مقترحات عملية لتدعيم الوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية

08-29.jpgتعيش بلادنا مرحلة خاصة من تاريخها السياسي تتسم بإجماع وطني حول الرئيس المنتخب الذي استطاع بفضل خطابه الجامع وانفتاحه على جل التشكيلات السياسية الوازنة من خلق إطار جديد للتفاهم والتقارب بين معظم القوي الوطنية الحية. وقد يؤسس هذا الإجماع لعهد جديد من ممارسة السلطة سمته الهدوء وتحمل المسؤولية من طرف مختلف الفاعلين السياسيين اتجاه المصلحة الوطنية. ولعلنا أمام فرصة ثمينة لمعالجة مختلف الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عرفتها بلادنا منذ تأسيس الجمهورية إذا ما وفق أصحاب القرار في انتهاج أسلوب جديد يرتكز على الشفافية في التسيير والكفاءة والاستقامة في اختيار المسئولين والحرص على مشاركة الكل في تسيير الشأن العام تلبية لتطلعات المواطنين نحو المزيد من الاستقرار والإزهار وتجدر الإشارة إلى أن الإمكانيات المادية والمعنوية لبلادنا كافية للنهوض بها نحو مصاف الدول النامية إذا ما توفرت الخطط الناجعة و الأرضية الملائمة للتغلب على أهم الصعاب التي لا زالت ماثلة أمامنا. وفي نظري تحتاج قضايا الوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية، وإصلاح الإدارة والمنظومة التربوية، والحد من البطالة وإرساء أسس حقيقية لنهضة اقتصادية إلى عناية خاصة في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ بلادنا. ولا شك أن تدعيم الوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية ليشكل الركيزة الأساسية لبناء مجتمع منسجم فكريا ومتكامل اقتصاديا. وتحقيقا لهذا الهدف يتعين في نظري القيام بإجراءات عملية تلامس تعهدات السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني فى هذا المجال ولعل من أهمها:

المشاركة العادلة لمختلف المكونات في تسير الشأن العام: عرفت بلادنا منذ بداية التجربة الديمقراطية تدهورا شاملا لقيم الإدارة وغياب معتبر لتطبيق المعايير الموضوعية لانتقاء أصحاب الكفاءة والخبرة لتسيير الشأن العام. فأصبحت المحسوبية والقبلية والولاء السياسي هي المعايير الأساسية للاكتتاب أو تقلد المناصب الحكومية أو التدرج الوظيفي. وساهم انتشار هذه الممارسات في تدهور خدمات الإدارة الوطنية وشعور أبناء بعض المكونات بالتهميش والإقصاء. ولعل رؤية السيد الرئيس التي مهدت لتشكيل الحكومة الحالية بداية موفقة للقضاء على الإحساس المتنامي بالتهميش والغبن لدى أبناء بعض المكونات الهامة من الشعب الموريتاني. ولبناء مجتمع أكثر انسجام وتماسك وللمساهمة في القضاء على خطاب الكراهية والتطرف بين الأوساط الشبابية التي تعيش واقعا اقتصاديا صعبا فإنه من الضروري تعميم هذه الرؤية شكلا ومضمونا على كافة أجهزة الدولة وإداراتها حتى تجد كل مكونة ذاتها. وعلى القطاع الخاص وقادة الرأي المشاركة في هذا المجهود الوطني التضامني سعيا إلى تقوية اللحمة الوطنية و زرع الثقة بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني.

العمل على الحد من الفوارق الاقتصادية: عانت بلادنا منذ عدة عقود من ظاهرة الجفاف أو التصحر التي أثرت سلبا على المصادر الطبيعة للثروة الزراعية والحيوانية. و أدت النتائج المتلاحقة لهذه الظاهرة وضعف السياسات الحكومية إلى انتشار الفقر في جل المناطق الريفية التي كانت خزانا معتبرا للاكتفاء الغذائي والاستقرار الاجتماعي. وفي نظري يعتبر التركيز على الزراعة والتنمية الحيوانية ضرورة ملحة للحد من الفوارق الاقتصادية ودعم الوحدة الوطنية وتحقيق الاكتفاء الغذائي والتأسيس لاقتصاد قوي قادر على الوقوف أمام المنافسة القوية لاقتصاديات دول شبه المنطقة. وتحقيقا لهذا الهدف يتعين تشجيع الاستثمار الزراعي والتنموي في المناطق الأكثر فقرا بتوفير المقومات الأساسية من استصلاح ترابي وتوفير للمصادر المائية والدعم المالي المباشر للمزارعين في المناطق الأكثر فقرا على عموم التراب الوطني. فلا يمكن أن يستقيم أمرنا ما لم يكن ريفنا مصدرا لتأمين غذائنا. وتطبيقا لهذا التوجه يجب وضع معايير عادلة لانتقاء على سبيل المثال مائة ألف أسرة الأكثر فقرا على مستوى المناطق الزراعية الأكثر خصوبة ومنح كل أسرة مبلغ شهري رمزي لا يقل عن عشرة ألف أوقية قديمة كتحفيز وسند مالي لمزاولة الزراعة والاستقرار في أماكن الإنتاج بتأطير ومراقبة من المصالح الفنية للوزارات المختصة التي يتعين عليها اكتتاب عشرات المرشدين والمهندسين الزراعيين للنهوض بهذا القطاع نحو المستوى المطلوب. وتتجلى هنا أهمية إنشاء مؤسسة وطنية لتسويق المنتجات الزراعية الوطنية تتكفل بصيانة وتسويق الفائض من المحاصيل الزراعية حتى نتمكن من خلق نهضة زراعية قادرة على البقاء والمنافسة. وسيساهم هذا الإجراء في محاربة الفقر والتحكم في أسعار المواد الغذائية والحد من البطالة وإنعاش اقتصاد المناطق الريفية. كما سيؤسس لصناعات غذائية قادرة على المساهمة في الرفع من مستوى النمو الاقتصادي لبلادنا و تخفيف أضرار المنافسة التي ستزداد حدة بعد اندماج بلادنا في مختلف التكتلات الجيوسياسية المحيطة.

