بين نزوات المحاباة وشراسة الأنا

أول ما يتبادر إلى ذهن الأجنبي الذي يزور موريتانيا – مهما كانت جنسيته – وهو يرى تلك الفوضى العارمة التي تسود حركة المرور في شوارع انواكشوط، هو غياب النظام والقانون والمسؤولية.
فأغلب السائقين لا يعبؤون بإشارات المرور، ولا بسعة الأرصفة، ولا بنظم الأسبقية، ولا حتى بشرطي المرور.. لا يهمهم سوى المضي إلى الأمام مهما كلف ذلك وبأي طريقة كانت.. لا فرق بين الطرق الرئيسية وتلك الجانبية.. لا عبرة باليمين والشمال ولا بالاتجاهات عند التجاوز أو التقاء الطرق..
وعندما يزور ضيفنا المحلات العمومية من متاجر وبنوك وإدارات، يلاحظ أن جل العملاء يتزاحمون في سباق محموم نحو إشباع رغباتهم الأنانية، دون اكتراث بضروريات النظام وسلوكيات الطابور ومبادئ احترام الآخر. وكأن كل واحد منهم يبحث عن “حظوة ما” تخلصه من “متاهات” التأقلم مع متطلبات الشأن العام، وتميزه عن “التساوي” مع السواد الأعظم من الناس.
حتى في بيوت الله، لا خشوع ولا حرمة يمنعان من التسابق نحو أبواب المساجد وصفوف الصلاة أيام الجمعة. وكأن النهي عن تخطي الرقاب غير موجه إلى كل مصل على حدة، وكأن تصرفاته هو بالذات لا يمكن أن تندرج في خانة الممنوع شرعا وعرفا..
كل موريتاني إلا من رحم ربك يبحث عن التميز عن الآخرين، وإن تطلب الأمر أحيانا محاباتهم والاقتباس من تجاربهم الشخصية، لا لشيء إلا لعدم تقبل تميزهم عنه، إذ ما يهمه بالدرجة الأولى هو ملء فراغ داخلي خلقته تراكمات مركبات النقص ونزوات الرغبة في إثبات الذات.
فعندما نرى تعدد المتاجر في حيز سوقي ضيق، وتكاثر الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والمنابر الإعلامية في حيز ديمغرافي غير متناسب، ندرك أن شراسة الأنا ونزوة المحاباة تطغيان في مجتمعنا على اعتبارات المعادلة بين الطلب والعرض وبين الحاجة وإرضائها.
إن من شهد إقبال الموريتانيين مؤخرا على التنقيب عن الذهب السطحي في صحاري إينشيري الشاسعة وصخور البراكنه المترامية، وما صاحب ذلك الإقبال من تهافت وازدحام وهمجية، يدرك أن اللاشعور الجمعي لساكنة هذا “البرزخ المنكبي” مشحون بالنرجسية إلى حد الجنون.. فلم يحدث أن حبا الله أحدهم ببضعة غرامات من المعدن النفيس في غوير ضيق إلا وبادر الآخرون إلى محاصرته بالحفر والخيام والسيارات حتى يندم أن قد ولدته أمه..
ومن ألقى نظرة موضوعية على ما تشهده مناقصات الصفقات العمومية اليوم من إغراق للأسعار وغزارة في العروض، أدت إلى وأد العديد من المؤسسات الخصوصية النشطة وذوي الخبرات المعروفين، وسط تواطئ مكشوف من بعض الدوائر الحكومية، يتوصل إلى النتيجة ذاتها وهي لاعقلانية التنافس في هذا المجتمع المريض..
كل شيء عندنا يوحي بتضخم العرض والمحاباة والأنانية : الدكاكين، البقالات، المجمعات، المخابز، الصيدليات، العيادات الخاصة، الأحزاب، الجمعيات، الصحف، المواقع، القنوات، مكاتب الدراسات، “برص” السيارات، الوكالات العقارية، المدارس الخاصة، حوانيت النساء، سيارات الأجرة… حتى باعة رصيد الهواتف وموزعو الخبز المتجولون… فوضى خصوصية في فوضى عمومية… إلى متى؟

بقلم : عبد الله إسماعبل
استشاري أعمال وتسويق

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى