، بدل شرح المبادرة وتقديمها للناس وللرأي العام الوطني، الذي يجهل عنها كل شيء، تماما كما انشغلت أحزاب المعارضة في التهجم على مسعود، بدل إيضاح النقاط المرفوضة، أو البغيضة أو السيئة في مبادرته..!!

لقد عرفنا كل شيء عن مسعود..لكننا لم نعرف أي شيء عن مبادرته..!!

كان علينا جميعا أن نغادر مربعات الشخصنة والانتهازية والمعيارية السياسية، لنتدارس المبادرة بصدق، وبروح وطنية، فهي ليست مقدسة ولا منزهة ولا منزلة من السماء، ولذلك تحتمل التكذيب والنقض والرمي، لكنها أيضا ليست صحيفة مقاطعة، ولم يأت صاحبها شيئا إدا، وفيها على الأقل من الحكمة ورصانة اللغة العربية (الناصرية)، والخوف المبرر على مستقبل البلاد، ما يجعلها جديرة بالنقاش والقراءة والتمعن في الشكل والمضمون..!!

لنقرأ المبادرة قبل أن نقرأ مسعود، بل لنجلس في المساحة الفارغة بين مسعود والمبادرة، لنناقش معا، فنحن بحاجة لأية مبادرة من هذا النوع – بغض النظر عن صاحبها أو صاحبتها- قابلة للتطبيق ومنصفة وواقعية، وذات منطلقات وطنية جامعة – لا تقصى تيارا ولا فئة ولا رأيا – لنخرج من هذه الأزمة التي لا يكفى دس الرأس في الرمال لتجاوزها..!!

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى