من عندمَّا حتى “إنين”..!

قيل لعبد الملك بن مروان استهل برأسك الشيب قبل أوانه! فقال:” لكثرة اعتلائي المنابر، واجتنابي اللحن.”

لقد كانت الفصاحة، عبر العصور الميزة الأساسية لرجل الدولة صاحب المشروع السياسي الطامح إلى إقناع الجموع الغفيرة بخطابه. فاشتهر زعماء سياسيون بفصاحتهم التي بنوا عليها نجاحهم السياسي. فكان بركليس في اليونان زعيما سياسيا يسحر الناس بخطبه فيتبنون آراءه. واستخدم السفسطائيون فن الخطابة لتحقيق أغراضهم. ثم جاء أرسطو فنظَّر لهذا الفن في تأليف خاص.

أما عند العرب فقد احتلت الخطابة مكانة مرموقة، فكان العي من أكبر العيوب المانعة من الرياسة. وكانت الفصاحة والخطابة من صفات الفتوة المؤهلة للرياسة. وقد اشتهر من خطباء العرب وساستها زياد بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان، و الحجاج بن يوسف الثقفي. ولا يزال النشء يحفظ خطبة طارق بن زياد في جنده عند عبوره المضيق الذي حمل اسمه. واليوم، يقال إن فصاحة أوباما ساهمت بقسط وافر في نجاحه بفترته الأولى.

لكننا حين نستمع إلى خطابات زعماء معارضتنا نجدهم يتساوون في العي فلا يكاد أحدهم يبين سواء تجرؤوا على لغة قريش، أو أوغلوا في لهجة بني حسان! والغريب أنهم لا يستشعرون عيهم فيكثرون من المهرجانات التي يسمونها “خطابية” والخطابة منها براء! فالأجدر تسميتها مهرجانات صوتية، أو كلامية، إذ ترتفع فيها الأصوات، ويقال فيها كلام كثير، أوله غيبة، ووسطه لغو، وآخره إفك…

ينطلق بعض الناس من مسجد المغرب في طريق الآلام؛ يتبختر القادة، ويتصايح العامة، خلافا لقوله تعالى ” واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”، حتى إذا وصلوا مسجد ابن عباس اعتلى القادة الخشبة وانفرط عقد الأنصار في الوهاد يستمعون منكرا من القول… نفس القول المكرر منذ اشتعال الفتنة؛ تحريض على الفوضى، ودعوة إلى التمرد. لقد ساد هذا الخطاب حتى نسي الناس أن الحزب السياسي ينبغي أن يكون له برنامج يدعو الناس إليه في مهرجاناته، وندواته. لكن مهرجانات معارضتنا كلها سلب.. وضع البلاد كارثي. ماذا تقترحون؟ لاشيء! لقد سئل رئيس المنسقية الحالي في لقاء تلفزيوني عن برنامج حزبه الاقتصادي. فقال إن لديهم خطوطا عريضة فقط لأنهم لا يمارسون التسيير! وهو بذلك يرى أن البرنامج يخلق أثناء التسيير، وليس التسيير تنفيذا للبرنامج!

هذا الهوس بالتسيير يجعل المطلب الأول للمعارضة تأليف حكومة وحدة وطنية تشظي المؤسسات العمومية إلى إقطاعيات حزبية كما حدث في حكومة الزين ولد زيدان، وحكومة ولد الوقف. ونفس الهوس هو الذي يذكي الصراع بين أقطاب المعارضة، فيدعي كل حزب أنه أكثر ناصرا وأعز نفرا. ظهر ذلك جليا في المهرجانات المنفصلة التي استعرض فيها كل حزب قوته الانتخابية وقدرته التنظيمية. وظهر أكثر في آخر مهرجان للمنسقية حيث تقاعست الأحزاب الرئيسة في المعارضة عن التعبئة للمهرجان، كل حسب حساباته الخاصة. فقد تقاعس الإخوان عن الحشد للمهرجان حتى يظهر أقل من حشد مهرجانهم الأخير، فيدعون بذلك أن أنصارهم أكثر عددا من المعارضة مجتمعة. وتقاعست الأحزاب الأخرى حتى لا يبدو الرئيس الجديد للمنسقية أكثر قدرة على حشد الجماهير من الرؤساء الذين توالوا قبله. لهذه الأسباب جاء الحشد هزيلا؛ خمسة آلاف في أحسن تقدير!

تميز المهرجان ببروز “خطيب” جديد يكيل الشتائم، ويتوعد… كل ذلك بلهجة حسانية غاية في الركاكة. يتوعد “الخطيب” بصيغة عجيبة، مثلت لازمة في كلامه، فيردد بين الجملة والجملة ” إنين “. وهي كلمة سوقية، يستخدم الناس بدلا منها “إلين”، وهي الصيغة الحسانية لـ “إلى أن”.

يلازم خطاب المعارضة الركاكة في الأسلوب، والبذاءة في المضمون. فقد نشر حزب تكتل القوى الديمقراطية بيانا، قال فيه إنه “… في أشد أنواع الأسى والحزن لتدني المستوى الأخلاقي لرئيس الدولة.” لو صدر هذا الكلام عن “الغلام المشرف بالبذاءة” لما التفت إليه أحد، لكن صدوره عن حزب مثل التكتل يجعل قارئه يشعر بالحزن والأسى للمستوى الأخلاقي الذي تردى فيه خطاب الحزب. فتجريح الأشخاص العاديين فعل مدان أحرى أن يكون المستهدف رئيس دولة، ورمز شعب ينبغي أن يحظى بالاحترام من قبل مواطنيه سواء كانوا في الموالاة، أو في المعارضة.

لكننا حين نتابع قراءة البيان نكتشف أن الشتيمة ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي مستوى في التعبير لا يستهجنه أصحابه لعدم إدراكهم لمساوئه بسبب جهل اللغة التي كتبوه بها، أو ترجموه إليها. يظهر ذلك في قولهم..”… الدول الأخرى التي يتواجد على أراضيها شهود وعناصر العصابة الدولية.” فقد أضاف البيان الشهود إلى العصابة! وبذلك قال الحقيقة دون أن يقصد إليها؛ فالشهود المزعومون أفراد في العصابة حقيقة، والقصة كلها فبركة ركيكة يقف خلفها تاجر أسلحة كسدت سوقه بعد الحرب في شمال مالي، حيث كان يرعى الإرهاب…

انساقت المعارضة خلف تصريحات نويل مامير، وعدتها حقائق، وطالبت بالتحقيق، وأعلنت الإدانة… حتى إذا تراجع مامير عن أقواله، واتهم المعارضة بتوظيفها، التزمت المعارضة الصمت، ولم تطالب النائب الفرنسي بالاعتذار للشعب الموريتاني الذي اتهم رئيسه بأبشع التهم دون دليل. واليوم تلهث المعارضة خلف أسطورة جديدة سينكشف زيفها، وتصمت المعارضة “عندمَّا” لا يعود توظيفها مجديا، وتنتظر على أحر من الجمر “إنين” يزودها أفاق بكذبة جديدة…

سيدي محمد ولد ابه

sidimoha@yahoo.fr