المعالجة نهائية وشاملة لملف العبودية في بلادنا: دأبت الحكومات المتتالية على انتهاج أسلوب يفتقد على العموم لرزانة والحنكة في معالجة مشكل العبودية، هذه الظاهرة التي تشكل عائقا هاما أمام انسجام المجتمع وتحرير طاقاته نحو المزيد من الوحدة والازدهار. ولذلك نحتاج إلى المزيد من الجدية والصرامة لمعالجة هذه المشكلة التى لا زالت تمارس فى بعض الاوساط المحدودة. وعليه يتعين القيام بمسح شامل على عموم التراب الوطني لحالات الاسترقاق أو شبه الاسترقاق قصد وضع حد لها وغلق هذا الباب حتى لا يكون مطية لتأجيج الصراعات البينة وتغزيم صورة بلادنا دوليا. وعلى المنظمات الدولية والمحلية العاملة في هذا المجال المساهمة ماديا ومعنويا في القضاء على هذه الممارسة. وبهذا التصرف تأخذ السلطات دورها الحقيقي المدافع عن المتضررين بعيدا عن الصراع مع المنظمات الحقوقية وحينها يحق الحق ويتضح الباطل.

إعادة هيكلة قطاع الإعلام: لقد ساهمت وسائل الإعلام عبر التاريخ في بناء مجتمعات وترقيتها كما استغلت أيضا لتأجيج الحروب ونشر الخراب في مجتمعات أخري. ولذلك يلعب قطاع الإعلام دورا محوريا في تقدم الأمم وتطورها، فهو الوسيلة المثلي لتوعية الشعوب وتهذيبها نحو التحكم فى مصيرها. ولا يخفى على أحد مدى الفوضوية التى وصل إليها هذا القطاع في بلادنا رغم تواجد بعض الكفاءات الوطنية الجادة. ولذلك من الضروري والعاجل العمل على تنظيم هذا القطاع شكلا ومضمونا حتى يكون رافعة حقيقية للتآلف والتآخي بين مختلف أبناء الشعب. وحتى يكتسب هذا القطاع المصداقية المفقودة لا بد من نهج جديد يضمن الحرفية في الاختيار والنزاهة في التسيير والعدالة في ترجمة التنوع الثقافي والعرقي لشعبنا.

تشجيع التمازج الاجتماعي: ساهم غياب سياسة واضحة للتمازج والتآلف الاجتماعي إلى انتشار ثقافة تصادمية في الأوساط الشبابية والتي ترقي في بعض الأحيان إلى الكراهية والتطرف، وتصحيحا لهذا الخلل يتعين اتخاذ إجراءات ملموسة لتشجيع السكن المشترك والعيش المشترك بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني ومحاربة الممارسات والفعاليات الممجدة لمكون دون أخر والعمل على صهرها فى غالبها الوطني. كما يتعين عبر منظومتنا التربوية والتعليمية تمجيد التمازج الاجتماعي لما يحقق من تكامل فكري وضمان للاستقرار المجتمعي.

وفي النهاية تبقي الوحدة الوطنية والتآخي بين مكونات الشعب الموريتاني مطلب شرعي يستدعي منا جميعا العمل على تأسيس نظام يكرس المشاركة الفعلية لكل الموريتانيين في تسيير الشأن العام والاستفادة من خيرات الوطن. إن أفضل هدية نقدمها للأجيال الصاعدة هي بناء فكر نير يؤمن بضرورة العيش المشترك بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني في جو من الأخوة والمحبة والتضامن الاجتماعي.

البروفسير شامخ امبارك

أستاذ بجامعة نواكشوط

قبل إكمال الموضوع أسفله يمكنكم الإطلاع على موضوعات أخرى للنفس المحرر

زر الذهاب إلى الأعلى